فؤاد بلحسن
belahcenfouad@gmail.com
فرقة شعبية حيدوسية و عشرات
من الناس متحلقون حولها، و ذلك في المكان المعتاد لانطلاق مسيرات حركة 20 فبراير –
فرع مدينتي- و في نفس الزمان المعلن
لانطلاق مسيرة هذه الأخيرة بتاريخ 24 يوليوز لتأكيد المطالبة بإصلاح حقيقي للنظام
السياسي.
انطلقت الأهازيج و المواويل،
زاد عدد الناس حول الفرقة، و البعض يتسائل: ما مبرر وجود هكذا فرقة في هكذا وقت؟!. و ربما تسائل بعضهم: أليس عيد العرش
ببعيد؟!
في لحظة الذروة الإيقاعية،
ترتفع عقيرة المغنين عاليا و المرددون يرددون ورائهم؛ إنها الجذبة: هَاوْ هَاوْ هَاوْ
.. !
بعد لحظات، توقف رجل عابر و
سأل:
-
ماذا
يجري هنا؟!
بعد
تريث و افتحاص، جاء الرد:
-
يمكن
أن تسأل أحدا من أصحاب الجذبة فربما تجد عنده جوابا !
-
عفوا،
و لكن أنا لم أفهم ما يجري هنا بالضبط، فرقة أحيدوس على اليمين و على الشمال قوى
أمن. أمر غير طبيعي!
- غير
طبيعي، نعم . و لكن تفسيره بسيط: المخزن يحارب المطالبين بالإصلاحات بالبلد برقصات
الحيدوس !
-
إذن
هؤلاء أهل "نعم" للدستور و هؤلاء أهل " لا" !
-
هو
ذاك بالضبط !
هل
هو الفن أخطأ موعده، أم هي السياسة في واحد من فصولها الرديئة؟. في الواقع، إنهما
معا. لذا كانت الأهازيج لونا باهتا للفن الشعبي أفسد جماله رجال الأمن السريون
الذين يستقبلون النغمات بتقاسيم وجه جامدة لا تدري من خلالها ما إذا كانوا سعداء
أم أشقياء !
بعد حين، قال أحد الحضور و هو
يهم بمغادرة الحشد في أوج جذبته: "حَالْتْنَا مَا هِي حَالَهْ !".
وفي تلك اللحظة بدأت تذب في
المكان حركة كثيفة، و تطل من هنا و
هناك وجوه فبرايرية، الأمر الذي يعني قرب انطلاق الجذبة الموازية: حرية، عدالة ،
كرامة اجتماعية. الجذبة/الشعار المركزي لحركة 20 فبراير، التي سرعان ما لملمت
صفوفها معلنة انطلاق مسيرتها الأولى في الشهر السادس من انطلاقتها: حوالي نصف عام،
إذن، من الأعمال الإحتجاجية المطالبة بإدخال إصلاحات سياسية حقيقية على النظام
السياسي. أهو مؤشر على إصرار و طول نفس المحتجين المطالبين بالإصلاحات أم على ضعف
فعاليتهم الإحتجاجية المطالِبة بالإصلاحات؟
...
انطلقت مسيرة حركة 20 فبراير،
و شرع الفبرايريون في رفع شعاراتهم التقليدية و الجديدة على طول شارع ابن سينا في
اتجاه شارع الحسن الثاني. ومن أجل التشويش على هذه الشعارات و على النشاط
الإحتجاجي للحركة عموما، التحم الحشد الموسيقي المذكور آنفا- و الذي تحول، في رمشة
عين، و بقدرة قادر، إلى حشد مدني متظاهر !- بمؤخرة المسيرة مباشرة بعيد انطلاقها، و على رأسه سيارة تحمل
مكبر صوت تنطلق منه شعارات و خطابات مضادة لحركة 20 فبراير، منها ما يرميها
بالخيانة والعمل على زعزعة استقرار البلد الأمين!
« إنها نعيمة مرة أخرى»، هكذا ردد المتظاهرون
الفبرايريون ..
فنعيمة هي منشطة المسيرات المضادة لحركة 20
فبراير بمدينتي. فللمرة الثانية على التوالي، تطلق السيدة خطاباتها النارية – و
بلا هوادة- ضد الحركة و أنشطتها، في محاولة للتشويش على مسيرات هذه الأخيرة، و سد
الفراغ الذي أحدثه، ولمدة طويلة، غياب الشارع الموازي الموالي. فلا تتردد السيدة
في نعت نشطاء و أنصار الحركة بأقسى النعوت، من قبيل: «عبدة الشيطان»، «عبدة عبد
السلام ياسين» ... إلخ.
وهكذا سرعان ما تحولت نعيمة إلى
عنوان عريض للبلطجية في نظر الفبرايريين (رفع خلال المسيرة شعار: " نعيمة تَاااااتْـقْـتـَـااااتْ
.. عْلَى فُـتَاااااتْ الفُـتَـاتْ")، بل وموضوعا للتندر من قبلهم.
...
ولم تكن مقاطع الحيدوس و لا "هجومات"
نعيمة فقط من أضفى على مسيرة الأحد 24 يوليوز طابعا خاصا. الشعارات المرفوعة كان
لها الدور الأبرز على هذا الصعيد.
فقد انتقلت الشعارات تدريجيا،
خلال الستة أشهر الأخيرة من عمر الحركة، من إدانة المؤسسات (حكومة، برلمان،
عمالات، بلديات، و غيرها من المرافق العامة- الإجتماعية، الإقتصادية و الإدارية)
والمطالبَة بإصلاحات جوهرية على مرجعية قائمة المطالب السبعة للحركة، إلى الإحتفاء
بالثورة و التغني بها، و أخيرا تناوُل المؤسسة الملكية. فمواضيع من قبيل السلطات
الواسعة للملك و تأثير هذا الأخير على كبريات وصغريات تدبير الشأن العام أصبحت
موضوعا لشعارات الحركة: "شْكُونْ رئيس الحكومة .. هُوَ هُوَ .. أُو شْكُون
رئيسْ العـُلَمَـا .. هو هو .. أو شكون رئيس الوُزَرَا .. هو هو .. إلخ"، و
شعار: ".. فْطُورْ رْمضانْ .. مِييينْحَه مَلكِية، أ ُو سْبِـيطـَارااات .. مِييينحه
ملكية .. أ ُو الدستووور .. مِييينحه ملكية .. أ ُو لاااااجنة المنوني .. ِمييينحه
ملكية .. أ ُو كُووولْشِي .. مِييينحة ملكية" و شعارات أخرى.
و على ما يبدو، لم ينهي
الإستفتاء الدستوري الجدل حول مضمون الإصلاحات الدستورية و لا النقاش حول مدى
شرعية اللجنة الدستورية المعينة من قبل الملك- لجنة المنوني. بل انضاف إلى كل ذلك،
طعن الحركة في مسلسل الإستفتاء نفسه. إذ أدانت شعاراتها بشدة الطريقة و الخروقات
التي طالت عملياته (تزوير، انعدام الشفافية، سوء التنظيم، ...). و هكذا يكون
النظام السياسي في نظر الحركة قد ارتكب جـُرمين سياسيين مشهودين: عدم سماحه
بانتخاب جمعية تأسيسية تـُكلف بوضع دستور للبلاد، وفشله في تنظيم انتخابات دستورية
نزيهة و شفافة.
وهكذا تطبع المشهد العام
للبلاد اليوم صورة نظام سياسي يسعى جاهدا للهروب إلى الأمام (إجراء استفتاء دستوري
على عجل، إعلان نية إجراء انتخابات تشريعية مبكرة، دفع الشارع الموازي الموالي إلى
التنافس في الميدان العام، ...)، في الوقت الذي تصر حركة 20 فبراير على سحبه للخلف
ما دام تقدمه يجري وفق منطلقات غير ديمقراطية (صياغة مشروع الدستور من قبل لجنة
معينة – لا منتخبة، دستور لا يضمن تحقيق
ملكية برلمانية، استناد نتائج الإستفتاء على عملية استفتائية شابتها عيوب كثيرة
تناقض شروط الإنتقال الديمقراطي المعلنة من قبل النظام السياسي نفسه، ... ).
و على هذا الأساس، ينقسم
الشارع اليوم إلى مُضف للشرعية على مبادرات النظام السياسي، نصير للإستمرارية في
جانب، و ساع إلى تقويض مبادرات هذا النظام، داع إلى تصحيح المنطلقات ذاتها؛ قبل
التفاصيل التي تأتي تبعا لها؛ في جانب آخر.
...
و ثمة آفة بارزة تضفي على
الوضع مأساوية أكبر: الأطراف لا تتحاور!
يعلم النظام أن الطيف السياسي
و الإجتماعي المكون لحركة 20 فبراير يقبل بالتفاوض على أساس» شروط
تفعيل انتقال حقيقي إلى نظام ديمقراطي «؛
يضمن التمتع بالحريات المدنية و السياسية و بالعدالة الإجتماعية؛ ومع ذلك يصر على
تجاهله. ولعل هذا ما يفسر توجه الطرف المعارض إلى رفع درجة الإحتقان في الشعارات،
في البيانات الموجهة للرأي العام كما في التصريحات. فالإقصاء يولِّد لدى الطرف المَقصي
الرغبة في إبراز ذاته أكثر، وليس أفضل من ذلك من التحول إلى النقيض من موقع الطرف
المُقصي. لذا، يجب ألا نفاجأ إذا ما ارتفعت إلى السطح مطالب تدعو إلى الجمهورية من
قبل هذا الطرف أو ذاك !
وبالتأكيد، الكرة في ما يخص المبادرة
إلى توفير مناخ يصلح للتفاوض في ملعب النظام السياسي. فهو المسؤول عن الإستجابة
لمطالب المواطنين – السياسية والإجتماعية- أيا كانوا هؤلاء المواطنين، وأيا كانت
المطالب المعبر عنها، فبالأحرى أن يكون هؤلاء قوى تُخرج إلى الشارع بشكل أسبوعي
مئات آلاف المحتجين و أن تكون على رأس المطالب دمقرطة الحياة السياسية و تكريم
الإنسان المغربي.
لقد تفتقت عبقرية السلطات
العامة للبلد – في سابقة من نوعها- بفكرة إصدار تقرير تقييمي تناول الخسائر التي
تكبدها الإقتصاد الوطني بفعل الأعمال الإحتجاجية لحركة 20 فبراير، كشكل من أشكال
سحب البساط من تحت أرجل الحركة و تحميلها جزءا من المسؤولية عن الكساد الإقتصادي (تم
تنظيم بعض الأعمال الإحتجاجية من قبل حرفيين و تجار ضد حركة 20 فبراير بمدينة
الرباط و مدن أخرى، ومنها ما اتخذ له شعارا: ماتْـقِـيشْ رْزقي و رْزق وْلادي !) أو ما يمكن اعتباره، بالجملة، جزءا من
الحملة الدعائية التشهيرية ضد الحركة التي انطلقت مع ظهور هذه الأخيرة. لكن، نفس
السلطات لم تنبس بكلمة فيما يخص حجم الإقتطاعات المالية التي تطال الميزانية
العامة في شكل دعم – لوجستيكي، مالي و إعلامي- يقدم للشارع الموازي: شارع
الموالاة. إنها مسألة تهم دافعي الضرائب بدرجة أساسية، و سلطات البلد لا ترى
نفسها مقيدة بإقناع هؤلاء بوجهة صرف مساهماتهم العمومية في خزينة الدولة!
إن نمط تعاطي النظام السياسي
مع مسيرات و مطالب حركة 20 فبراير يكشف عبثية هذا النظام الذي فشل، و لا زال، في
خلق فضاء عام يستوعب الجميع من أجل الجميع. فالنظام السياسي الذي يصر على صياغة
قائمة أولوياته و اهتماماته و أسلوب تعاطيه مع المطالب المجتمعية بعيدا عن إشراك
فئات عريضة لها نصيب في تكوين الرأي العام هو نظام إقصائي بامتياز. و النظام
السياسي الذي يُـفضل خلق جبهات لمعارك جديدة خارج جبهة المعركة الحقيقية (معركة
تحقيق الديمقراطية في البلد) نظام لا يملك الإرادة و لا الشجاعة اللازمتين لنقل
البلد إلى الديمقراطية.
...
في مقال سابق له تحت عنوان
"تَانْـݣافْت"، أدان الصحفي الكبير رشيد
نيني، و بِأسى عميق تقاسَمه معه القراء، توجه السياسة
الثقافية للدولة إلى "شَيْخنة" الثقافة وزرع ثقافة "البوط"، و
اليوم نشاهد جميعا، بِأسىً أعمق و أمرّ، زحْف نفس المظاهر إلى ساحة الحراك السياسي
و فضاء النقاش العام.
في نفس المسيرة، أدان
الفبرايريون هذا الزحف و رفعوا شعار: "البلطجي
يا بـُوبَنْدير .. آش تَاتْعْرْفْ فْ الدساتير" !. (شعار مختوم، كما أكد لي أحد الزملاء، بعبارة: صُنع بمدينة خْنيفرة !).
في مدينتي– مدينة الخميسات- يحارَب المطالبون بالإصلاحات السياسية برقصات
الحيدوس وخطابات التخوين، و في مدينتي أيضا صدحت الحناجر ملء الأفواه وتحت الهواء
الطلق بشعار: «عاشْ الشعب .. عاشْ الشعب .. عاشْ الشعب» و رفرف علم فوق الرؤوس مكتوب
عليه بأحرف بارزة: عاشَ الشعب!
إنها مدينتي تعكس اللحظة
السياسية لبلدي!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق