لنـتْـرك التحليلات الجيو-سياسية
جانبا؛ فقد تزاحَـمَت فينا الأخبار وارتـبَـكت الرؤيا بفِعل سَيْل الخطابات
الطائفية وتبادل الأحقاد فيما بين الجماعات السياسية وفيما بين الجماعات الدينية
والمذهبية. نعم، فـرَّقَـنـا أكثر من ملفٍ وساحةٍ وحربٍ. اختلفنا على سوريا، على
اليمن، على لبنان، على العراق، إلخ، لكن فلسطين- لأنها فلسطين- تَجمعنا.
لـنُـمْسك بهذه اللحظـة، عَسَـانـا نـنعم ببعض
الهدوء الذهني والسلم الداخلي والصفاء الروحي. فلسطين جامعةٌ. فلسطين تُـطَهِّر
أحقادنا وتُـنقِــذ روحنا الجماعية من التلوث بإرادة الجريمة. فلسطين تُــعَـلمنا.
هذا ليس كلاما إنشائيا، هذه حقيقة لها مصاديقٌ عدة.
وهذه قصتي مع فلسطين.
لم تكن فلسطين يوما شيئا آخر على
هامش وجودي. عرَفتها وأنا طفل. حينها كانتْ فكرةً مجردةً، أتلمسُّها في أغاني مارسيل
خليفة وفيروز. ولـمَّا كان أخي الأكبر، لْحسَنْ، يذكُــر فلسطين بخشوعِ مُصَلٍ،
كنتُ آخُذ عنه بخشوع طفولي. عمِل على أن تكون فلسطين حاضرة في البيت، كلوحة، كصورة
وكموضوع نقاش، فـأخذتُ عنه القضية كإحساس دافئ رَشَح في لاوعيِـي قبل أن أعرفها
بوَعي. في سنة 1991، انفجرَت بمدينتي انتفاضة ضد النظام الرسمي العربي لمــَّا
قُـصِفَ العراق من قبل تحالف العدوان الدولي[1]. خَـرَج الشباب بالكوفية، رَفعُوا
الرايات، أطلقوا الشعارات، حَرَقوا الإطارات، قطعوا الطرقات ورَمُوا سيارات الشرطة
بالحجارة. حينها اختلط علي الأمر: العراق أم فلسطين؟ تداخل هذا مع ذاك، وانضاف
عليه شيء آخر التَـقَطْـتْه ساعتئذ: أمريكا عدو! حاولت اختزال كل هذه التفاصيل التي
تكبرني ويَـضيق بها عقلي في عنوان كبير لتستقر أفكاري، فتشبَّثت بحبلِ نجاة: الصراع
يدور حول فلسطين. وحسناً فَعَلتُ!
في الخامسة عشر من عمري، ارتديت
قميصا رياضيا يحمل صورة القدس، فحملت القدس معي في ملاعب كرة القدم. القميص رقم 2.
ثم لم يمض وقت طويل حتى قرأت النص التالي: «في الكون أرض.. وفي الأرض فلسطين.. وفي
فلسطين حيفا.. وفي حيفا شوارع.. وفي الشوارع مظاهرات.. وفي المظاهرات شباب.. وفي
الشباب قلب.. وفي القلب رصاصة.. وفي الرصاصة استشهاد.. وفي الاستشهاد جنة.. إلخ»،
فأمسى هذا النص دستور القضية بالنسبة لي، فارتقى وعْـيِــي بها إلى مستوى قضايا
التحرير الوطني، حيث أمسى الاستشهاد في سبيل الأوطان رمزَ بطولة وإباء. في السادسة
عشر، رأيت فلسطين عبر شاشات العالم. في الثامنة عشر من عمري، قرأت كُـتبا ومقالات فحدثني
عن المجازر والضحايا والشهداء. ثم قرأت درويش، فحدثني عن الأم كبرى. في سنة 2000،
وتفاعلا مع الانتفاضة الثانية، نظَّمت، مع زملاء لي في الثانوية (أذكر اسمينِ:
زكرياء وهاجر) لقاءات ثقافية حول فلسطين (كان حينها أول عرض شفهي أُقَدِّمه)
وجمعـنا، بِــمَعية لـُـجَينة تلاميذية، المال لفلسطين وأرسلناه عبر حساب وَضعته
جهة خيرية لا أتذكر اسمها (أرجو أن يكونوا قدَّموا جزءا منه لفائدة الجناح العسكري
للمقاومة، حتى أكون قد نِلت شرَف تسميتي على قائمة "الإرهاب" الأمريكية
والإسرائيلية!). بعد ذلك مباشرة، وتفاعلا وتضامنا مع الانتفاضة الثانية، أطْلَقْتُ
مع بعض الزملاء تظاهرةً احتجاجية، رفعنا خلالها شعارات ضد الأنظمة العربية
وأمريكا، ثم تحَّولت إلى أعمال شغبٍ لذيذٍ داخل وخارج ثانوية موسى بن نصير. الأمر
الذي استدعى تدخل قوات الشُّرطة. لم نُعتقل. وأعلَـنْنَا أنفسنا منتصِرِين، خاصة
وأن أحَـدنا أصاب مدير المدرسة، السيد أبوعمار، ببرتقالة على صدره (ليُسامحنا هو
وابنته، الصديقة العزيزة الدكتورة أسماء، التي سبقَ وأن اعـتـرَفْتُ لها بجرمنا
الصغير هذا فأطلقَتْ ضحكة مُتسامِـحة)، كما أننا تمكنا من التمرد على حارسٍ عامٍ هناك،
كُـنا نَعتبره رمزا للشطط في استعمال السلطة اتجاه التلاميذ. كان هذا تعريفنا
البسيط للنصر حينها: الخروج عن ضوابط المدرسة وروتـيـنهـا وشططِ بعض رجالها وإطلاقُ
عُرس نضالي يصِل المدرسة بالشارع المغربي والعربي والفلسطيني. هكذا، أمست قضية
فلسطين التزاما، وهكذا كانت مدرسةً داخل المدرسة.
كبُرت فلسطين في عقلي. وصارت نشرات
الأخبار وجبـَـة يومية تستغرق ساعات في الصباح وساعات في المساء (الجزيرة،
العربية، المنار،...). أتابع القنوات الفضائية حين تُـتابع فلسطين وأهجرها إذا
هجرتها. وعبرها تعَرَّفْت على مواقف وخطابات وتحليلاتٍ لرجال ونساء كُـثـر
(البرغوتي، عشراوي، الرنتيسي، قريع، شعت، سعدات، قريعات، الرجوب، البطريرك عطا
الله، تـميـم،... أي الثوريون منهم ومن يصنفون أنفسهم معتدلين). حاول الشهيد الشيخ
أحمد ياسين، بهدوئه، أن يَـعْقِل التزامي بالقضية. لكني خرقت هدوءه ونفَذْت إلى قلبه،
فلم أجد غير كلمة واحدة: الانتفاضة. مكثت لديه، آخذ عنه الدرس تلو الدرس، وكان أهمها:
الانتفاضة مشروعٌ لا تاكتيكا. قدَحَ غضبي الثوري الشهيد عبد العزيز الرنتيسي، فتأرجحتُ
بين الحب والغضب والوعي، إلى أن حازت القضية لَـدَيَّ حجما ما عُدت أستطيع السيطرة
عليه. كان الأمر أشبه بسرطانٍ حميدٍ يتضخم عميقا في اللاوعي والوعي معا. وكانت إسرائيل
الغُدَّة الخبيثة. عَلَّمني هذا الإمام الخميني الذي كنت حينها قد اقـتَـنعت وأُعْـجِبت
بالتزامه المبدئي بالقضية. وعلى الرغم من أنه كان رمز الشيعة الكبير، قفزت بوعيٍ وحْدوي
فوق شيعيتِه لأُعَانق حبَّه اللامشروط لفلسطين، كامل فلسطين. التقيت مع الخميني
حين تقاطع مع فلسطين، وقادَنـي التزامه إلى خيوط كبرى في اللُّعبة الدولية وسياسة
المحاور وثقافة الممانعة. ولما أطلقَ شعاره المقدس: الموت لأمريكا! رددت معه وكتبت:
الموت لأمريكا! فقدْ أعادني شعاره إلى طفولتي وذكرياتي السياسية الأولى؛ تحديدا
إلى حرب أمريكا على العراق وإشرافها على اتفاق أوسلو. مع الخميني، أمسى ياسر عرفات
أصغر مما هو فعلا (أرجو أن يغفر تقديري هذا. لأنني لاحقا، بعد استشهاده، أحببته أكثر
بِـأخطائه بعد أن اقتنعت أن فلسطين بلا ياسر فلسطين أقل جمالا). في 2006، نُشر أول
مقال لي على جريدة ورقية. لم تكن صُدفة أن يكون موضوعه فلسطين. كما لم يكن صدفة أن
تكون أول رواية أقرأها تتمحور حول فلسطين («عـمَر يظهر في القدس» لنجيب الكيلاني).
ولم يكن أيضا صدفة أن تكون أول رواية أذرف دموعا بين سطورها رواية وضعَت كاتبتها
اليد على بعض تفاصيل المأساة الفلسطينية وقضايا التحرر العربي («ذاكرة الجسد»
لأحلام مستغانمي). بين 2000 و2006، تمحورت اهتماماتي على القضية، إنسانيا، سياسيا،
علميا. شاركت في التظاهرات الطلابية، الثقافية والاحتجاجـية. ونزَلت إلى الشارع
العام لمـَّا بلغتني نداءاته. تارة مُنفعلا وغاضبا بكوفية فلسطينية، وتارة أكثر هدوء
بعين ملاحظ. فهنا بدأت، كلما أحسست بضرورة ما، أرتدي قبعة الباحث في القضايا
الإقليمية والاستراتيجية. ولذا، في هذه الفترة، كتبتُ أكثر على القضية. كتبت على الانتخابات
الفلسطينية، على المقاومة المسلحة، على علاقة الصراع العربي-الإسرائيلي بسياسة
المحاور الإقليمية والدولية، على حرب الأربعة وثلاثين يوما (34) بين حزب الله
والكيان الإسرائيلي صيف 2006 وعلاقة ذلك بالقضية. كما كَـتَـبت عن اعتداءات هذا
الكيان ضد غزة وعلَّـقْت على انسحابه منها في زهوِ شريكٍ منتصرٍ.
تضخَّم "السرطان"
الحميد، فصِرت أرى نفسي فلسطينيا. وأطلقت شعاري الصغير: «بلدي المغرب، عاصمتي
فلسطين»! فـهنا، ما عادت فلسطين قضية صراع فحسب، بل قضية أخلاق بامتياز، أخلاق الإنسانية
جمعاء، وقضية العقل الذي يعقِل ولا يعقِل، وقضيةٌ في قلب علاقة الحداثة بهامشها.
وكلما اشتد الظلم على الإنسان
هناك، وأمست فلسطين مأساة المأساة، كلما أحسست بالحاجة إلى أن أضم صوتي إلى آخرين
للتأكيد أن: «فلسطين هي البوصلة»، ولا بَـقينا إذا لم نـكن حيث تـكون هي. ولهذا، صَلَّـيْـت
من أجل أن تبقى حية لتكتب تاريخ المستضعفين المنتصرين. فالكذب الصهيوني سطحي على
صفحة التاريخ، بينما القضية العادلة عميقة كالأسطورة وجـلِـية كالحقيقة أو أكثــرَ
قليلا.
أسعفني هذا الموقف في تفكيك التباسات
الربيع العربي (هنا أيضا أنقذتني فلسطين). فَـلَـمَّا كتبتُ عن الربيع العربي فعلت
ذلك بمنطِق البركار: رِجلٌ ثابتة على أرضية القضية ورجل على ما سواها، عين على
الحق التاريخي وعين على المعطيات الكثيفة، المتقاطعة، المتناقضة. لهذا لم أغرق
كثيرا. وبقيتُ أتنفس وأفكر فوق جرح الربيع العربي الذي أمسى جرحي كذلك. فَـكَّرت
من فوق هذا الجرح الصغير بعد أن ربطته بالجرح الكبير، فكان تفكيري أبعد من
الطائفية والمذهبية والتطبيعية. مدَّتْ فلسطين يدها لي وأخرجتني سريعا من شِراك
التخندق السريع والحِـقد الدفين والمـــُـنْـفَلت بين الأشقاء الذين أمسوا أعداء. التــزمتُ
منظور «مصلحة العرب حيث تكون مصلحة فلسطين»، إلى أن انقشع الطريق عن الكثير من
المفاهيم: العربي والأعرابي، صديق القضية وعدوها وصديق عدوها، الحليف وحليف
الحليف، المسلم والمتأسلم، الداعشي بالطبيعة والداعشي بالفعل، اليساري الأممي
واليساري آكل الهامبرغر، العاشق للتحرر الوطني والـمُـهَـرول نحو التطبيع، إلى آخر
التـمييزات الضرورية في هذا العالم الـملتبس.
في تنسيقـية حركة 20 فبراير (فرع
مدينتي)، احتفلنا بنصر المقاومة في صدها للعدوان الإسرائيلي على غزة سنة 2012.
أراد أحدهم إفساد هذه الفرحة من خلال الادعاء بأن الحفل يُـعـتبر في عمقه احتفاء
بحركة حـماس ذات التوجه الإسلامي، أي مجرد انحياز أيديولوجي. أثار هذا التحليل
المغالط استيائي، وكان عزائي أن أحد المنظمين معي لهذا الحفل البسيط كان صديقي
اليساري الرائع، الشاعر والمترجم رشيد وحتي. ازدردنا الحلوى وتركناه يلـعَـق
السُّم، سُمَّه هو. لأن من يحب فلسطين يَجمع ولا يُفرق، يقاوم ولا يـحـقد، يَـصبر
ولا يَـفجُر، يُــنَاوِر ولا يَـنكسر،.. يـنـتـصر ويـعْفو.
في 2017، لم تكن صُـدفة أن يكون
إهداء أطروحتي موجها لكل عامل من أجل فلسطين، سواء في الداخل أو في الشتات أو في امتداد
القضية. وكان الإهداء متوقعا جدا، ولم أفكر فيه طويلا. كتبت: «إلى شهداء القضية الفلسطينية المقدسة، وإلى المقاومين والمناضلين
والنشطاء من أجل تحرير ذاكرتها وحلمها!». كان هذا اعترافا ضمنيا بما أعطتني فلسطين
على امتداد حياتي. ولهذا ربطتها مع حلمي الأساسي مُذ كان عـمري 19 سنة (الحصول على
الدكتوراه). ومن جميل الصُّدف، أن يتزامن تحقيق هذا الحلم الشخصي مع إطلاق
الانتفاضة الثالثة، التي أحِب أن أسميها بانتفاضة الوعي؛ لأنها حطَّمَت أطروحة
السلام الكاذب ومزّقَت مرجعيته المُفـلِسة (اتفاق أوسلو).
ها هي ذي الانتفاضة الثالثة! أنا
حاضر. أعيش تفاصيل القضية. أتربى بها. أكـبُر بالقضية وتكبر فيَّ القضيةُ للمرة
المليون، بلا ملل، بَلْ بـأمل أعمق من كل المحيطات وأبعد من مدى الخيال...
أُحِس بإنسانيتي تنمو كلما ناصرت فلسطين..
أحس برؤيتي تتسع كلما وصَلْت عقلي
بفلسطين..
الحرية لفلسطين!
23-12-2017
belahcenfouad@gmail.com
[1] - هي انتفاضةٌ لم تُذْكر، للأسف، في وثائقنا
المحلية لمدينة الخميسات- أذْكُـرها وأُذَكِّر بها هنا لَـعَلَّنا نستعيد بعض التفاصيل
الضائعة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق