ينتج العقل مفارقاته حينما يحشر في أدمغة أدمنت الإثارة
المحدودة بفعل التفكير السّيئ وكذلك الموروث كتراث جماعي.. الحديث عن الموقف من
التراث لا أهمية له مادام لا أحد من أهل الحداثة التفتوا إلى أنّ المناطق التي
تتحرك في الدماغ هي نفسها لدى أهل التراث وأهل الحداثة معا. هي المناطق المثارة في
التفكير سواء عند ابن سينا أو ديكارت.
يبقى أنّ من مهام الفيلسوف اليوم أن يعكّر صفو هذا الميتوس المخادع الذي تنتجه الميديولوجيا. لأنّ أصل التفلسف هو التّأمل - لنتذكّر التأملات الديكارتية التي شكلت المنعطف الرسمي للتاريخ الحديث - والتأمل هو عدو التكرار الذي تعتمده الميديولوجيا في تربية العقل على الجمود.. لأنّ الأخبار تصبح هنا غذاء عقليّا فاسدا يمتحي من ذات الصناعة وهو لا يتوفر على الفيتامينات الضرورية لنموّ العقل النقدي.. في قلب هذه السياسة التي هي وسيلة إمبريالية للتحجير على الدماغ البشري تجد نفسك أمام قدر اختلاق صور تشبه هولوغرام مشوّه. تتحرر الصورة من المادة لكنها في هذا السياق تعترضها صور زائفة تملأ فراغ الصور الحقيقية. فالواقع اليوم يشبه فيلما تتصارع فيه صور ثلاثية الأبعاد، تسعى الرداءة لاحتلال مكان الصور الحقيقية.. مجال معرّض لفيروس صوري يربك نظام الأشياء في عالم يصنع ككل عالم افتراضي.. ويبدو الكل في حالة سبات. لا شيء أصيل وحقيقي. المكان مكتظّ بالزّيف. بالتكرار الميديولوجي تتكرس نصوص سطحية وشخوص حمقاء ولصوص مخاتلة. الميديولوجيا تسعى إلى إنتاج بديل عن الواقع.. وهذا لعمري ما يفسّر موقف بودريار من موت الواقع.. واقع تكمن مرارته في هذا الزيف الذي كلما ازداد شعورك به نتج عنه ملل وخيبة أمل. فالوجود المنطقي والسعيد تفسده لعبة صناعة الزّيف لأنّ أساطيرنا تكاد تكون هي الأردأ من بين كل أساطير الأوّلين. أنت اليوم لست أمام واقع تتوالد فيه الحقيقة وفق مسارات منطقية، بل أنت أمام أشباح يولدون في مزارع الزيف والوهم. أشباح تشبه فيلما مرعبا من قيامة أهل القبور ومطاردتهم للأحياء أو تلك الكائنات المستذئِـبَـة التي تحتل المدين في الليالي المقمرة.. أمام هذا الوضع تتراجع عضوية المثقف وشجاعته إلاّ ما نذر. يصعب عليه تقبل واقع يجري على خلاف منطق الأشياء.. ينزوي المثقف وبهذا الموقف يساهم في تمرير مغالطة واقع يصنع بمنطق افتراضي.. ينزوي المثقف الحقيقي وهو عاضّ على ما هو أصيل. بينما يستمر الزيف مع أجيال من الأشباح التي تتغنّى بمجد مستحيل التصنيف. المؤامرة على الدماغ البشري لها أدواتها من قلب الرداءة الساكنة في كل الشعوب.. لكل مجتمع منسوبه من الرداءة.. وإقصاء المثقف الحقيقي يتمّ عادة بملأ المشهد بالعته الفكري والبدائل السندبادية التي تذكي فضول أطفال يجهلون لعبة الميديا ومن وراء الميديا. تتطور تقنية الوسائط وفنونها بالقدر الذي يتراجع فيه المضمون. هذا يحدث في الفكر والفن والسياسة. يموت المثقف كمدا لأنه عاش عمرا ليس صيادا لجوائز بل عاش على محنة التفكير وقلقه، حين يجد في نهاية المطاف أنّ أشباحا ستسرق أدواره وتبرهن عبر كل طرق الرداءة بأنّ الحقيقة هي هذا الواقع بما هو مجال لاغتيال الحقيقة وتمكين الزيف من احتلال مكانتها في عالم يسكنه كائن خفيف لا تحتمل خفته بتعبير ميلان كونديرا..
وظيفة الفلسفة بما هي التأمل والمساءلة النقدية هي في إحداث الثورة الكبرى والدائمة على الزّيف.. على الفوضى التي تسبق إنتاج الرداءة.. على ثورات العبيد المفتعلة التي توهم النّاس بأنّ الحياة مستمرة.. الفيلسوف لا يشعر بالسعادة في وسط هذا الفيلم الافتراضي. أنظر سترى من حولك صناعة زائفة لفكر يتكرر كأنّ لا أصل له.. زمن قتْل الأصيل وتمكين الرديء.. زمن التَّـداني بالعقل إلى سفحِ التفاهة.. زمن يسلك على طريق التمسْرح لا التأمّل.. زمن التكرار..
ادريس هاني:23/12/2017
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق