داحوس عبدوس*: قراءة في مجموعة Les malveillants sont partout لحسناء متوس: "حين يتحوّل الشرّ إلى نظام حياة" - القلم 3000

اَخر المشاركات

القلم 3000

مدونة القلم 3000، متخصصة في قضايا الفكر والشأن العام وفن العيش.

الأحد، 26 أكتوبر 2025

داحوس عبدوس*: قراءة في مجموعة Les malveillants sont partout لحسناء متوس: "حين يتحوّل الشرّ إلى نظام حياة"

 


 

      حين نقرأ مجموعة حسناء متوس Les malveillants sont partout، لا نخرج منها بقصة عن “الشرّ”، بل بإحساس بأننا نعيش داخله. الشرّ هنا ليس شخصًا، ولا فعلاً استثنائيًا؛ إنه هواءٌ اجتماعيٌّ نتنفّسه دون وعي.
هذا هو مفتاح القراءة السوسيولوجية لهذه المجموعة القصصية، التي تُحوّل الحكاية إلى مرآة لواقع اجتماعي مأزوم، وتحوّل السرد إلى تفكير نقدي في منظومة قيم مريضة.

1- الشرّ كبنية اجتماعية لا كصفة أخلاقية

الكاتبة لا تتحدث عن الأشرار كأفراد؛ بل تصوّر مجتمعًا يُنتج الشرّ بشكل يومي من خلال ممارساته الصغيرة: الخداع، المجاملة الزائفة، التسلّط، اللامبالاة، والنفاق.
الشرّ عند متوس هو ما نمارسه حين نسكت، حين نرى ونغض الطرف، حين نُبرّر الفساد باسم “الواقعية”، وحين نسمّي الخوف “حكمة”.

في عنوانها الجريء «الأشرار في كل مكان» لا تبالغ الكاتبة، بل تصف واقعًا أصبح فيه العادي مريبًا، والمألوف مسمومًا.
إنها ترصد ما يسميه علماء الاجتماع بـ العنف الرمزي: ذلك الشرّ الذي لا يُرى، لكنه يحكم سلوكنا اليومي.

2- بين الفزّاعة والرقم والذاكرة: تجلّيات الشرّ

كل قصة من القصص الخمس تضيء زاوية من زوايا هذا العالم المختنق:

  • في «الفزّاعة» (L’Épouvantail) يصبح الخوف آلية ضبط اجتماعي؛ الناس لا يُسيّرهم القانون، بل نظرة الآخر، نظرة الشارع، نظرة العائلة.
  • في «واحد، اثنان، ثلاثة» (Un, deux, trois) نكتشف العنف البيروقراطي، ذلك التكرار القاتل الذي يُميت المعنى، ويحوّل الإنسان إلى رقم في طابور طويل.
  • في «أواه، ذاكرة!» (Ô Mémoire!)، تصرخ الكاتبة ضدّ النسيان الجماعي الذي يبرّر الأخطاء القديمة، ويعيد إنتاجها في شكل جديد.
  • وفي «خمسة بلا خجل» (Cinq Sans-gêne) نلتقي بالمهمَّشين، أولئك الذين يرفضهم المجتمع لأنهم لا يتقنون الكذب، فيصنّفهم "وقحين و متمردين". لكنهم، في الحقيقة، يحملون بذرة الحرية التي يخشاها الجميع.

كل قصة هنا ليست مجرد حكاية، بل مقطع من الحياة اليومية المغربية، يضعنا أمام مجتمع يعاني من فقدان المعايير، ومن تحوّل القيم إلى أقنعة.

3- من التحليل الاجتماعي إلى الرؤية الأنثروبولوجية

في العمق، ما تفعله حسناء متوس هو أنثروبولوجيا للشرّ.
كل قصة هي طقس اجتماعي:

  • طقس الخوف،
  • طقس الطاعة،
  • طقس النسيان،
  • وطقس العصيان.

كأن الكاتبة تقول لنا: “نحن مجتمع يعيش بطقوسه لا بقوانينه.”
كل طقس هنا يفضح علاقة المجتمع بذاته:

  • حين نخاف من الفضيحة أكثر من الخطأ،
  • حين ننسى بدل أن نحاسب،
  • حين نكتم بدل أن نواجه.

إنها تقرأ الشرّ كجزء من الهوية الاجتماعية، لا كخروج عنها.
وبهذا، تحوّل القصة القصيرة إلى مختبر لفهم الإنسان المغربي في أزمته الرمزية: بين الحداثة التي وعدت بالتحرّر، والتقاليد التي تُعيد إنتاج الطاعة


  

 4-حسناء متوس: الكتابة كشهادة اجتماعية

كتابة حسناء متوس ليست “أدب نساء” بالمعنى الضيّق، بل هي أدب شاهد.
هي تكتب من داخل النسيج الاجتماعي، لا من برج أخلاقي.
لغتها ليست وعظًا، بل تفكيكًا لما نمارسه يوميًا دون وعي:

  • حين نُجامل على حساب الصدق،
  • ونخاف من نظرة المجتمع أكثر من خوفنا من أنفسنا،
  • ونخلط بين الاحترام والخضوع.

هذه الكتابة تذكّرنا بأن الشرّ في مجتمعاتنا ليس في السلاح أو الجريمة، بل في الصمت المريح، في “العيب”، في “دْبّر راسك”، في “ما تدخلش”.

5- من المأزق إلى الوعي

لكن ما يجعل هذه المجموعة متجاوزة لليأس هو أنها تُعيد للوعي دوره.
في قصة Ô Mémoire!، مثلًا، يصبح التذكّر مقاومة.
وفي Cinq Sans-gêne، تتحوّل الوقاحة إلى لغة صدق.
وفي العنوان ذاته، “الأشرار في كل مكان”، نلمح مفارقة:
حين نُسمّي الشرّ، نكون قد بدأنا في تجاوزه.

الكتابة هنا ليست صرخة غضب فقط، بل إعلان ولادة وعي جديد،
وعي يرى في النقد حبًّا للوطن لا تشهيرًا به.

6- الرسالة الاجتماعية للمجموعة

في النهاية، ما تفعله حسناء متوس هو نوع من التشخيص الاجتماعي بالقصّة:
هي تضع المجتمع أمام مرآته دون مكياج.
لا تبحث عن نهاية سعيدة، لأن السعادة في مجتمع مأزوم وهمٌ كبير.
لكنها تؤمن بأن الوعي بالشرّ هو الخطوة الأولى نحو تجاوزه.

القصص الخمس ترسم خريطة دقيقة لمجتمع يعيش حالة توازن هشّ بين الأخلاق والمصلحة، بين الطاعة والتمرد، بين الذاكرة والنسيان.
وهنا تتجلّى عبقريتها السردية: في قدرتها على تحويل القصة القصيرة إلى وثيقة إنسانية عميقة، تُسائل وعينا الجمعي، وتُربك يقيننا الأخلاقي.

خاتمة المداخلة

إن قراءة Les malveillants sont partout ليست متعة جمالية فقط، بل تمرين على الوعي.
لأن الكاتبة لا تُخبرنا عن “أشرارٍ هناك”، بل تهمس لنا:
انظروا جيدًا حولكم... وربما داخلكم أيضًا.”

الشرّ، في نهاية المطاف، ليس غريبًا عن الإنسان؛
لكنه يصبح خطرًا حين يتحوّل إلى عادة جماعية، وحين نكفّ عن تسميته باسمه.

--------------------------------------------------------------------------------------- 

* باحث في السوسيولوجيا والانثروبولوجيا

 

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق