تعَوَّد المتفلسفة، في كل العصور، أن يتحرجوا من لقب «الفيلسوف»، ومن ثمة هم يلجئون إلى أنحاء شتى من طلب العذر لأنفسهم. ولذلك لا تخلو أي فلسفة من سياسة اعتذار مكتومة عن عدم وجود الفيلسوف أو عن استحالته، أو على الأقل عن عدم ادعاء لقب الفيلسوف بدون حرج يُذكر. طبعًا ثمة طرق شتى للاعتذار عن حمل لقب «الفيلسوف»، وهذا ليس استثناء لأحد. حتى الفلاسفة من حجم سقراط أو كانط أو هَيدغر، اعتذروا عن كونهم إما «لا يعرفون شيئًا» أو «أننا لا نتعلم الفلسفة بل فقط كيف نتفلسف» أو أن المتفلسف «ليس فيلسوفًا، بل مفكرًا في الكينونة». وكثرة أخرى من العباقرة خُيِّروا أن يكونوا شخوصًا مفهومية من قبيل «زرادشت» نيتشه والذي ظهر له لدينا أحفاد من نوع «نبي» جبران أو «مرداد» نُعيمة، إلخ. ولكن أيضًا «الفيلسوف المقنَّع» (فوكو) و«المفكِّك» (دريدا) و«الكلبي» (سلوتردايك) و«المتهكم الديمقراطي» (رورتي) … إلخ. ليس للفيلسوف اسم واحد أو اسم مفضل واحد، بل هو يتسمى كما يُتاح له في زحمة السرد ما بعد الشخصي للمؤلف.
بهذا المعنى، لا يرهبني «لقب فيلسوف»، ففي بعض العصور كان
الإنسان لا يرهبه أن يسمى «ربًّا» أو «إلهًا» أو «حكيمًا»؛ ولا يخجلني، فأنا لم
أسمع أن «لقبًا» ما كان خطأ ضد أحد. وأما
أنه «غير ملائم معرفيًّا حتى هذه اللحظة»، فإنه لا وجود للحظة تكون فيها معرفة أي
شخص حول العلم أو حول ذاته كافية أو مناسبة كي يكون فيلسوفًا. وذلك فقط لأن
الفلسفة ليست معرفة، بل هي حسب تمييز كانط، «تفكير» قبلي. ونحن لا نضيف شيئًا إلى
عقولنا حين نفكر، بل نشرِّع لحريتنا بأقصى ما تستطيعه طبيعتنا كبشر. الفيلسوف هو
من يحب كل إمكانية الحكمة المتاحة في طبيعة العقل البشري بما هو كذلك، وهو لا
يدَّعي أكثر من ذلك، لكن ذلك ليس مهمة هينة أبدًا. كما أن «الحكمة» ليست معرفة، بل
هي فن استعمال عقولنا بشكل كوني، نعني بدلًا عن النوع البشري برمَّته في لحظةٍ ما.
ولأن الفلاسفة يختلفون في تقدير ذلك فلا أحد منهم يتسمى «فيلسوفًا»
إلا تجوُّزًا. وبمعنًى ما كل تفكير فلسفي يستحق صلاحية كونية هو بنفس القدر مجرد
تمرين على إعادة الإنسانية إلى عقلها. والفرد في هذا النوع من المهام التي لا
ينتظرها أحد ولا تنفع أحدًا بعينه، هو بلا أهمية. نعم،
الفلسفة لا تفيد أحدًا بعينه ولا ينتظرها أحد، ولذلك هي استثنائية بشكل فظيع.
وعلينا أن نقر بأن هناك من يمنُّ على المتفلسفة العرب لقب
«الفلاسفة» والحال أنهم يمنحون صفة «الشاعر» أو «الكاتب» أو
«الإمام» للمعاصرين من دون حرج يُذكر. وإذا كان المقياس هو استحالة وجود الأسلاف
الكبار من جهابذة الفلسفة مرة أخرى، من وزن أفلاطون أو أرسطو أو كانط … إلخ،
واستحالة ادعاء اللَّحاق بهم، فإن الأمر نفسه ينطبق على أسلاف أي صناعة أخرى، فمن
هو المتنبئ اليوم أو الجاحظ اليوم أو علي بن أبي طالب اليوم …؟
وبعيدًا عن أي تهيُّب مصطنع من لقب الفيلسوف أو إكباره أو تقديسه، هذه أنحاء مختلفة من رغبة مريبة في «توثين» الفيلسوف وإخراج إمكانية ظهوره من أفقنا الأخلاقي، وكل توثين هو في سرِّه قتل رمزي للوثن. أو إخراجه من أفق البشر، ولو كان ذلك باسم قداسته أو جلالته.

ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق