فؤاد بلحسن
belahcenfouad@gmail.com
يمكن تحديد مفهومين
للبيروقراطية، مفهوم سلبي ( قدحي) يرصد النتائج من خلال الصورة السيئة للإدارة، و
مفهوم علمي ( موضوعي) يرصد الظاهرة البيروقراطية في تطورها و أدوارها.
فيرى الأول في
البيروقراطية وجها سيئا للإدارة، يظهر في الرتابة التي تتصف بها في تعاملها مع الجمهور،
و في تعقد الأطر، و فوضى التنظيم، و في المسافة السلبية بين الأهداف و النتائج، و
في العمل فوق أو خارج القانون.
بينما يرى الثاني أن
البيروقراطية " ظاهرة تعتمد المركزية في العمل الإداري و التدرج الطويل في
مسؤولية الموظفين و تسلسل الدوائر و تعددها"[1]
و تخصصها.
و يكشف التطور
التاريخي للبيروقراطية عن حقيقة مهمة، تتجلى في كون البيروقراطية لا تبرز بشكل
فجائي بل تظهر تدريجيا مع تدرج السلطة من المراكز الفردية و الشخصية إلى المراكز
المؤسساتية، و من الإحتكار إلى التفويض و الإختصاص، كما أنها ( أي السلطة) تنفصل
تدريجيا عن مجال العلاقات الذاتية إلى العلاقات الموضوعية القائمة على قواعد
عقلانية عامة – عقلانية[2].
و الحديث عن
البيروقراطية في النظام الإداري لا يجب أن يفهم منه أن هناك فصلا بين الإدارة و
البيروقراطية. فالجهاز الإداري هو جهاز بيروقراطي في حدود امتثاله للقواعد البيرقراطية ( المركزية و التسلسلية و التخصص و
لا شخصية العلاقات)، إلا أن هذا لا ينفي أن للبيروقراطية إيحاءات أخرى تتجاوز شكل التنظيم لتنتقل
للدلالة على فئة الموظفين العموميين، هذا فضلا عن الدلالة عن السلطة التي يتمتع بها الجهاز الإداري- و التي
تتجاوز النسق الإداري لتشمل أنساقا أخرى داخل التنظيم الإجتماعي.[3]
تحديين بارزين كانا
نصب أعين المغرب المستقل: 1 – إعادة تشكيل الجهاز البيروقراطي على أسس وطنية، 2-
إعادة تحديد أهدافه وفق مقاصد وطنية، محورها تحقيق الإنماء المجتمعي.
و لم يكن هناك بد من
تحمل الجهاز البيروقراطي عبأ هذه المسؤولية.
و يأتي اختيار الجهاز
البيروقراطي لأداء هذه المهمة نتيجة لعدة أسباب، أولها: أن الإعتماد على
البيروقراطية يسمح للدولة باكتساب شرعية عقلانية[4]
إلى جانب الشرعيات الأخرى الجارية.
و ثانيها: نتيجة
الإجماع الأصيل آنئذ لدى أصحاب القرار و النخب السياسية – عالميا و قطريا – على أن
البيروقراطية تمثل الآلة الأساسية لتحقيق أي تحول مجتمعي - خاصة بدول العالم
الثالث؛ الحديثة العهد بالإستقلال- عبر تنفيذ المخططات الوطنية وإنجاز الخدمات
الأساسية و تنفيذ القوانين.
" و إذ كان
الوجه الليبرالي يشكل الإطار العام الذي التزم به المشرع في وضع جهاز إداري –
مغربي عصري فإن مبادئ النموذج الفيبري كانت هي الإطار الملائم لوضعه موضع التنفيذ
و كان أولى أسسه تتمثل في المركزية المفرطة و التي تجد أصولها في الإرث المخزني و
الممارسة الإستعمارية"[5].
وهكذا بادر المغرب إلى اتخاذ ثلاثة خطوات أساسية:
1- توحيد إدارة
الدولة، حيث تم على الصعيد الإداري، توحيد التراب و إرجاع المناطق التي كانت تحت
الإدارة الدولية و الإسبانية، و تقسيم التراب الوطني إلى أقاليم و عمالات يرأسها
العامل الذي يمثل السلطة المركزية.
2- مغربة أطر الدولة
لضمان تسيير أفضل للدواليب الإدارية، و إنشاء معاهد ومدارس خاصة للتأهيل ( تكوين
الأطر).
3- تعريب إلادارة:
تلافيا للإزدواجية التي تعيشها الإدارة على صعيد لغة التواصل. و بذلك صدر في تاريخ
أكتوبر 1973 منشورا عن الوزير الأول وُجه إلى الوزراء وكتاب الدولة و نوابهم
يقضي بضرورة التعريب.
و لِلَم شتات الوظيفة
العمومية انصب تفكير السلطات على توحيد نصوص الوظيفة العمومية من خلال إصدار نص
يَكون بمثابة إطار عام للوظيفة في المغرب، تَمثّل في ظهير 24 فبراير 1958. الذي
عملت من خلاله الدولة على بناء علاقة قوية بين الموظفين و الإدارات التي يشتغلون
بها من خلال نظام الحياة المهنية (système de carrière ) استنادا إلى القواعد البيروقراطية لنموذج المثال الفيبري. و شكلت
مبادئ مثل السلطة و الهرمية أسس و عمود هذا الميثاق.[6]
و لم يكن لهذين المبدأين ليجدا صعوبة
كبيرة في الإنصهار، نظرا للتقاليد العريقة بهذا الخصوص، في تاريخ دولة المخزن ودولة مغرب الحماية.
و إذا كانت الإدارة
المخزنية قد جعلت من الولاء و الطاعة للسلطان، و الأصل الإجتماعي، محددات أساسية
في الإلحاق أو التعيين قي المناصب العمومية، فقد اتجه النص الجديد إلى استحضار
الميكانيزمات العقلانية و المتمثلة أساسا في الآليات الحديثة؛ كالمباريات و
الشهادات- أي انطلاقا من مبدأ الكفاءة.
و تجدر الإشارة هنا
إلى أن الولوج إلى الوظيفة العمومية السامية ظل يحلق خارج هذا الإطار القانوني
العام للوظيفة العمومية. بحيث استمر المنطق المخزني هو المتحكم على هذا الصعيد
(الولاء و الطاعة).
و على مستوى المرفق
العمومي أيضا، امتد النموذج الفيبري، و ذلك باستلهام مبادئه من التجربة الفرنسية
على صعيد شكل التنظيم و القواعد الناظمة من مركزية و تسلسلية و سلطوية و نظام الحياة المهنية و لا شخصية
العلاقات[7].
و بقصد تحقيق الإنماء
المجتمعي، شهد المغرب اعتمادا شبه مطلق على البيروقراطية، في مختلف المجالات، من
خلال مضاعفة الوحدات الإدارية و عدد الموظفين بالقطاع العام. وضعية أدت على
استحواذ البيروقراطية على مجمل تفاصيل المشهد العمومي، و تمكنت مع مرور الوقت من
فرض نفسها على باقي مجالات الإنتاج و الاستثمار و غيرها ، و من بدون أن تنتبه إلى
حالة اللا توازن التي طبعت نموها بالمقارنة مع باقي الفاعلين الآخرين.
ومعلوم أن هذا التضخم
على الصعيدين المركزي و غير الممركز رافقه
تضخم على صعيد بناء الإدارة اللامركزية الشيء الذي أدخل الإدارة المغربية(
البيروقراطية) في فوضى عارمة، مثّل العجز عن تحقيق الإنماء المجتمعي خير شاهد
عليها.
إن إعادة طرح سؤال
البيروقراطية اليوم سواء في بعده النظري أو العملي، ليس من قبيل الترف الفكري أو
عرضٍ تمليه الضرورة المدرسية فحسب، و إنما هو سؤال يملك كل الشرعية، في ظل
التحولات الكبيرة التي يعرفها العالم، و التي طالت حتى مفهوم الدولة ذاته، في
أبعاده التأطيرية و السلطوية و الوظيفية و العلائقية، ناهيك عن التحولات الجارية
على صعيدي الإقتصاد و التواصل- وطنيا و دوليا. و ذلك بهدف فهم مقاربة وافع و آفاق
ذلك الجهاز الذي تحوّل في التجربة المغربية إلى عائق حقيقي أمام الإنماء الاقتصادي
و الإجتماعي، عندما لعب دور الغول الذي يتهدد الحريات ؛الفردية والجماعية؛ و يكبح
التغيير، من خلال آليات الضبط و التوجيه و المراقبة التي بين يديه.
كيف تتحول
البيروقراطية إلى كيان مُشوه يحمل قيم نقيضة لقيم العقلانية؟
لماذا كان الرهان على
البيروقراطية في تحقيق الإنماء المجتمعي خاسرا؟ و هل يتعلق الأمر بدينامكية
البيروقراطية ذاتها، أم بتفاعلها داخل
النسق المجتمعي العام وسيرورة المحيط الدولي؟
ماهي مبادرات تجاوز
أزمة البيروقراطية على صعيد التنظيم و التنسيق و المراقبة و الموارد البشرية و
الأتمتة و معنويات الإدارة؟
أيُّ ضمانة بين
أيدينا لنجاح الإصلاح الإداري؟ خاصة في ظل تعاقب حكومات و قيادات شكّل إنعاش الأمل
لدى المواطنين أقصى ما استطاعت أداءه، في غياب أي حصاد لنتائج على أرض الواقع (
ألم يكن الإصلاح الإداري الجذري أحد أعمدة البرنامج الحكومي لحكومة الوزير الأول
عبد الرحمان اليوسفي، و كذلك للذي تلاه في نفس المنصب: ادريس جطو؟).
و ماذا عسانا نفعل
إذا استشعرنا أن التنمية الإدارية أصبحت أكبر ثقلا من التنمية في باقي المستويات
الأخرى؟ و هل لنا إلا أن نؤيد المقولة التي ما فتئت تقر بأن فشل محاولات التنمية
لا يكمن في ضعف البيروقراطيات العمومية بل إنه يكمن في قوتها المبالغ فيها؟
لا شك أننا أمام أكثر
من تحدي !!
بحسب التعبير
الجاري" تكتسي الإدارة بَِشرةً صلبة" و الشاهد على ذلك العبارة الساخرة
و القاسية في آن واحد للتشيكي كاريل كاييك
(1890-1938):" يمكن القيام بالثورة في أي مكان ماعدا في الإدارات، و
حتى عن وضع نهاية للعالم يجب تحطيم العالم قبل كل شيء ثمّ تدمير الإدارة
لاحقا"[8].
لقد ذهب بلزاك (balzac) معرّفا البيروقراطية في روايته " المستخدمون" قائلا:
" إنها سلطة ضخمة تدار من قبل أقزام"[9]،
و هو في ذلك على حق، إذا كان هؤلاء لا هم يُقدّرون قيمة ما بين أيديهم (السلطة)
فيتخذون المبادرة، و لا هُم يستطيعون التحكم فيه لحظة صحوة الضمير.
ما السبيل إذن
للتعامل مع مُركّب من الناس (البيروقراطيين) متماثل الذهنيات[10]،
يسلك مجرى معاكسٍ للتكيف الإيجابي مع إرادة العموم.
أمام هذا المشكل، لا
غنى لنا عن اعتماد مقاربات تستند إلى خلاصات علم الإدارة عل مستوى مسألة تدبير
الوارد البشرية، بدل الإقتصار على مبادرات إصلاحية تستند إلى مقاربة قاعدية ( نصوص
قانونية) غير شمولية من جهة، و استنزالية ؛ تعتمد الإقتباس من تجارب محلية خارجية؛ من جهة.
التحدي الأول إذن:
محاربة الجمود.
التحدي الثاني: الحد
من سلطة البيروقراطية، فاستنادا إلى شرعية "تنفيذ الصالح العام"، فإن
الإدارة على وعي تام بأنها قوة مُمارِِِِِِِسة لسلطةٍ فعليةٍ هامة.
زيادة على ذلك - و
كما هو معلوم- فالإدارة لا تُحصر نفسها في تنفيذ الأوامر السياسية، و إنما تناور
داخل سلطات تقديرية واسعة في عملها التنفيذي( عن طريق تأويل القانون؛ تقديم
معلومات على المقاس؛ تَمَلُّك المعلومات و مقاومة الشفافية؛ الإختيار بين إمكانيات
متعددة متاحة عند تنفيذ السياسات؛...) بما يدعم سلطتها. و لا يجب أن ننسى أن
السلطة التشريعية بدورها متأثرة جدا بالإدارة، بما أن كثيرا من القوانين و خاصة
منها المنبثقة عن مبادرة حكومية، تُعـَدّ في حظيرة الإدارة التي تمتاز بمعرفتها و
خبرتها التقنقراطية[11].
التحدي الثالث: إعادة
تأثيث العلاقة بين السياسي و البيروقراطي: هذا مشكل عام، إذ لا يمكن أن تعطى
الإدارة سلطة التقرير في المسائل السياسية، التي يعهد بها إلى السلطة
التنفيذية أو التشريعية. و هذا لا يعني
الإستغناء عن الدور الكبير الذي تقدمه الإدارة لمتّخذ القرار السياسي، على صعيد
التزويد بالمعطيات الضرورية و الخيارات الممكنة. و إذا كان هذا يعني علو
"السياسي" على "البيروقراطي"، فإن هذا لا يعني تحكمه فيه. إذ
تحتفظ الإدارة بمجالها المستقل ( قواعد مستقلة؛ تراتبية خاصة؛ حقوق خاصة؛علاقات مع
المحيط وفق ضوابط؛...).
كما يندرج في هذا
الإطار، مسألة دعم البنيات اللامركزية، و ذلك بإعطاء نفس سياسي للمجالات الترابية
المحلية.
التحدي الرابع: فك
التوتر القائم بين الإدارة العامة و
العولمة:
1- و ذلك بالأخذ في
الإعتبار مردودية النشاط الإداري، و ليس فقط شرعيته القائمة على القاعدة
القانونية. فمقولة جون لوك:"حينما ينتهي القانون يبدأ الإستبداد"
فَقَدَت الكثير من بريقها لفائدة مقولة:"حيثما انتفت الفعالية، فتمّةَ
سيادة الفوضى"، و هي مقولة؛ على كل
حال؛ تعضّضُها قيم العولمة القائمة على التنافسية و الفعالية و الجودة.
2- كيف يمكن دعم
القطاع الخاص، ضمن رؤية وطنية قائمة على التشارك بين القطاعين العام و الخاص؟ سؤال
لا بد من الإجابة عنه. و هو و إن كان يعني السياسي أكثر مما يعني البيروقراطي، فإن
هذا الأخير مطالب بدوره بإعطاء مساهمته في إيجاد جواب مقبول؛ اقتصاديا و
اجتماعياً.
هل وجدنا أنفسنا
مضطرين لقبول التعايش مع مفارقة وجد لوسيو كيراطو[12]
نفسه فيها بغتة و المتمثلة في مقولة "إضعاف الإدارة من أجل فعالية
الإدارة"؟!
[1] – "معجم المصطلحات القانونية" د. عبد الواحد كرم؛ مكتبة
النهضة العربية؛ طبعة : 1؛ 1987؛ ص: 104.
[2]
"تأملات حول بعض مجالات علم الإدارة" د. عد لحق عقلة؛
دار القلم- الرباط؛ط: 1؛ 2004؛ص:101.
[3]
- د. عبد الحافظ أدمينو، نظام البيروقراطية الإدارية في المغرب؛
أطروحة لنيل الدكتوراه في القانون العام، وحدة القانون الإداري و علم الإدارة؛
جامعة محمد الخامس – أكدال- الرباط؛ 2001/2002؛ ص: 5.
[4]
- د. عبد الحافظ أدمينو، م.ن. ص: 26.
[7] -عبد الحافظ أدمينو، م.ن.
ص:29-30.
[8] -عبد المجيد
بن جلون" تأهيل الإدارة في مواجهة العولمة، بعض عناصر المقاربة"، في:
تأهيل الإدارة للعولمة، تحت إشراف د. علي سدجاري، منشورات مجموعة البحث في المجال
و التراب، منشورات كريت،2000، ص:36.
[9] -أنظر:لوسيو كيراطو"الإدارة و الحكم:
مقاربة اجتماعية"، في: تأهيل الإدارة للعولمة، م.ن. ص:53.
[10] - "الذهنيات هي مركبات نفسية تامة
الإستقرار، يستحيل على أصحابها تغييرها ساعة يشاؤون، و لو تحت ضغوط
مضادة"غاستون بوتول: سوسيولوجيا السياسة، ص:29.
[12] -لوسيو
كيراطو( سفير الإتحاد الأوروبي في الرباط)،" الإدارة و الحكم: مقاربة
اجتماعية" ؛ في: تأهيل الإدارة... م.س. ص:63.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق