فؤاد بلحسن - أوركسترا قيادة الغباء زمن التحرير: كيف تكشف الأحداث الكبرى العقولَ المتورِّمة؟ «عن لعبة العودة المزمنة إلى التاريخ قصد إرباك الحاضر» - القلم 3000

اَخر المشاركات

القلم 3000

مدونة القلم 3000، متخصصة في قضايا الفكر والشأن العام وفن العيش.

الأحد، 9 يونيو 2024

فؤاد بلحسن - أوركسترا قيادة الغباء زمن التحرير: كيف تكشف الأحداث الكبرى العقولَ المتورِّمة؟ «عن لعبة العودة المزمنة إلى التاريخ قصد إرباك الحاضر»



 ثمة سؤالان مُحَيران يتعين طرحهما ومناقشتهما بجدية على أوسع نطاق وبلا إبطاء: لماذا يجري التعامل مع الأحداث الكبرى بعقل مُغَفَّل؟ ولماذا كُلما تتعلق الأمر بهذه الأحداث الكبرى المصيرية، يجري اجترار، على مستوى شبكات التواصل الاجتماعي، أحداثَ وقعتْ بين الصحابة قبل 14 قرنا في سياق الصراع حول الشرعية والسلطة والتأويل، لا من أجل محاولة إعادة كتابة التاريخ، بل من أجل توظيفه أيديولوجيا بما يُربك الحاضر وأسئلته وقضاياه؟

ربما يبدو للبعض أن الوقوف على هذه الأسئلة ليس ذي موضوع، باعتباره مجرد اتهام لا طائلة من ورائه يوجِّهه المثقف للجمهور في زمن الشبكات الاجتماعية، لأنه يُحمل هذا الجمهور ما لا يطيقه من واجب البحث التاريخي والتنقيب على الحقيقة. لكن أليس من مهام المثقف أن ينبه إلى خطورة القفز على ما هو ضروري لتحصيل العلم بالظواهر والحقائق، أي خطورة "التْمزْرِيگ" [التسرع المرتكز على الغباء] بَدَل التَّـرَيُّث والتَّبيُّن أولا؟! فكيف يُعقل ألا ننتبه ونُنبه، في الآن نفسه، إلى خطورة أن نظل صامتين إزاء محاولة أولئك المحللين المزيفين ومطلقي الخطابات الجوفاء الذين لا يصنعون الأحداث لكنهم يصرون على إعطائها معنى مُحددا وفق مجاز عُصابي وخيال مريض مُدَّعين أنهم يقولون ويمثلون الحقيقة؟

فعمليا، إذا لم نقف على هذه الحيثيات فسيتساوى العِلم بالجهل، اليقين بالظن، الجِد بالهزل. وهنا بالتحديد تَكمن مَهمة ومسؤولية المثقف على درب التنوير. فالرهان هنا هو الخروج بأمة وبجغرافيتها الإقليمية من التبعية وضغوط الاستكبار نحو الاستقلال والقوة والتحديث.

*

كشفت جولة الصراع الأخير، المباشر والمكشوف، بين إيران وإسرائيل على خلفية استهداف هذه الأخيرة لقنصلية الأولى بدمشق بتاريخ 1 أبريل (2024) وما تلاها من رد ناري واسع من لدن الحرس الثوري الإيراني بمئات الطائرات المسيرَّة الاقتِحامية والصواريخ الباليستية والـمُجَنَّحة، فيما بات يُعرف بهجوم 14 أبريل (2024)، (كَشَفت) عن استدعاء جديد للتحليلات الاستراتيجية الغبية ولمحاولات التزييف المتعمَّد للوقائع والحقائق.

ربما لاحظ البعض أن وصف الرد الإيراني بالمسرحية ليس بجديد. فقد سبقه وصفٌ مُماثل إلى حد التطابق لردها الانتقامي على عملية اغتيال الجنرال قاسم سليماني بتاريخ 3 يناير (2020) من خلال قصفها لقاعدة «عين الأسد» الجوية الأمريكية في العراق بتاريخ 8 يناير 2020. بل وسبقها وصف الصراع بين إسرائيل وحزب الله بالمزيف أيضا، باعتباره مجرد استعراضات متواطَئ بشأنها بين الفينة والأخرى (مثلا، يعتبر هذا الرأي الـمُبخس لأهمية وقوة عمليات حزب الله ضد إسرائيل على طول شريط التماس بين جنوب لبنان وشمال فلسطين المحتلة كعمليات إسناد للمقاومة الفلسطينية منذ اليوم الموالي لعملية طوفان الأقصىى لـِ 7 أكتوبر (2023) أن حزب الله يضرب فقط الأسلاك الكهربائية لمواقع التجسس الإسرائيلية(!)) [نعم، حتى مجرد كتابة هذه الآراء السخيفة يُضيع من وقتك كقارئ جاد، ولكني مجبَر؛ حتى أُتِم عناصر المشهد!). كما يمكن التذكير هنا أيضا باتهام قيادات المقاومة الفلسطينية بتهريب أبنائها للدراسة والعمل وتحصيل الثراء خارج فلسطين بينما يُزج بأبناء الشعب الفلسطيني في أتون الحروب (هذا ما قيل بشأن أبناء إسماعيل هنية قبل أن يُستشهد، بتاريخ 10 أبريل (2024) سِتة من أبناءه وأحفاده جُملةً في منطقة مخيم الشاطئ، وهي واحدة من أخطر مناطق الحرب الدائرة بشمال مدينة غزة).

نحن إذن أمام سيناريو يتكرر كل حين؛ غايته تزييف الواقع والتدليس على العقول. وهو ما يضطرنا إلى طرح أكثر من سؤال ومحاولة الإجابة عنه: هل الأمر مخطط له أم هو عفوي؟ من يدير هذه الأوركسترا المتكررة وكيف؟ ومَنِ المستفيد من تشويه الحقائق بشأن هذه المعارك المصيرية التي يخوضها المقاومون من أجل تحرر دول وشعوب المنطقة؟

سأعود إلى 2006، تحديدا حرب 2006 بين حزب الله وإسرائيل في جنوب نهر الليطاني على خلفية اختطاف الحزب لجنود إسرائيليين بِقصد إطلاق سراح أسراه، وفي مقدمتهم عميد الأسرى اللبنانيين، وَقتئذ، سمير القنطار..

فحين صدَّ حزب الله الهجوم الإسرائيلي على جنوب لبنان، وألحق بجيشها هزيمة حقيقية وجَلية، تمثلت في منع تقدمه أولا وتدمير دباباته ثانيا، زيادة عن قتل جنوده ثالثا، أخذ اسم حزب الله يتردد صداه في كل أرجاء الوطن العربي والإسلامي، باعتباره نموذجا أولَ للفعل المقاوم ولثقافة الصمود والتعبئة الشعبية في خط التحرر- خاصة وأنه هو الوحيد لذي سبق وأن دفع إسرائيل إلى الخروج من أراض محتلة (جنوب لبنان) بدون قيد أو شرط سنة 2000، بعد سلسلة عمليات استنزاف بطولية. ومُذَّاك، قَرر الغرب، تحت قيادة أمريكا وإسرائيل، أن يقود حملة إعلامية واسعة لتلطيخ صورة الحزب. فاستعمل في ذلك نخبا ثقافية وإعلامية عربية مرتزقة، إلى جانب تصعيد خطاب الكراهية المذهبي ضمن سردية «سنة ضد شيعة وشيعة ضد سنة»، وما إلى ذلك. نتذكر سنة 2010 التصريح العلني أمام الكونغرس لسفير أمريكا لدى لبنان (2004-2008) ومساعد وزير الخارجية الأمريكي، جيفري فيلتمان، الذي قال فيه أن أمريكا أنفقت عقب حرب 2006 ما يُقدر بـ 500 مليون دولار في حرب إعلامية ضد حزب الله لتشويه صورته والحد من جاذبيته لدى الناس والشباب بصورة خاصة. وقد كانت قائمة الاتهام جاهزة وواسعة: ممارسة الإرهاب، الاتجار في المخدرات، السيطرة على الدولة اللبنانية، ممارسة الاغتيالات السياسية، قتلُ أهل السنة، تدمير المساجد، وما إلى ذلك من الاتهامات. وقد كان هذا قبل الحرب الأهلية السورية واصطفاف الحزب مع النظام السوري ضد معارضيه المسلحين. حيث كانت هذه الحرب فرصة أخرى للترويج للنعرات الطائفية وتحريف النقاش في بعده الجيوسياسي المركب إلى بُعده الديني التصارعي الصِّرف. حيث ساهمت فيه، إلى جانب الغرب، جهات عربية، سياسية (معظم دول الخليج بخاصة) وإعلامية (بما فيها قناة الجزيرة والعربية). فالظاهر هنا كان الدفاع عن استهداف الحزب، لكن الخفي هو استهداف ظاهرة المقاومة باعتبارها خط دفاع أساسي عن مشروع الاستقلال والقوة، أي مشروع التحرر.

وفي خضم هذا الهجوم على الحزب ومشروع المقاومة بشكل عام، أخذت ورقة «الصراع السني والشيعي» أبعاد أوسع، حيث جرى الاستثمار فيها بطريقة أعمق وأكثر تدميرا للنسيج الثقافي-الديني العربي-الإسلامي. فقد انضمت إلى الجوقة استخبارات الدول التي ترى في فكرة القومية العربية أو وحدة المسلمين أو فكرة وحدة ساحات المقاومة تهديدا لمصالحها الجيوسياسية، وفي مقدمتها إسرائيل وبريطانيا وأمريكا والسعودية. فظهرت قنوات فضائية ورقمية وحوارات سياسية وحملات إعلامية تُركز على فكرة عداء الشيعة للسنة وعداء السنة للشيعة، واستحالة أي توافق أو تساكن أو تعايش أو عمل مشترك بينهما. وطرأت على السطح مجددا أفكار متشددة وسخيفة في نفس الوقت؛ مثل "أن إسرائيل أفضل من الشيعة"، و"أن السنة هم سليلو يزيد بن مروان وأنهم معادون لأهل بيت الرسول"، و"أن الشيعة يطعنون في عرض الرسول" وما إلى ذلك من التفاهات والأكاذيب، في محاولة لاستيراد كل أزمات ومشاكل التاريخ الإسلامي إلى حاضر المسلمين، حتى يعيدوا تكرار مآسيهم التاريخية بغباء منقطع النظير. وكان كل هذا بتخطيط وإشراف من لدن الاستخبارات الغربية والإسرائيلية والسعودية والإماراتية. (أذكر هنا أن قناة BBC البريطانية، أعدت شريطا وثائقيا جيدا حول دور الاستخبارات البريطانية في التحريض المذهبي في العالم الإسلامي، تحت عنوان: «أثير الكراهية» [أنظر الرابط: https://rb.gy/l3y52y ]. فإذا لم يُقنعك ما أقول هنا، فيمكنك الاكتفاء بمشاهدته. وحينها، احكم بنفسك!).

ومع أن خيوط اللعبة صارت مكشوفة إلى أبعد الحدود، ما زال البعض يُمعن في غض الطرف كأنه مُسَرَنَم ويستمر في الانخراط في توحش الخطاب والممارسة المذهَبِيَيْن بطريقة مَرضية أقرب ما تكون إلى العُصاب.

اللعبة واضحة لكن العقول الصغيرة لا تُفكر وإنما تَتْبَع وتُـكَرر ما لُقِّنت، حتى أنها لَتَخَال أن ما تقول هو مِن بَنات أفكارها. سأختصر: يجري استثمار مشايخ مغمورين، من السنة والشيعة- بعضهم تلقى تكوينه الفقهي والإعلامي تحت إشراف أجهزة مخابرات-، ثم يُقدَّم له أجرٌ سَخـي وتَمْويل لقناته الفضائية أو صفحته الإعلامية. وعبرهَا، يَشرعُ في بث رسائل التحريض المذهبي باسم السنة ككل أو الشيعة ككل (من أعطاه هذا الحق؟!)؛ بحيث يُحرِّض هؤلاء على أولئك أو العكس. بعدها، يتلقى جمهور المسلمين رسائل الكراهية والتحريض هذه، فيبدأ السني في الرد عليه إذا كان الشيخ شيعيا، ويبدأ الشيعي في الترويج لأفكاره إذا كان الشيخ شيعيا، والعكس صحيح أيضا، فتنتشر تلك الأفكار المسمومة بين الناس بطريقة تُوتِّر العلاقة بين أتباع الـمَذْهَبين لِـما تَحمل من سُباب وطَعْن وتَكفير واتِّهام وتَشهير بالرموز الخاصة بالجانبين. فيتحرك الرأي العام يُمنة ويسارا، في وقت لا يُمثل فيه هذا الشيخ مَرجعية مُعتبرةً داخل مذهبه، فلا هو بعلاَّمة/مَرجع في المسائل الشرعية أو مصدر للفتوى أو رئيس على مؤسسة دينية محترمة ورصينة. هكذا تنطلق الصراعات بين الجمهور بناء على أفكار يبثها سفهاء لا قيمة مَرجعية لهم، ممن لا يصلحون لأن يكونوا قدوة في الدين والدنيا على السواء. لكن غَباء الجمهور يجعل منهم مصادر للفتوى عِوض أن يرى فيهم مصدرا للبلوى.

والملاحظ اليوم أن خوارزميات وسائل التواصل الاجتماعي، التي تَعُد علينا أنفاسنا وكلماتنا، وتُحارب كل خطاب، مكتوب أو مُصوَّر، يؤيد الحقوق الفلسطينية أو يدعم المقاومة، بطريقة يَصعب معها الإفلات من شِباك رَقابتها (حيث الكلمات-المفاتيح الممنوعة تُعد بالمئات [كفلسطين، غزة، المقاومة، حماس، حزب الله، حسن نصر الله، السنوار، وغيرها من الكلمات]، بل إن حتى محاولات الالتفاف على حَظر هذه الكلمات عبر ابتكار لغة رمزية جديدة تلقى الصَّد)، تَجِد هذه الخوارزميات تتسامح مع خطاب الكراهية بين السنة والشيعة، ولا تولي أي رقابة عليه. بل أكثر من هذا يجري التسامح مع الذباب الإلكتروني الساهر على بث رسائل التحريض المذهبي انطلاقا من لندن أو تل أبيب أو الرياض أو واشنطن. ولا تلقى عملياتهم الترويجية لهذه الرسائل المثيرة للفتن والأحقاد والكراهية أي صد أو منع! لكن كل هذا لا يثير سؤال المنخرطين بغباء في هذا الصراع المذهبي!

ثمة مصلحة غربية وإسرائيلية وسعودية في اللعب على حبل التحريض المذهبي. فبالنسبة للغرب وإسرائيل، القاعدة جيواستراتيجية في الأساس: «لتُبعِد عدوا عنكَ، أَشْغله بقضاياه الداخلية الـمُربِكة، كالتناقضات العرقية أو المذهبية والاقتتال الأهلي». في العراق واليمن وإيران وتركيا، يرى الغرب، وفي مقدمته أمريكا، فائدة في تغذية الصراعات والتوترات الداخلية. فهنالك قواعد عسكرية يتعين أن تبقى بعيدا عن ضربات المقاومات، وهنالك موارد نفط وغاز من الأفضل أن تعيش الدول التي تتوفر عليهما في جو من اللاَّاستقرار أو تحت تهديد حقيقي أو مُتخيل [تذكرون مئات الملايير التي جناها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب من تخويف النظام السعودي] . وبالنسبة لإسرائيل، فإن لبنان وسوريا، بالنظر إلى التعدد العرقي والمذهبي لديهما، يجب أن يبقيا موضوعا للاستثمار في التناقضات الهوياتية قصد تقويض الكيانين من الداخل. أما بالنسبة للسعودية (وحتى الإمارات)، وفي غياب قوة علمية وبشرية وعسكرية ذاتية، وفي غياب عقل استراتيجي يفكر في قواعد أكثر نظافة لتدبير السياسة الخارجية، فإنها تلجأ إلى اللعب القَذِر في ساحة إثارة النعرات المذهبية والطائفية حتى تَتَسَيد المشهد السني ضد إيران وعلى حساب تركيا وتنظيم الإخوان المسلمين ونظراءهما من تيارات الإسلام الحركي السني.

*

ضمن هذه الخريطة لصراع النفوذ والمصالح، تدخل معركة الوعي بالمصير وقضايا التحرر. فمن يَنظر إلى إيران باعتبارها دولة شيعية "تقتل" السنة، همُّها الوحيد توسيع التشيع في العالم الإسلامي، سوف لن ينظر البتة إلى دورها التحرري في المنطقة. حتى أن النقاش بشأن نشر التشيع في العالم العربي يُمسي مجرد حوار طُرشان لا فائدة تُرجى منه سوى ألم الرأس. وقد بَلغ الأمر بالبعض أنه ما عاد همه النظر في نشر الإلحاد أو الصَّهْينة، بل يرى فيهما خيرا لا يراه في التشيع. وهذا مما يُضحك ويُبكي في آن. لكن هل يمكن إخفاء جانب من الأدوار الاستراتيجية الإيجابية لإيران في المنطقة ؟ من يُحاول كمن يُخفي الشمس بالغربال! ويجبب أن يعني هذا الكلام غياب أدوار سَلبية لإيران في المقام. فماذا قدمت إيران للمنطقة؟

في العراق، دعمت إيران قوى المقاومة إلى أن تمَكنت من إخراج أغلب القوى العسكرية الأمريكية وتحالفها الغربي هنالك. وساهمت في تحطيم محاولة تنظيم داعش السيطرة على جزء واسع في البلاد (هل حدثت أعمال مؤسفة، ذهب ضحيتها مدنيون؟ بالتأكيد، لكن منِ المسؤول الأول عنها؟ إيران أم العراقيون؟ وللتدقيق أكثر: من المسؤول عنها، العراقيون الذين دافعوا ضد تقسيم الدولة أم مَن سَعوا، بتمويل غربي-خليجي، على تقسيمها إلى ثلاث دويلات – كردية في الشمال، سنية في الوسط، شيعية في الجنوب؟). في أفغانستان، دعمت حركة طالبان في تحقيق نصرها على أمريكا وطردها المذل من البلاد بتاريخ 31 غشت 2021. في لبنان، ساعدت اللبنانيين، بين 1982 و2000، على دحر إسرائيل من جنوب البلاد. في فلسطين، وقفت مع المقاومة وعوائل الشهداء والشعب والقضية، عسكريا وماليا وسياسيا وديبلوماسيا وإعلاميا، إلخ.

لا شك أن النفوذ الإيراني زاد في المنطقة. لكن ما لا ينتبه له البعض هو أنه جاء على حساب أخطاء أعدائها وخصومها. كيف ذلك؟

·      دخول إسرائيل لبنان عام 1982 دفع إلى إنشاء وتقوية حزب الله.

·      إسقاط نظام طالبان في أفغانستان سنة 2001 دفع إلى خلق شبكات دعم وإسناد لقوى سياسية حليفة لإيران.

·      إسقاط نظام صدام حسين من قبل أمريكا سنة 2003 أدى إلى ظهور المقاومة العراقية الحليفة لإيران.

·      محاولة إسقاط النظام السوري من لدن الخليجيين، دفع إلى تمتين العلاقات الجيوسياسية بين النظام وإيران.

·      التدخل العسكري السعودي-الإماراتي المباشر في الصراع بين اليمنيين، دفع إلى تقوية الحوثيين أضعاف المرات بدعم من إيران.

 لا شك أن هذا يُعتبر تدخلا في شؤون دول عربية. هذه خلاصة طبيعة لحالة مُعاينة، واضحة، لا لُبس فيها. لكن ما لا يريد أن يُقره ويعترف به البعض، هو أنه تم بدعوة من عربٍ  وليس من جنس غيرهم. كما أنه يأتي ضمن خَطِّ المواجهة لقوى استعمارية أجنبية وليس لتكريس هيمنتها على الحكم أو توسُّعها الجغرافي.

لنكن واقعيين أكثر، ونَخوض في المباشر: هل كان للعراق أن يتحرر من الهيمنة الأمريكية على قراره السياسي بدون دعم عسكري إيراني؟ هل كان للدولة العراقية الجديدة أن تَصُد هجوم تنظيم داعش المتطرف بدون تأطير ودعم من فيلق القدس الإيراني؟ هل كان لإسرائيل أن تخرج من لبنان بدون حزب الله المدعوم إيرانيا؟ هل كان في استطاعة الحوثيين أن يدافعوا عن أنفسهم ضد عدوان سعودي-إماراتي-غربي خارجي على بلدهم دون السلاح الإيراني؟ وقد تدخلت كل جنسيات الإرهابيين في العالم في سوريا للإطاحة بالنظام السلطوي هنالك، هل من المجدي أن نتحدث عن تدخل إيراني يرى دولة حَليفة له على وشك أن تسقط في يد مسلحين متطرفين شَوَّهوا انتفاضة شعب ضد مستبِدِّه وأعلنوا العداء لكل مختلف لهم، مذهبيا ودينيا، سنيا وشيعيا ومسيحيا، جَهارا نهارا؟ وهل كان للمقاومة الفلسطينية أن تصمد كل هذا الصمود في غياب دعم إيران لها؟ بل هل كان للقضية الفلسطينية أن تبقى حية وقوية منذ اتفاق أوسلو في غياب إيران ورفضها التنازل عن الحقوق الفلسطينية رغم كل الاغراءات التي عُرضت عليها في هذا المقام؟

فإذن لابد من طرح الأسئلة الضرورية. فما إن تُعطى لتحركات إيران السياسية والعسكرية دلالات ضمن معادلة التحرر والصراع ضد الهيمنة حتى تأخذ فكرة التشيع والشيعة حجمها الطبيعي والمحدود بلا تضخيم متعمد أو ساذج. وإلا ما معنى دعم إيران لفينزويلا ولكوبا ولعلاقاتها مع كوريا الشمالية، هل هي أيضا تدخل ضمن عمليات نشر التشيع. إن الخلاصة التي لا يُريد ان يعترف بها البعض، وهي أن المنطقة استفادت من إيران في خط التحرر من الهيمنة والاستكبار أكثر مما تضررت إيران من المنطقة برفضها الجلوس مع الغرب على مائدة رابح-رابح.

وهذا ليس كل شيء...

*

تكشف خيوط اللعبة عن وجود تلازُم حقيقي بين تصاعد التحريض المذهبي من جهة وتوسع قوة محور المقاومة من جهة أخرى. فكلما قَوِت هذه أو انتصرت في جبهة أو معركة، زاد ذلك. فالخطة لدى الغرب وحلفائه في المنطقة يقوم على تجزيئ المجزأ جغرافيا والضغط على القوى الحية: أي تقطيع أوصال الكيانات الدولتية، وتمزيق النسيج الاجتماعي من خلال بث الصراعات بين الأعراق والطوائف والمذاهب والفصائل السياسية.

وهنا، يكون من الجيد، في سبيل إيضاح خيوط اللعبة، طرح الأسئلة التالية: هل كانت إيران وراء تقسيم السودان سابقا بين شماله وجنوبه؟ هل تقف حاليا وراء دخوله الحرب الأهلية والمجاعة تحت قيادة الجيش النظامي وقوة التدخل السريع؟ أليس من ادعى دعم الشرعية الدستورية ضد حلفاء إيران في اليمن هو من دعم- وما يزال- الانقلاب العسكري في السودان اليوم؟ هل تقف إيران وراء تقسيم ليبيا إلى حكومتين وجيشين؟ لماذا لا يُنتقد الدور التركي في ليبيا كما يُنتقد الدور الإيراني في اليمن؟ ولماذا يُنتقد الدور الإيراني في العراق ولا يُنتقد الدور التركي في سوريا؟ هل تقف إيران حاليا وراء دعوات تقسيم لبنان إلى كيانات فيدرالية؟ هل تقف إيران وراء سعي الكرد إلى إقامة دول مستقلة، واحدة في الشمال العراقي، وثانية في الشمال السوري وثالثة في الجنوب التركي؟ وهل إيران هي من يُدرج حماس ضمن قوائمها الأمنية للإرهاب ويَعتقل الفلسطينيين وداعميهم داخل أراضيها؟

لقد باتت هذه الفَزَّاعة الإيرانية وسيلة تُخفي بها الأنظمة العربية انكشافها أمام شعوبها بسبب خذلانها القضية الفلسطينية ومُهادنتها للهيمنة الأمريكية والغربية على الشرق الأوسط وخيراته. هذه هي الصراحة التي يَجبُن أمامها كثير من المحللين المزيفين أو ممن يتلقون أجورهم من البيترودولار. وإقرار هذه الحقيقة لا يُلغي أن تكون لإيران أخطاءها كأي دولة إقليمية كبرى (كتركيا مثلا)، لكنها أخطاء لا تجعل من إيران قضية وجود أو عدم بالنسبة للمنطقة العربية. لأن إيران تسير في خط مصالح المنطقة لا ضدها. وعلى العرب المناوئين لها، وفي مقدمتهم السعودية، أن يُصفوا حساباتهم معها مباشرة عِوض البحث عن بدائل وأحلاف مع أمريكا وإسرائيل والغرب الإمبريالي. هذا أولا. وثانيا، يجب أن يبحثوا عن عدو أو أعداء حقيقيين بدل اختلاق أعداء وهميين وصراعات خطيرة بين الآهلين، ثم يجعلون منها أدوات تخدير لوعي الشعوب.

لن تصير الجغرافيةُ السنيةُ شيعيةً، ولا الشيعيةُ سنيةً. قد تبرز تنظيمات شيعية أو سنية جديدة، هناك أو هنالك، لكن ذلك لا يعدو أن يكون إفرازا طبيعيا لتطورات الواقع وحركية المجتمعات والمعتقدات وانتظام الجماعات. أما أن يجري قلب الخرائط المذهبية رأسا على عقب فهذا ما لا يؤمن به إلا بَليد. أما قصة تَشيُّع أفراد هناك أو تَسنن أفراد هنالك فهذا ما لن تستطيع إعاقته أكبر الآلات الأيديولوجية والإعلامية في العالم، بما فيها هوليود والجزيرة؛ لأن الأمر يتدخل فيه ما هو ذاتي أكثر منه ما هو دولتي أو مؤسسي أو تاريخي أو عائلي. هل لأحد أن يفرض على أحد أن يكون سنيا إذا أراد أو شيعيا أو مسيحيا أو بوذيا حتى. ففي الاسلام، يُطرح الكفر، قرآنيا، كمسألة اختيار شخصي "ومن شاء فليُؤمن ومن شاء فليَكفر". هذا بالنسبة للكفر،  فكيف لا يكون غيره، مما يدخل ضمن الدائرة الإسلامية أو الدينية عموما، متاحا للفرد الحر؟. ثَمةَ حالة من التدين المراهق يجب أن نتخلص منه، نحن المتدينون، في هذه البيداء التي لم تتشرب بَعدُ قيم التسامح. فهناك تربية تمتد من البيت إلى السلطة إلى الحزب إلى الجماعات الدينية (وحتى اللادينية بالمناسبة)، تُمانع فِطامَها من إرادة التسلط على الآخر. وهذه تربيةٌ ضِرار وجب كشفها ومناهضتها؛ حتى نخرج بعقلنا الجمعي من الحَجر الذي يفرضه على نفسه.

*

فإذن، حين نضع لعبة تحشيش العقول ضمن جدل التحرر والهيمنة، يمكننا أن نرى وننتقد، بجرأة وصدق، الدور الإيراني في المنطقة. فحاليا، العرب الرازحون تحت الاحتلال والهيمنة واللصوصية الغربية من يحتاج إلى إيران لا هي. وصدق أمين عام حركة الجهاد الإسلامي الفلسطينية، جِهاد النخالة، لما نَبَّه إلى أن كل ما حصدته إيران من دعم فلسطين هو عبارة عن حُزم مستمرة من الحصار والعقوبات. بيد أن البعض يُصر أن يتجاوز كل هذا ويتحدث زُورا بلسان الفلسطيني والعربي والمسلم والعقل من أجل أن يُرضي حقده الـمَرَضي ويزج بنا في أتون الصراعات المذهبية التي لا نحصد منها سوى الأحقاد والتخلف وتبديد الطاقات في معارك مزيفة. إذ ماذا ينفعل الصديقَ أو عمرَ أو عثمانَ أو علياً أن نتصارع من أجل أن نبقى متخلفين؟ وفي ماذا ينفع الإسلام هذا الانتشار المَرضي لثقافة الكراهية والتمزيق الهوياتي الذي يجعل من موالاة أعداء الأمة قيمةً فُضلى عِوض العمل على تكريس حوار الوحدة بين المسلمين؟!

*

في هذه المعركة الكبرى، المصيرية والتاريخية ضد الهيمنة الأمريكية والغربية وإرادة تَصْهِين الجغرافية والعقول من لدن الأنظمة الحليفة لإسرائيل، وَجَب أن يكون الإنسان الثالثي، عربي أو أمازيغي أو كردي، مسلم أو مسيحي، أو غيرهم، تحرريا بحق، يمد يده للجميع، قَصْد كسر طوق الاستباحة للأرض والإنسان والقيم في ربوع العالم، تحت إشراف أمريكي مباشر عارٍ من الحياء. أمْ ليس للغباء حدود؟!

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق