فؤاد بلحسن
في محاولة الإجابة عن هذا السؤال، يمكن
الإنطلاق من الفرضيات التالية:
1-
لم تحقق الحركة حتى
الآن جميع أهدافها، و لذلك يستمر حضورها عبر آلية الضغط الشعبي من خلال الأعمال
الإحتجاجية، في الشارع بشكل رئيسي.
2-
عدم تحقيق الحركة جميع
أهدافها يرجع إلى ضعف استراتيجيتها التعبوية – في صفوف الجماهير و المكونات السياسية
و المدنية على السواء.
3-
ضعف التعبئة يرجع بشكل
رئيسي إلى وجود بعض الإختلالات على صعيد التدبير الداخلي للحركة و إلى تجاهلها
أوراق قوة النظام السياسي التي تضمن له الإستمرار و الإستقرار.
و ستُستثمر في ذلك،
كإطار نظري تفسيري، بعض الأدبيات المتعلقة بإشكالية الإنتقال الديمقراطي، بالأجندة
العمومية و بالتدبير بالأهداف.
أولا: الآن؛ بعد ستة أشهر من انطلاق دينامية
الحركة .. أو الواقع غير المقروء
·
مطالب الحركة في منزلة
بين منزلتين !
مقابلة مطالب الحركة؛ التي سطرتها عند
انطلاقتها؛ مع استجابات النظام السياسي و الواقع السوسيو-سياسي المغربي تعطي فكرة
واضحة أن مطالب الحركة، اليوم، توجد بمنزلة بين منزلتين !.
فقد
استجاب النظام السياسي (الملك، و باقي المؤسسات الدستورية) بطريقته على مطالب
الحركة (تعديل دستوري، تشغيل جزئي للمعطلين، الزيادة في أجور الموظفين و الشغيلة،
تثبيث نسبي للأسعار، ...)، دون أن يرقى ذلك إلى مستوى الإصلاح الجذري الذي يتناول
القضايا الكبرى للنهضة. وهكذا، سرعان ما بدت مختلف مبادرات النظام السياسي مجرد
تكتيكات لاستيعاب رجة الثورات العربية محليا.
فحتى التعديل الدستوري سجلت حوله العديد من
الثغرات على صعيد سيرورة إجرائه و من ثم نتائجه. فكان انطلاقة غير مشجعة في طريق
الإصلاح الجذري الذي أراد النظام السياسي أن يظهر أنه اختار سلوكه !
لقد كانت استجابات النظام ذكية في أكثر من
مناسبة (عدم اللجوء إلى العنف، إطلاق هامش أكبر من حريات التعبير اتجاه المؤسسات
الدستورية بما فيها المؤسسة الملكية، إطلاق ورش الإصلاح الدستوري، المبادرة إلى
توقيع اتفاقيات جماعية في إطار الحوار الإجتماعي مع النقابات و مجموعات المعطلين،
...)، لكن ذكائها ذاك لم يحجب حقيقة كبرى أمام الرأي العام، و خاصة مناضلي حركة 20
فبراير و أنصارهم، وهي أنه لم يتم الإستجابة لجميع مطالبهم و بالشكل المرغوب فيه.
في قراءتهم للدستور المغري الجديد، لا زال
هؤلاء يرون أننا أمام ملكية تنفيذية، لا فرق كبير بينها وبين تلك التي أسست لها
الدساتير السابقة.
و لا زالوا ينظرون في النظام السياسي نظاما
مخزنيا (بكل ما يحمل المفهوم من عمومية، و طبيعة تأويلية مفتوحة) يلجأ إلى العنف،
يحتكر السلطة و الثروة، لا يفصل بين السلطات و فاشل في سياساته التنموية.
إذا، البلاد، وفق هذا المنظور، لم تمضي بعيدا
عن المرحلة السابقة لتاريخ 20 فبراير !
لكن، بالمقابل، هذا لا يحجب حقيقة أخرى
بالموازاة مع ما قيل أعلاه، و هو أن مطالب الحركة هي أيضا عامة بدرجة كبيرة. و لا
شك أن وضع السياسات الخاصة بالإستجابة لها و تنزيلها على الأٍرض تحتاج إلى مراحل
زمنية طويلة (مثلا، تحقيق العدالة الإجتماعية، التوظيف الشامل، ... )، سواء كان واضعوا
هذه السياسات و منفذوها هم أنفسهم رجال النظام القائم أو ثوارا أو رجال إصلاح.
في خضم هذا النقاش، يمكن القول أن جميع الأطراف
بالبلاد بصدد تضييع فرصة كبرى عن الشعب المغربي، تتمثل في فتح حوار وطني جاد
حول سبل إجراء تحديث حقيقي للبلد.
لقد أخذ العهد الجديد فرصة طويلة للإصلاح، لكنه
أخفق في نهاية المطاف. ألم يكن هذا مؤشرا كافيا على أن ساعة النقاش العمومي
المفتوح بين جميع القوى السياسية و المدنية حول التوجهات الكبرى لتدبير البلد –
سياسيا، سوسيواقتصاديا و ثقافيا- قد حانت؟ !
عندما أعلنت الرجة الثورية العربية أن الوقت
وقت تقييم التجارب الدولتية في التحديث، أراد النظام المغربي أن يقدم خيارا أكثر
تقدمية كرد فعل على الرجة المذكورة. لكن الإصلاح الدستوري – الذي كان أهم أدوات
الرد- و الذي أريد منه أن يكون أول مؤشر على دخول مرحلة جديدة، شكل، في نظر
كثيرين، أول مؤشر على خطأ الإنطلاقة !
·
ثورية أم
إصلاحية ؟ !
و في صلب النقاش حول
المطالب و مدى تحقيقها، يقفز إلى السطح نقاش آخر: هل الحركة ثورية أم إصلاحية؟
في مقال سابق و منشور
للكاتب (حركة 20 فبراير و الغد القريب ... 7 أفكار للنقاش) تمت مناقشة، على هذا
الصعيد، مسائل من قبيل: حق الشعوب المطلق في الثورة على الإستبداد، اللحظة الثورية
في حياة الحراك المجتمعي، و غيرها من الأفكار التي يستحسن الرجوع إليها ، لكن يمكن
الإكتفاء هنا بتناول الفكرة التالية:
الإصلاح قد يرقى إلى
مستوى الثورة أو أكثر إذا ما ارتقت نتائجه إلى مستوى التحديث المرغوب فيه للشأن
العام. فمثلا، ما حققه لولا داسيلفا في البرازيل و رجب طيب أوردوكان في تركيا خلال
ولايتين فقط من حكمهما هو ثورة بلحاظ أثر فعلهما العام على السياسة، الإقتصاد و
الثقافة في بلديهما.
كما قد يمثل مطلب الثورة أنشودة للحالمين ليس
إلا، عندما يفتقد المطلب الراهنية الثورية، إذ أن الثورة مناخ و عمل - قبل أن تكون نوطة عزف و غناء !
فالسؤل الذي يجب أن تطرحه الحركة، بعد وضعها
لمطالبها الأساسية، هو: ماهي مداخل التغيير القائمة الآن؟. فلا مجال للسؤال هنا:
هل ستنجح الثورة أم لا؟. لأن شروط الثورة هي التي تحقق الثورة لا الرغبة في
الثورة. و إذا كان و لا بد من التفكير في الثورة، فالأولى التفكير في شروطها.
بعبارة
أخرى، السؤال الذي يجب أن تطرحه الحركة اليوم هو: ما هي التنازلات الذي يمكن إجبار
النظام السياسي القائم على تقديمها الآن لصالح تحديث الشأن العام، و التي من شأنها
التهييء لمرحلة جديدة من التنازلات في اتجاه تحقيق الأهداف/المطالب الأساسية
الكبرى؟.
و ليطمئن الجميع، فعلى تعبير المفكر عزمي
بشارة: النظام الذي لا يرغب في تغيير نفسه، يغيره الناس.
هذا السؤال يحيلنا إلى قضية التكتيك و
الإستراتيجيا في سلوك حركة 20 فبراير.
·
التكتيك و
الإستراتيجيا .. أو كيف نرسم خريطة طريق للفعل الإحتجاجي؟
في الواقع، يأتي الإرتباك الحاصل على صعيد الإختيار
بين: الثورة و الإصلاح لا إلى صعوبة في تقدير الأطراف داخل الحركة لمعطيات الواقع
(هل هي معطيات تؤشر على أوان الثورة أو لا؟)، و إنما إلى تشويش في ذهن هؤلاء: هل
نهيئ لواقع يتقاسم فيه الجميع البساط العام، أم نهيئ للواقع المرغوب وفق رغباتنا
الإيديولوجية؟
لقد سمعت ناشطة ماركسية في صفوف الحركة تقول:
أنا أؤمن و لا زلت بالحزب الوحيد، فهو الحل الوحيد لمشاكلنا القائمة. و سمعت كذلك
إسلاميا ناشطا في الحركة يقول: هذا النضال يترافق مع هدف أكبر بالنسبة لنا.
هذه مواقف لا تقل سوءا عن مواقف أولئك الذين
يعطلون من داخل النظام السياسي تحديث البلد.
الأحلام الإيديولوجية أمر ضروري و مشروع طبعا،
و لكن ماذا يريد الجميع لفائدة الجميع اليوم. هذا ما يجب أن يبدو واضحا منذ الوهلة
الأولى.
دعونا نقدم خللا آخر
على صعيد الوضوح و عدمه فيما يخص الخط النضالي للحركة.
كما سبقت الإشارة، إن مطالب الحركة الأساسية هي
مطالب مشروعة و وواقعية- لا غبار في ذلك. لكن، تنزيلها لا شك يحتاج إلى مرحلة
تاريخية لا إلى النزول إلى الشارع فقط (دون
أن تعني هذه العبارة أي انتقاص من القيمة الأخلاقية و الإحتجاجية لعمليات النزول
إلى الشارع للمطالبة بالحقوق والحريات). إذا ما العمل؟
قد يكون من الخطأ الإعتقاد أن النزول إلى
الشارع، و بأعداد كبيرة، سيحقق، آليا،
مطالب الحركة. هذا سوء فهم آخر لمفهوم النزول إلى الشارع و لمطالب الحركة على
السواء.
في اللحظات الإحتجاجية الإصلاحية ذات الطابع
الحقوقي و السياسي، يمثل النزول إلى الشارع وسيلة للضغط على صناع القرار بهدف كسب
تنازلات/ الدفع إلى وضع سياسات/ دعم قضية/ الدفع في اتجاه اختيار سياسي/ .. و
غيرها. و في اللحظات الثورية يكون الغرض من النزول إلى الشارع هو إسقاط النظام
لإرساء بديلا عنه. ففي جميع الأحوال، ليس
الغرض هو تحقيق المطالب فورا و حالا، و إنما إعادة توجيه الفعل العمومي (السياسات
العامة) لتحقيق تلك المطالب.
و ما بين تحديد المطالب و تحقيقها على الأرض، المطلوب
إحداث ثقوب في جدار السلطوية أيا كانت هذه السلطوية و أيا كان حجم هذا الثقب، عبر
طرق الأبواب المناسبة في اللحظة المناسبة.
عندما انفجرت قضايا الإنتهاكات الجسيمة لحقوق
الإنسان خلال فترة حكم محمد السادس - في إطار ما سمي بـملف "السلفية
الجهادية" - على أثر المجهودات الرئيسية للحركة (الشعارات أثناء المسيرات و
الوقفات؛ نزهة تمارة؛ نشر و توزيع ملفات إلكترونية على شبكات التواصل الإجتماعي،...)
و مجهودات بعض مكونات المجتمع المدني (اعتصامات أهالي السجناء و المعتقلين، مبادرات
فردية منددة بالتعذيب على شبكات الأنترنيت - على رأسها رسائل الفيديو للآنسة غزلان
المنددة بتعذيب السجناء و المعتقلين على موقع اليوتوب و صرخات السجناء أنفسهم من
داخل السجون و خارجها على نفس الموقع؛ صرخة بوشتى الشارف مثلا- مسيرات و وقفات خارج المغرب – على رأسها مسيرات حركة صرخة الشعب
المغربي بالولايات المتحدة. عندها، قال كثيرون أننا بصدد لحظة التعرية الكبرى
للرواية الرسمية في هذا الشأن و من ثم بداية الطي النهائي لملف الإنتهاكات؛ إذ أن
تولي الرأي العام له كان مؤشرا عاما على هكذا منحى.
لكن بعد الإنجاز الجزئي الذي توج تلك
المجهودات؛ و المتمثل في إطلاق سراح أزيد من 100 معتقل في نفس الملف؛ و قبيل
الإنتصار الكبير للرواية غير الرسمية - رواية المجتمع المدني- جاء الفشل
الذريع !. ففي لحظة، توقف دعم الحركة لسجناء و معتقلي
هذا الملف - في تزامن مع خطأ هؤلاء أنفسهم في الذكرى السنوية الثامنة لأحداث 16
ماي بدخولهم في مواجهات مع قوى الأمن بسجن سلا- فتحول الملف إلى قائمة الإنتظار
على هامش الأجندة الحكومية، بعد أن كان على رأسها.
·
قمع الأفكار
الجديدة؟ !
لقد راهنت حركة 20 فبراير و بشكل شبه تام على
الشارع، فسرعان ما تحول النزول إلى الشارع وسيلة و هدفا!.
فلا غرابة و لا مبالغة، إذن، في القول بأن الحركة قمعت و لا تزال – بشكل
غير مقصود طبعا – انبعاث أفكار جديدة في الإحتجاج، في المرافعة و في التواصل
الإجتماعي.
اختزلت الغاية من الحراك في النزول إلى الشارع عند
نهاية كل أسبوع، في غياب أهداف مرحلية يتم إعلانها و العمل من أجلها. لقد استبدت،
دون غيرها، على اللاوعي فكرة أن النزول إلى الشارع هو أقرب الطرق لتأزيم وضع
النظام. وبقيت الأسئلة التالية معلقة: بكم من الناس سننزل الشارع؟ لماذا سننزل
الشارع هذا الأسبوع و ليس الذي بعده؟ لماذا تراجع الرقم هنا و ارتفع هناك؟ ما هي
الأشكال المناسبة للنزول إلى الشارع في كل محطة من محطات الإحتجاجات؟
فقط الفراغ غير مسموح به !. و
هذا غير معقول في علم تدبير المنظمات الحديث.
فحتى المقاولة الخاصة لا تعمل فقط على سد
الفراغ القائم في سوق تداول السلع أو الخدمات، وإنما لتحقيق أهدافها العملياتية و
الإستراتيجية كذلك.
مثلا، في لحظات من تاريخ الحركة، كان الوقت هو
وقت تنظيم مسيرات وطنية، لا خروج جميع المدن مستقلة. هذه فكرة ظلت مقموعة لوقت
طويل. كما أن نزهة تمارة إلى المعتقل السري، بنفس المدينة، التي منعتها قوى الأمن،
و التي أثارت الكثير من النقاش على صعيدي وسائل الإعلام و الرأي العام، كان من
الواجب رفدها بوقفة أو مسيرة باتجاه البرلمان لدعم مشروع تشكيل لجنة تقصي الحقائق حول
نفس الموضوع الذي قدمته إحدى الكتل البرلمانية. و بذلك قمعت فكرة فتح ملف المعتقل
مرتين: مرة من قبل قوى الأمن و مرة أخرى من قبل الحركة ذاتها.
·
المنطقة
الرمادية !
الحاصل في المغرب - كما في الجزائر و الأردن
أيضا- أن القليل من القوى السياسية فقط هي التي انخرطت في دينامية الحركة. و يمكن
القول أن القوى السياسية المنخرطة في هذه الأخيرة ضعيفة نسبيا على صعيد جماهيريتها
و نفوذها داخل المؤسسات الدستورية القائمة.
وفي الواقع، ظلت الحركة تستهين بالثقل
الجماهيري و السياسي لباقي المكونات التي لم تتعاطف أو عارضت ديناميتها. لقد أساءت
الحركة تقدير حجمه هؤلاء، في نفس الوقت الذي أساءت تقدير دورهم في حفظ توازن
النظام السياسي. هذا في الوقت الذي راهن
عليهم النظام لضمان استقراره و للتحكم في حجم التنازلات لفائدة التغيير.
لم تفلح الحركة في إقناع و استقطاب أغلب المكونات الحزبية – حتى المعارضة
منها- و لذا لم يأخذ مطلب التغيير الزخم الذي أخذته التجارب التونسية، المصرية،
اليمنية و السورية.
بل، و من مفارقات التجربة المغربية، أن
المكونات الحزبية التي عارضت/تعارض الحركة هي نفسها المكونات الأكثر استفادة من
أثر ديناميتها على المشهد السياسي (لقد قوت دينامية الحركة القدرة التفاوضية
لهؤلاء في مقابل القصر، قدمت لهم تعديلات دستورية تمكنهم من حيازة سلطات جديدة سواء
على صعيد مؤسسة الحكومة أو البرلمان، و فسحت المجال أمام حضور أقوى لهم على صعيد
الإعلام الرسمي ومن تم قدرة مخاطبتهم للرأي العام، ...). فليس غريبا أن تكون الخشية
من أن يكون- و على خلاف كل ما جرى في باقي التجارب الثورية و المطالبة بالإصلاحات-
أهل الطلب أقل الناس استفادة من العطاء ... هذه هي المفارقة الكبرى !
أما الصغرى، فتتجلى في معاينة أن بعض القيادات
السياسية التي "حاربت" بشكل أو بآخر حركة 20 فبراير و كانت ملكية أكثر
من الملك في أكثر من موقف، أعلنت بغتة أنها في حالة التلاعب بالإرادة الشعبية خلال
الإنتخابات المقبلة سيصبحون و أنصارهم فبرايريون كذلك .. أي فبرايرون بشرط
موقوف!
(هذا مع العلم أن بعض أعضاء نفس أحزاب تلك
القياديات كانوا فبرايريين بلا شرط منذ الوهلة الأولى لانطلاق دينامية الحركة).
و لا مزايدة في قول أن تلك القوى اختارت المنطقة
الرمادية التي تتموقع بين دينامية الحركة و فعل النظام المضاد لهذه الدينامية. ففي
اللحظات الكبرى، ينقسم الناس غالبا إلى قسمين، و يبقى المترددون يتحسسون، في جنبات
المنعطفات، ميلان ميزان القوى و ميزان المصالح.
ثانيا: الرهان .. أو عمل الغد المفتوح
·
الفعالية الداخلية .. الخطوة
الضرورية
فكرة
الحركة المفتوحة فكرة تحتاج لبعض النقاش !
فأن تجعل
من الحركة تنظيما مفتوحا لجميع المكونات و القناعات و الأشخاص لا يعني أن تجازف بأمنها
الداخلي. لا يحتاج الأمر إلى إجراء ترجيح بين هذا و ذاك، و لكن إلى أن تجعل من
الأمن الداخلي المذكور حدا لفكرة الإنفتاح.
حتى الآن،
لا تتوفر فروع الحركة على أنظمة داخلية
للتنظيم و التسيير. لهذا، كثيرا ما شكلت اجتماعات هذه الفروع فرصة لضياع الكثير من
الوقت، إثارة الفوضى و تكريس الإنقسامات الداخلية. والأمَـر من ذلك، أنها قليلا،
ما كانت محفزة لإبداع أفكار جديدة !
فمثلا،
بقيت مسألة شروط تعبئة الجماهير و التواصل مع المكونات السياسية و المدنية للتعريف
ببعض القضايا أو الحشد لها نقطة ثانوية في الأشغال الداخلية لمكاتب الفروع. و
لهذا، يجب أن نقرأ عبارة إلهام حسوني التي عانقت حريتها مؤخرا بكثير من التدقيق،
حيث قالت: "مظاهرات الحركة في هذه الفترة يجب ألا تكون مظاهرات لرفع المطالب
بقدر ما تكون مظاهرات لتعبئة الجماهير و تأطيرها و تحقيق حشد كمي يمكن أن يساهم في
الرفع من نوعية المطالب" ( حوار؛ جريدة أخبار اليوم المغربية؛ 18-08-2011).
أمام
الحركة تحدي إيجاد شروط عمل داخلية محفزة على خلق أفكار جديدة من شأنها إيجاد روح
جديدة للفعل الإحتجاجي. و لا يمكن أن يتم ذلك إلا بإيجاد تمييز واضح بين:
-
الأهداف العامة للحركة و الأهداف المرحلية و
العملية التي تميز كل شوط نضالي.
-
فكرة الحركة المفتوحة
استنادا على فعالية التنظيم الداخلي و الحركة المفتوحة استنادا على مفهوم فوضوي
للإنفتاح.
-
الخصم، الصديق و "العدو".
·
التحدي الكبير: تكريس
الثقافة الجديدة
الرغبة في خلق واقع جديد يجب أن تمشي في تواز مع العمل على خلق ثقافة بديلة.
و بدون مبالغة، يمكن القول ان اللحظة المغربية
اليوم هي لحظة ثقافية بامتياز.
فالمشهد الثقافي الذي بدأ يتشكل بفعل دينامية حركة
20 فبراير مشهد جديد و حيوي، و هذه بعض عناصره:
-
فتح النقاش العام حول قضايا
كبرى: الإصلاحات الدستورية؛ تقليص سلطات الملك؛ العلاقة بين السلطة و الثروة؛ طرح
نظام سياسي بديل يضمن الفصل بين السلطات و يقابل المسؤولية بالمحاسبة على جميع
مستويات هرم السلطة؛ ...
-
تنزيل السياسة بقوة
إلى الشارع عبر آلية الإجتجاج ذو الطابع السياسي و الحقوقي، و من تم دفع العديد من
المواطنين إلى إعلان مطالبهم و عرض انتقاداته تحت ضوء الشمس ..
-
إعادة ترتيب قائمة
المواضيع التي يناقشها الناس و يستفسرون حولها، بل و يتم تصنبفهم على ضوء مواقفهم.
و هي ملاحظة تصدق على قائمة المواضيع التي تتناولها الصحافة كذلك.
-
جعل الحرية و الكرامة و
آلية الديمقراطية قيم محورية في الإجتماع السياسي.
-
... إلخ
بتاريخ 24 غشت
2011 ، قمت بكتابة بعض الكلمات المفاتيح على محرك البحث الإلكتروني غوغل فكانت
النتائج التي قدمها المحرك بخصوص كل كلمة على الشكل التالي:
-
حركة 20 فبراير:
15.700.000 نتيجة،
-
محمد السادس:
25.500.000 نتيجة،
-
حزب الإستقلال:
4.930.000 نتيجة،
-
الإتحاد الإشتراكي:
3.555.000 نتيجة،
-
العدالة و التنمية:
8.430.000 نتيجة،
-
(«العدالة و التنمية +
المغرب» أو «العدالة و التنمية المغربي»: 3.750.000 نتيجة)
-
العدل و الإحسان:
3.510.000 نتيجة،
-
اليسار الإشتراكي
الموحد: 401.000 نتيجة،
-
حزب الأصالة و
المعاصرة: 707.000 نتيجة.
إذن، بعد ست أشهر فقط من نشأتها، يمكن ملاحظة
العدد الكبير للنتائج المحصل عليها بشأنها على الغوغل بالمقارنة مع مكونات أخرى
لها وزنها في المشهد السياسي للبلد، و هو عدد يمكن أن يعتبر مؤشرا على كثافة
النقاش الذي رافق دينامية هذه الحركة.
و السؤال الذي يطرح على الحركة اليوم، هو كيف
يمكنها تكريس هذه الثقافة الجديدة من جهة، وكيف تصون المكتسبات على هذا الصعيد من
جهة أخرى؟
هذه بعض عناصر الإجابة – كأمثلة:
- الإستمرار في دعم التوجه الذي يمثل عملية نقد
لكل أشكال السلطوية، بالدعوة إلى تقنين ممارستها، محاسبة رجالها، و احترام
المنافسة و المشاركة فيها، و ذلك لإنهاء الإنفراد بممارسة الهيمنة.
- صيانة القدرة على التعبئة الجماهيرية من أجل /
ضد قضايا و أشخاص و ممارسات.
- الإحتفاظ بجميع مجموعات التواصل الإجتماعي و
المواقع الإلكترونية التي تتبنى الثقافة الجديدة و العمل على تنشيطها أكثر استنادا
إلى استراتيجيات تواصلية واضحة.
- نسج علاقات تعاون مع هيئات المجتمع المدني –
مستقلة و غبر مستقلة- و دعم مبادراتها الرامية إلى حماية المجتمع و تحصينه ضد
الإستبداد و الفساد (الهيئات الحقوقية، الهيئات المهنية، الهيئات الممثلة
للمعطلين، الهيئات المحاربة للرشوة و الحامية للمستهلك، المراكز الفكرية الداعمة
للديمقراطية، ...) .
- العمل على إسقاط كل الموانع التي تحول دون
تحقيق ديموقراطية كاملة، من خلال التركيز و العمل على إبعاد الشخصيات المساندة
للسلطوية، إلغاء و تعديل الأنظمة القانونية – الدستور؛ القوانين الإنتخابية؛ قانون
الصحافة؛ قوانين المراقبة السياسية و المالية؛ القوانين المرتبطة باستقلال القضاء،
...- و الدعوة إلى إدخال تعديلات عميقة على المؤسسات الإدارية و على رأسها
المؤسسات الأمنية.
- العمل على عودة النقاش حول «مشكل الجلاد:
المتابعة و العقاب أم الصفح والنسيان؟ !» بعد أن جربت البلاد - و فشلت- فكرة الصفح
عنه و عدم معاقبة جرائم الماضي كشرط من شروط الإنتقال الديمقراطي استنادا على مبرر
"أن ترسيخ الديمقراطية أهم من معاقبة الأفراد". فعودة النقاش اليوم
سيكون خدمة كبيرة للتوجه الديمقراطي و لمبدأ الفصل بين السلط. خاصة و أن عودة
الإنتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان في العهد الجديد تمثل ضريبة نؤديها جميعا بسبب
عدم إيجادنا لضمانات عدم الإرتكاس، فسرعان ما بدا أن الدور الذي أدته هيئة الإنصاف
و المصالحة كان مجرد دور تأريخي لفترة من فترات انتهاك حقوق الإنسان (عمل أرشفة)
أكثر منه دورا انتقاليا للخروج من مرحلة إلى
أخرى على غرار ما وقع ببعض الدول اللاتينية.
-
و رمزيا، يمثل إعلان تاريخ 20 فبراير كعيد وطني
للحرية و الكرامة، ينزل فيه المواطنون إلى الشوارع سنويا للتعبير عن مواقفهم
السياسية و الإجتماعية و يكرسون من خلال ذلك وجود الثقافة المجتمعية الجديدة.
-
تشجيع النخب الفكرية و السياسية التي من
شأنها تحفيز دينامية الحركة، عبر تنظيم
التظاهرات الثقافية.
- العمل
على إيجاد و استمرار رأي عام واسع مساند لدينامية الحركة الحقوقية و السياسية.
-
...
الرهان على الثقافة الجديدة هو الرهان الأكبر
في عمل الحركة. فلا يجب أن ننسى أن مستوى الثقافة الديمقراطية، مثلا، يعتبر مؤشرا
لقياس مدى متانة نظام ديمقراطي معين و لقياس فرص نجاح سيرورات الإنتقال نحو
الديمقراطية كذلك.
في محاولة الإجابة عن هذا السؤال، يمكن
الإنطلاق من الفرضيات التالية:
1-
لم تحقق الحركة حتى
الآن جميع أهدافها، و لذلك يستمر حضورها عبر آلية الضغط الشعبي من خلال الأعمال
الإحتجاجية، في الشارع بشكل رئيسي.
2-
عدم تحقيق الحركة جميع
أهدافها يرجع إلى ضعف استراتيجيتها التعبوية – في صفوف الجماهير و المكونات السياسية
و المدنية على السواء.
3-
ضعف التعبئة يرجع بشكل
رئيسي إلى وجود بعض الإختلالات على صعيد التدبير الداخلي للحركة و إلى تجاهلها
أوراق قوة النظام السياسي التي تضمن له الإستمرار و الإستقرار.
و ستُستثمر في ذلك،
كإطار نظري تفسيري، بعض الأدبيات المتعلقة بإشكالية الإنتقال الديمقراطي، بالأجندة
العمومية و بالتدبير بالأهداف.
أولا: الآن؛ بعد ستة أشهر من انطلاق دينامية
الحركة .. أو الواقع غير المقروء
·
مطالب الحركة في منزلة
بين منزلتين !
مقابلة مطالب الحركة؛ التي سطرتها عند
انطلاقتها؛ مع استجابات النظام السياسي و الواقع السوسيو-سياسي المغربي تعطي فكرة
واضحة أن مطالب الحركة، اليوم، توجد بمنزلة بين منزلتين !.
فقد
استجاب النظام السياسي (الملك، و باقي المؤسسات الدستورية) بطريقته على مطالب
الحركة (تعديل دستوري، تشغيل جزئي للمعطلين، الزيادة في أجور الموظفين و الشغيلة،
تثبيث نسبي للأسعار، ...)، دون أن يرقى ذلك إلى مستوى الإصلاح الجذري الذي يتناول
القضايا الكبرى للنهضة. وهكذا، سرعان ما بدت مختلف مبادرات النظام السياسي مجرد
تكتيكات لاستيعاب رجة الثورات العربية محليا.
فحتى التعديل الدستوري سجلت حوله العديد من
الثغرات على صعيد سيرورة إجرائه و من ثم نتائجه. فكان انطلاقة غير مشجعة في طريق
الإصلاح الجذري الذي أراد النظام السياسي أن يظهر أنه اختار سلوكه !
لقد كانت استجابات النظام ذكية في أكثر من
مناسبة (عدم اللجوء إلى العنف، إطلاق هامش أكبر من حريات التعبير اتجاه المؤسسات
الدستورية بما فيها المؤسسة الملكية، إطلاق ورش الإصلاح الدستوري، المبادرة إلى
توقيع اتفاقيات جماعية في إطار الحوار الإجتماعي مع النقابات و مجموعات المعطلين،
...)، لكن ذكائها ذاك لم يحجب حقيقة كبرى أمام الرأي العام، و خاصة مناضلي حركة 20
فبراير و أنصارهم، وهي أنه لم يتم الإستجابة لجميع مطالبهم و بالشكل المرغوب فيه.
في قراءتهم للدستور المغري الجديد، لا زال
هؤلاء يرون أننا أمام ملكية تنفيذية، لا فرق كبير بينها وبين تلك التي أسست لها
الدساتير السابقة.
و لا زالوا ينظرون في النظام السياسي نظاما
مخزنيا (بكل ما يحمل المفهوم من عمومية، و طبيعة تأويلية مفتوحة) يلجأ إلى العنف،
يحتكر السلطة و الثروة، لا يفصل بين السلطات و فاشل في سياساته التنموية.
إذا، البلاد، وفق هذا المنظور، لم تمضي بعيدا
عن المرحلة السابقة لتاريخ 20 فبراير !
لكن، بالمقابل، هذا لا يحجب حقيقة أخرى
بالموازاة مع ما قيل أعلاه، و هو أن مطالب الحركة هي أيضا عامة بدرجة كبيرة. و لا
شك أن وضع السياسات الخاصة بالإستجابة لها و تنزيلها على الأٍرض تحتاج إلى مراحل
زمنية طويلة (مثلا، تحقيق العدالة الإجتماعية، التوظيف الشامل، ... )، سواء كان واضعوا
هذه السياسات و منفذوها هم أنفسهم رجال النظام القائم أو ثوارا أو رجال إصلاح.
في خضم هذا النقاش، يمكن القول أن جميع الأطراف
بالبلاد بصدد تضييع فرصة كبرى عن الشعب المغربي، تتمثل في فتح حوار وطني جاد
حول سبل إجراء تحديث حقيقي للبلد.
لقد أخذ العهد الجديد فرصة طويلة للإصلاح، لكنه
أخفق في نهاية المطاف. ألم يكن هذا مؤشرا كافيا على أن ساعة النقاش العمومي
المفتوح بين جميع القوى السياسية و المدنية حول التوجهات الكبرى لتدبير البلد –
سياسيا، سوسيواقتصاديا و ثقافيا- قد حانت؟ !
عندما أعلنت الرجة الثورية العربية أن الوقت
وقت تقييم التجارب الدولتية في التحديث، أراد النظام المغربي أن يقدم خيارا أكثر
تقدمية كرد فعل على الرجة المذكورة. لكن الإصلاح الدستوري – الذي كان أهم أدوات
الرد- و الذي أريد منه أن يكون أول مؤشر على دخول مرحلة جديدة، شكل، في نظر
كثيرين، أول مؤشر على خطأ الإنطلاقة !
·
ثورية أم
إصلاحية ؟ !
و في صلب النقاش حول
المطالب و مدى تحقيقها، يقفز إلى السطح نقاش آخر: هل الحركة ثورية أم إصلاحية؟
في مقال سابق و منشور
للكاتب (حركة 20 فبراير و الغد القريب ... 7 أفكار للنقاش) تمت مناقشة، على هذا
الصعيد، مسائل من قبيل: حق الشعوب المطلق في الثورة على الإستبداد، اللحظة الثورية
في حياة الحراك المجتمعي، و غيرها من الأفكار التي يستحسن الرجوع إليها ، لكن يمكن
الإكتفاء هنا بتناول الفكرة التالية:
الإصلاح قد يرقى إلى
مستوى الثورة أو أكثر إذا ما ارتقت نتائجه إلى مستوى التحديث المرغوب فيه للشأن
العام. فمثلا، ما حققه لولا داسيلفا في البرازيل و رجب طيب أوردوكان في تركيا خلال
ولايتين فقط من حكمهما هو ثورة بلحاظ أثر فعلهما العام على السياسة، الإقتصاد و
الثقافة في بلديهما.
كما قد يمثل مطلب الثورة أنشودة للحالمين ليس
إلا، عندما يفتقد المطلب الراهنية الثورية، إذ أن الثورة مناخ و عمل - قبل أن تكون نوطة عزف و غناء !
فالسؤل الذي يجب أن تطرحه الحركة، بعد وضعها
لمطالبها الأساسية، هو: ماهي مداخل التغيير القائمة الآن؟. فلا مجال للسؤال هنا:
هل ستنجح الثورة أم لا؟. لأن شروط الثورة هي التي تحقق الثورة لا الرغبة في
الثورة. و إذا كان و لا بد من التفكير في الثورة، فالأولى التفكير في شروطها.
بعبارة
أخرى، السؤال الذي يجب أن تطرحه الحركة اليوم هو: ما هي التنازلات الذي يمكن إجبار
النظام السياسي القائم على تقديمها الآن لصالح تحديث الشأن العام، و التي من شأنها
التهييء لمرحلة جديدة من التنازلات في اتجاه تحقيق الأهداف/المطالب الأساسية
الكبرى؟.
و ليطمئن الجميع، فعلى تعبير المفكر عزمي
بشارة: النظام الذي لا يرغب في تغيير نفسه، يغيره الناس.
هذا السؤال يحيلنا إلى قضية التكتيك و
الإستراتيجيا في سلوك حركة 20 فبراير.
·
التكتيك و
الإستراتيجيا .. أو كيف نرسم خريطة طريق للفعل الإحتجاجي؟
في الواقع، يأتي الإرتباك الحاصل على صعيد الإختيار
بين: الثورة و الإصلاح لا إلى صعوبة في تقدير الأطراف داخل الحركة لمعطيات الواقع
(هل هي معطيات تؤشر على أوان الثورة أو لا؟)، و إنما إلى تشويش في ذهن هؤلاء: هل
نهيئ لواقع يتقاسم فيه الجميع البساط العام، أم نهيئ للواقع المرغوب وفق رغباتنا
الإيديولوجية؟
لقد سمعت ناشطة ماركسية في صفوف الحركة تقول:
أنا أؤمن و لا زلت بالحزب الوحيد، فهو الحل الوحيد لمشاكلنا القائمة. و سمعت كذلك
إسلاميا ناشطا في الحركة يقول: هذا النضال يترافق مع هدف أكبر بالنسبة لنا.
هذه مواقف لا تقل سوءا عن مواقف أولئك الذين
يعطلون من داخل النظام السياسي تحديث البلد.
الأحلام الإيديولوجية أمر ضروري و مشروع طبعا،
و لكن ماذا يريد الجميع لفائدة الجميع اليوم. هذا ما يجب أن يبدو واضحا منذ الوهلة
الأولى.
دعونا نقدم خللا آخر
على صعيد الوضوح و عدمه فيما يخص الخط النضالي للحركة.
كما سبقت الإشارة، إن مطالب الحركة الأساسية هي
مطالب مشروعة و وواقعية- لا غبار في ذلك. لكن، تنزيلها لا شك يحتاج إلى مرحلة
تاريخية لا إلى النزول إلى الشارع فقط (دون
أن تعني هذه العبارة أي انتقاص من القيمة الأخلاقية و الإحتجاجية لعمليات النزول
إلى الشارع للمطالبة بالحقوق والحريات). إذا ما العمل؟
قد يكون من الخطأ الإعتقاد أن النزول إلى
الشارع، و بأعداد كبيرة، سيحقق، آليا،
مطالب الحركة. هذا سوء فهم آخر لمفهوم النزول إلى الشارع و لمطالب الحركة على
السواء.
في اللحظات الإحتجاجية الإصلاحية ذات الطابع
الحقوقي و السياسي، يمثل النزول إلى الشارع وسيلة للضغط على صناع القرار بهدف كسب
تنازلات/ الدفع إلى وضع سياسات/ دعم قضية/ الدفع في اتجاه اختيار سياسي/ .. و
غيرها. و في اللحظات الثورية يكون الغرض من النزول إلى الشارع هو إسقاط النظام
لإرساء بديلا عنه. ففي جميع الأحوال، ليس
الغرض هو تحقيق المطالب فورا و حالا، و إنما إعادة توجيه الفعل العمومي (السياسات
العامة) لتحقيق تلك المطالب.
و ما بين تحديد المطالب و تحقيقها على الأرض، المطلوب
إحداث ثقوب في جدار السلطوية أيا كانت هذه السلطوية و أيا كان حجم هذا الثقب، عبر
طرق الأبواب المناسبة في اللحظة المناسبة.
عندما انفجرت قضايا الإنتهاكات الجسيمة لحقوق
الإنسان خلال فترة حكم محمد السادس - في إطار ما سمي بـملف "السلفية
الجهادية" - على أثر المجهودات الرئيسية للحركة (الشعارات أثناء المسيرات و
الوقفات؛ نزهة تمارة؛ نشر و توزيع ملفات إلكترونية على شبكات التواصل الإجتماعي،...)
و مجهودات بعض مكونات المجتمع المدني (اعتصامات أهالي السجناء و المعتقلين، مبادرات
فردية منددة بالتعذيب على شبكات الأنترنيت - على رأسها رسائل الفيديو للآنسة غزلان
المنددة بتعذيب السجناء و المعتقلين على موقع اليوتوب و صرخات السجناء أنفسهم من
داخل السجون و خارجها على نفس الموقع؛ صرخة بوشتى الشارف مثلا- مسيرات و وقفات خارج المغرب – على رأسها مسيرات حركة صرخة الشعب
المغربي بالولايات المتحدة. عندها، قال كثيرون أننا بصدد لحظة التعرية الكبرى
للرواية الرسمية في هذا الشأن و من ثم بداية الطي النهائي لملف الإنتهاكات؛ إذ أن
تولي الرأي العام له كان مؤشرا عاما على هكذا منحى.
لكن بعد الإنجاز الجزئي الذي توج تلك
المجهودات؛ و المتمثل في إطلاق سراح أزيد من 100 معتقل في نفس الملف؛ و قبيل
الإنتصار الكبير للرواية غير الرسمية - رواية المجتمع المدني- جاء الفشل
الذريع !. ففي لحظة، توقف دعم الحركة لسجناء و معتقلي
هذا الملف - في تزامن مع خطأ هؤلاء أنفسهم في الذكرى السنوية الثامنة لأحداث 16
ماي بدخولهم في مواجهات مع قوى الأمن بسجن سلا- فتحول الملف إلى قائمة الإنتظار
على هامش الأجندة الحكومية، بعد أن كان على رأسها.
·
قمع الأفكار
الجديدة؟ !
لقد راهنت حركة 20 فبراير و بشكل شبه تام على
الشارع، فسرعان ما تحول النزول إلى الشارع وسيلة و هدفا!.
فلا غرابة و لا مبالغة، إذن، في القول بأن الحركة قمعت و لا تزال – بشكل
غير مقصود طبعا – انبعاث أفكار جديدة في الإحتجاج، في المرافعة و في التواصل
الإجتماعي.
اختزلت الغاية من الحراك في النزول إلى الشارع عند
نهاية كل أسبوع، في غياب أهداف مرحلية يتم إعلانها و العمل من أجلها. لقد استبدت،
دون غيرها، على اللاوعي فكرة أن النزول إلى الشارع هو أقرب الطرق لتأزيم وضع
النظام. وبقيت الأسئلة التالية معلقة: بكم من الناس سننزل الشارع؟ لماذا سننزل
الشارع هذا الأسبوع و ليس الذي بعده؟ لماذا تراجع الرقم هنا و ارتفع هناك؟ ما هي
الأشكال المناسبة للنزول إلى الشارع في كل محطة من محطات الإحتجاجات؟
فقط الفراغ غير مسموح به !. و
هذا غير معقول في علم تدبير المنظمات الحديث.
فحتى المقاولة الخاصة لا تعمل فقط على سد
الفراغ القائم في سوق تداول السلع أو الخدمات، وإنما لتحقيق أهدافها العملياتية و
الإستراتيجية كذلك.
مثلا، في لحظات من تاريخ الحركة، كان الوقت هو
وقت تنظيم مسيرات وطنية، لا خروج جميع المدن مستقلة. هذه فكرة ظلت مقموعة لوقت
طويل. كما أن نزهة تمارة إلى المعتقل السري، بنفس المدينة، التي منعتها قوى الأمن،
و التي أثارت الكثير من النقاش على صعيدي وسائل الإعلام و الرأي العام، كان من
الواجب رفدها بوقفة أو مسيرة باتجاه البرلمان لدعم مشروع تشكيل لجنة تقصي الحقائق حول
نفس الموضوع الذي قدمته إحدى الكتل البرلمانية. و بذلك قمعت فكرة فتح ملف المعتقل
مرتين: مرة من قبل قوى الأمن و مرة أخرى من قبل الحركة ذاتها.
·
المنطقة
الرمادية !
الحاصل في المغرب - كما في الجزائر و الأردن
أيضا- أن القليل من القوى السياسية فقط هي التي انخرطت في دينامية الحركة. و يمكن
القول أن القوى السياسية المنخرطة في هذه الأخيرة ضعيفة نسبيا على صعيد جماهيريتها
و نفوذها داخل المؤسسات الدستورية القائمة.
وفي الواقع، ظلت الحركة تستهين بالثقل
الجماهيري و السياسي لباقي المكونات التي لم تتعاطف أو عارضت ديناميتها. لقد أساءت
الحركة تقدير حجمه هؤلاء، في نفس الوقت الذي أساءت تقدير دورهم في حفظ توازن
النظام السياسي. هذا في الوقت الذي راهن
عليهم النظام لضمان استقراره و للتحكم في حجم التنازلات لفائدة التغيير.
لم تفلح الحركة في إقناع و استقطاب أغلب المكونات الحزبية – حتى المعارضة
منها- و لذا لم يأخذ مطلب التغيير الزخم الذي أخذته التجارب التونسية، المصرية،
اليمنية و السورية.
بل، و من مفارقات التجربة المغربية، أن
المكونات الحزبية التي عارضت/تعارض الحركة هي نفسها المكونات الأكثر استفادة من
أثر ديناميتها على المشهد السياسي (لقد قوت دينامية الحركة القدرة التفاوضية
لهؤلاء في مقابل القصر، قدمت لهم تعديلات دستورية تمكنهم من حيازة سلطات جديدة سواء
على صعيد مؤسسة الحكومة أو البرلمان، و فسحت المجال أمام حضور أقوى لهم على صعيد
الإعلام الرسمي ومن تم قدرة مخاطبتهم للرأي العام، ...). فليس غريبا أن تكون الخشية
من أن يكون- و على خلاف كل ما جرى في باقي التجارب الثورية و المطالبة بالإصلاحات-
أهل الطلب أقل الناس استفادة من العطاء ... هذه هي المفارقة الكبرى !
أما الصغرى، فتتجلى في معاينة أن بعض القيادات
السياسية التي "حاربت" بشكل أو بآخر حركة 20 فبراير و كانت ملكية أكثر
من الملك في أكثر من موقف، أعلنت بغتة أنها في حالة التلاعب بالإرادة الشعبية خلال
الإنتخابات المقبلة سيصبحون و أنصارهم فبرايريون كذلك .. أي فبرايرون بشرط
موقوف!
(هذا مع العلم أن بعض أعضاء نفس أحزاب تلك
القياديات كانوا فبرايريين بلا شرط منذ الوهلة الأولى لانطلاق دينامية الحركة).
و لا مزايدة في قول أن تلك القوى اختارت المنطقة
الرمادية التي تتموقع بين دينامية الحركة و فعل النظام المضاد لهذه الدينامية. ففي
اللحظات الكبرى، ينقسم الناس غالبا إلى قسمين، و يبقى المترددون يتحسسون، في جنبات
المنعطفات، ميلان ميزان القوى و ميزان المصالح.
ثانيا: الرهان .. أو عمل الغد المفتوح
·
الفعالية الداخلية .. الخطوة
الضرورية
فكرة
الحركة المفتوحة فكرة تحتاج لبعض النقاش !
فأن تجعل
من الحركة تنظيما مفتوحا لجميع المكونات و القناعات و الأشخاص لا يعني أن تجازف بأمنها
الداخلي. لا يحتاج الأمر إلى إجراء ترجيح بين هذا و ذاك، و لكن إلى أن تجعل من
الأمن الداخلي المذكور حدا لفكرة الإنفتاح.
حتى الآن،
لا تتوفر فروع الحركة على أنظمة داخلية
للتنظيم و التسيير. لهذا، كثيرا ما شكلت اجتماعات هذه الفروع فرصة لضياع الكثير من
الوقت، إثارة الفوضى و تكريس الإنقسامات الداخلية. والأمَـر من ذلك، أنها قليلا،
ما كانت محفزة لإبداع أفكار جديدة !
فمثلا،
بقيت مسألة شروط تعبئة الجماهير و التواصل مع المكونات السياسية و المدنية للتعريف
ببعض القضايا أو الحشد لها نقطة ثانوية في الأشغال الداخلية لمكاتب الفروع. و
لهذا، يجب أن نقرأ عبارة إلهام حسوني التي عانقت حريتها مؤخرا بكثير من التدقيق،
حيث قالت: "مظاهرات الحركة في هذه الفترة يجب ألا تكون مظاهرات لرفع المطالب
بقدر ما تكون مظاهرات لتعبئة الجماهير و تأطيرها و تحقيق حشد كمي يمكن أن يساهم في
الرفع من نوعية المطالب" ( حوار؛ جريدة أخبار اليوم المغربية؛ 18-08-2011).
أمام
الحركة تحدي إيجاد شروط عمل داخلية محفزة على خلق أفكار جديدة من شأنها إيجاد روح
جديدة للفعل الإحتجاجي. و لا يمكن أن يتم ذلك إلا بإيجاد تمييز واضح بين:
-
الأهداف العامة للحركة و الأهداف المرحلية و
العملية التي تميز كل شوط نضالي.
-
فكرة الحركة المفتوحة
استنادا على فعالية التنظيم الداخلي و الحركة المفتوحة استنادا على مفهوم فوضوي
للإنفتاح.
-
الخصم، الصديق و "العدو".
·
التحدي الكبير: تكريس
الثقافة الجديدة
الرغبة في خلق واقع جديد يجب أن تمشي في تواز مع العمل على خلق ثقافة بديلة.
و بدون مبالغة، يمكن القول ان اللحظة المغربية
اليوم هي لحظة ثقافية بامتياز.
فالمشهد الثقافي الذي بدأ يتشكل بفعل دينامية حركة
20 فبراير مشهد جديد و حيوي، و هذه بعض عناصره:
-
فتح النقاش العام حول قضايا
كبرى: الإصلاحات الدستورية؛ تقليص سلطات الملك؛ العلاقة بين السلطة و الثروة؛ طرح
نظام سياسي بديل يضمن الفصل بين السلطات و يقابل المسؤولية بالمحاسبة على جميع
مستويات هرم السلطة؛ ...
-
تنزيل السياسة بقوة
إلى الشارع عبر آلية الإجتجاج ذو الطابع السياسي و الحقوقي، و من تم دفع العديد من
المواطنين إلى إعلان مطالبهم و عرض انتقاداته تحت ضوء الشمس ..
-
إعادة ترتيب قائمة
المواضيع التي يناقشها الناس و يستفسرون حولها، بل و يتم تصنبفهم على ضوء مواقفهم.
و هي ملاحظة تصدق على قائمة المواضيع التي تتناولها الصحافة كذلك.
-
جعل الحرية و الكرامة و
آلية الديمقراطية قيم محورية في الإجتماع السياسي.
-
... إلخ
بتاريخ 24 غشت
2011 ، قمت بكتابة بعض الكلمات المفاتيح على محرك البحث الإلكتروني غوغل فكانت
النتائج التي قدمها المحرك بخصوص كل كلمة على الشكل التالي:
-
حركة 20 فبراير:
15.700.000 نتيجة،
-
محمد السادس:
25.500.000 نتيجة،
-
حزب الإستقلال:
4.930.000 نتيجة،
-
الإتحاد الإشتراكي:
3.555.000 نتيجة،
-
العدالة و التنمية:
8.430.000 نتيجة،
-
(«العدالة و التنمية +
المغرب» أو «العدالة و التنمية المغربي»: 3.750.000 نتيجة)
-
العدل و الإحسان:
3.510.000 نتيجة،
-
اليسار الإشتراكي
الموحد: 401.000 نتيجة،
-
حزب الأصالة و
المعاصرة: 707.000 نتيجة.
إذن، بعد ست أشهر فقط من نشأتها، يمكن ملاحظة
العدد الكبير للنتائج المحصل عليها بشأنها على الغوغل بالمقارنة مع مكونات أخرى
لها وزنها في المشهد السياسي للبلد، و هو عدد يمكن أن يعتبر مؤشرا على كثافة
النقاش الذي رافق دينامية هذه الحركة.
و السؤال الذي يطرح على الحركة اليوم، هو كيف
يمكنها تكريس هذه الثقافة الجديدة من جهة، وكيف تصون المكتسبات على هذا الصعيد من
جهة أخرى؟
هذه بعض عناصر الإجابة – كأمثلة:
- الإستمرار في دعم التوجه الذي يمثل عملية نقد
لكل أشكال السلطوية، بالدعوة إلى تقنين ممارستها، محاسبة رجالها، و احترام
المنافسة و المشاركة فيها، و ذلك لإنهاء الإنفراد بممارسة الهيمنة.
- صيانة القدرة على التعبئة الجماهيرية من أجل /
ضد قضايا و أشخاص و ممارسات.
- الإحتفاظ بجميع مجموعات التواصل الإجتماعي و
المواقع الإلكترونية التي تتبنى الثقافة الجديدة و العمل على تنشيطها أكثر استنادا
إلى استراتيجيات تواصلية واضحة.
- نسج علاقات تعاون مع هيئات المجتمع المدني –
مستقلة و غبر مستقلة- و دعم مبادراتها الرامية إلى حماية المجتمع و تحصينه ضد
الإستبداد و الفساد (الهيئات الحقوقية، الهيئات المهنية، الهيئات الممثلة
للمعطلين، الهيئات المحاربة للرشوة و الحامية للمستهلك، المراكز الفكرية الداعمة
للديمقراطية، ...) .
- العمل على إسقاط كل الموانع التي تحول دون
تحقيق ديموقراطية كاملة، من خلال التركيز و العمل على إبعاد الشخصيات المساندة
للسلطوية، إلغاء و تعديل الأنظمة القانونية – الدستور؛ القوانين الإنتخابية؛ قانون
الصحافة؛ قوانين المراقبة السياسية و المالية؛ القوانين المرتبطة باستقلال القضاء،
...- و الدعوة إلى إدخال تعديلات عميقة على المؤسسات الإدارية و على رأسها
المؤسسات الأمنية.
- العمل على عودة النقاش حول «مشكل الجلاد:
المتابعة و العقاب أم الصفح والنسيان؟ !» بعد أن جربت البلاد - و فشلت- فكرة الصفح
عنه و عدم معاقبة جرائم الماضي كشرط من شروط الإنتقال الديمقراطي استنادا على مبرر
"أن ترسيخ الديمقراطية أهم من معاقبة الأفراد". فعودة النقاش اليوم
سيكون خدمة كبيرة للتوجه الديمقراطي و لمبدأ الفصل بين السلط. خاصة و أن عودة
الإنتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان في العهد الجديد تمثل ضريبة نؤديها جميعا بسبب
عدم إيجادنا لضمانات عدم الإرتكاس، فسرعان ما بدا أن الدور الذي أدته هيئة الإنصاف
و المصالحة كان مجرد دور تأريخي لفترة من فترات انتهاك حقوق الإنسان (عمل أرشفة)
أكثر منه دورا انتقاليا للخروج من مرحلة إلى
أخرى على غرار ما وقع ببعض الدول اللاتينية.
-
و رمزيا، يمثل إعلان تاريخ 20 فبراير كعيد وطني
للحرية و الكرامة، ينزل فيه المواطنون إلى الشوارع سنويا للتعبير عن مواقفهم
السياسية و الإجتماعية و يكرسون من خلال ذلك وجود الثقافة المجتمعية الجديدة.
-
تشجيع النخب الفكرية و السياسية التي من
شأنها تحفيز دينامية الحركة، عبر تنظيم
التظاهرات الثقافية.
- العمل
على إيجاد و استمرار رأي عام واسع مساند لدينامية الحركة الحقوقية و السياسية.
-
...
الرهان على الثقافة الجديدة هو الرهان الأكبر
في عمل الحركة. فلا يجب أن ننسى أن مستوى الثقافة الديمقراطية، مثلا، يعتبر مؤشرا
لقياس مدى متانة نظام ديمقراطي معين و لقياس فرص نجاح سيرورات الإنتقال نحو
الديمقراطية كذلك.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق