دورة أكتوبر 2017، الفضيحة والمِـــرآة في آن، أتَـتْ على
ما تبقى من مشروعية مجلسنا الجماعي البئيس والعاجز! أظهرت هذه الفضيحة مجددا قدرة
الفاعل المدني والسياسي على إخفاء مصالحه الشخصية خلف شعارات ومطالب عمومية. وأظهرت
كيف أن خطاب الفاعل السياسي قد لا يبتعد كثيرا عن خطاب البلطجي. وأظهرت أيضا أن
نماذج من ناخبِينا ونشطاءنا المحليين لم يرتقوا حتى إلى سلوك الحيوان في تعامله مع السياقات
العادية أو الضاغطة؛ لأن الحيوان لا يُكسر ما يعود لغيره لمجرد أنه غاضب. والحيوان
قد يهاجم غيره أو ينتفض حين يجوع بقصد أن يسد رمقه فحسب، لا من أجل أن يُـخَزِّن
طعاما هو في الأصل ليس له. وإذا حدث وهاجم كـرد فعل عن خوف داهمٍ، فالأمر يكون
متعلقا بإحساسه بأن تهديدا ما قد يمس حياته رأسا. أما في مجلسنا اجماعي، فالمنتخَب
قد يتعارك ويُكسر ويهاجم ويـهدد ويَـفتري وينطق بالكلمات البذيئة ويُراوغ ويُـغالِـط
ويكذب لا لشيء يعود علينا بالنفع، بل من أجل التغطية على سرقة مالنا العمومي!
ومن خلال مشاهدة ذلك الاستعراض الرسمي الوحشي، كان هؤلاء،
وعلى عكس ما يعتقدونه، يُـثْبتون لنا صحة ما نعتقده بشأنهم، باعتبارهم كائنات مخادعة،
حقيرة، أنانية ووصولية.
وينطبق الأمر نفسه على بعض نشطاء مجتمعنا المدني ممن كانوا
حاضرين أو غائبين يومها. فقد دأب بعض «الـجَـمَّاعِين» للمال الحرام- وليس الجمعَويين-
على الاختباء وراء يافطات جمعوية لمد يدهم على أموال الدعم العمومي خلال ولاية
بلفيل الأولى وولاية البويرماني الأخيرة على وجه الخصوص. حتى أن بعضهم شكَّـل
لنفسه «هولدنغ جمعوي»، يضم سلسلة من الجمعيات تختلف من حيث الأهداف والأنشطة لكنها
تلتقي في شخص واحد. والمثال الأبرز هنا، والمقصود حقيقة، هو «هولدينغ أفريكا-سبور
الجمعوي» الذي يضم سلسلة جمعيات رياضية تنتهي خيوطها في يد أحد المستشارين بالمجلس
الجماعي الحالي. فهذا الأخير حصل، من خلال هذا الهولدنغ-الجمعوي، في غضون 5 سنوات
(مدة ولاية البويرماني) على حوالي 50 مليون سنتيم؛ أي حوالي عشرة ملايين سنتيما كل
سنة. كما أن جمعيات ثقافية أخرى متخصصة في الفن والمسرح والبيئة والثقافة والعمل
داخل الأحياء (جمعية الوفاق المسرحي، جمعية البديل المضيء، شبكة جمعيات الأحياء،...)
حصلت من جهات عدة (بلدية، عمالة، إلخ) على ملايين السنتيمات من دون أن نجد لعملها
أثرا مهما يطابق حجم الدعم الذي حصلت عليه.
لقد استغرق واستثمر كثيرون من نشطاء المجتمعين المدني
والسياسي في البطولات الوهمية التي تدر الرماد في العيون. فهذا يُـنصب نفسه زعيما
لزمور وهو لهم سارق، وذاك يريد أن يُـقيم الدنيا ويُـقعدها ويجعل من نفسه ضحية عمومية
لمجرد أنه لم يحصل على ما يسد حاجاته الخاصة من أموال الشعب، وآخر مستعد أن يكسر
ويهشم رؤوس أصدقائه المستشارين الجماعيين لمجرد أنه تمت قسمة حصة أموال الدعم
العمومي على غيره وعليه،...
هذا دون الحديث عن برامج الدعم التي أشرفت عليها المبادرة
الوطنية التنمية البشرية والتي وقفتُ بنفسي على بعض مصائبها في بعض القطاعات
الوزارية حيث كانت الملايين توزع على غير المستحقين تحت أنظار مسؤولين كبار في بعض
المصالح الخارجية للدولة. ولو قدَّر الله أن يُفتح تحقيق عميق وشامل في هذا الشأن
لَوَجَد عشرات المسؤولين (مندوبون إقليميون، رؤساء مصالح، رؤساء أقسام،...) ومعهم رؤساء
جمعيات مكانا لهم في غرف السجون بتهم الفساد والرشوة ونهب المال العام.
أمام كل تلك المشاهد الـمَـفْيُوزية التي تتشدق بعبارات الدفاع
عن المصالح العامة، والبطولات الفارغة التي تُــخْفي نفوسا مريضة بحب الزعامة الدُّونكِشُّوتية،
والسلوكيات البهلوانية التي تستغفل الناس وتنزل بهم إلى مستوى القطيع الأعمى، ليس
أمامنا إلا أن نقول «كفى» لكل هؤلاء البهلوانات السياسية والمدنية التي فاحت روائح
قذاراتها. لسنا أغبياء حتى ترفعوا أكتافكم ومناخركم للسماء وتدَّعون الطهر وأنتم
أقذر من حمار ميت وأضر من كلب مسعور!
لقد وصلنا مرحلة يمكن فيها لرجل السياسة أو الناشط المدني
أن يموت أو يقتل من أجل مال ليس له في الأصل، بينما لا يكون له صوت أو يد من أجل
أن يقول "اللهم هذا منكر" أو يبدر إلى تغيير واقع تعيشه مدينة هو أشبه
بالفتنة؛ حيث يعيش الإنسان - رجلا أو امرأة- تحت سقف خفيض يخنق الأنفاس ويعمق المأساة
ويقتل الأمل. والفتنة أشد من القتل لو كانوا يعلمون!
أخزاهم الله!
وفي الواقع، إن ما يجري في هذه المدينة لا يخرج عموما عما
يجري في محيطها، وفي العالم. ولهذا تـمَّتَ شعور عميق، ما فتئ يتعمَّقُ بمرارة،
لدى الكثير من الناس بأننا دخلنا مرحلة إنسانية تشهد انقلابات كبرى في النظر والقيم
والسلوك بصورة مأساوية، أو ما أُسميه بـ «عصر الزَّيف»، حيث الباطل "مْطرْطْق
عينيه بْلا مَا يْحْشْم بلا
ما يْـرْمش"!
وَلَّى ذاك العصر لَـمـَّا كانت الصحافة مصدرا للتنوير والخـبـــرُ
صِنوا للقداسة، لما كان الصحفي عنوان وفاء للحقيقة، لما كانت الصحافة مهنة
المتاعب، لما كان الفاعل المدني خادما صديقا للشعب، لما كان العمل المدني متنفَّسا
على هامش القمع والسلطوية في النسق السياسي، لمــَّا كان العمل المدني عملا نبيلا
ولما كانت الجمعيات فقيرة. أما وقد صار للخبر مطبخ، وللصحافة سوق، وللصحفي تكوين في
السمسرة، وللفاعل المدني يد مع الشعب ويد على أمواله، وللجمعيات ميزانيات كبيرة
خارج قواعد المحاسبة الجمعوية والرقابة الدولتية، أما وقد وصلنا إلى هذه الحصيلة،
فقد صارت للوقاحة "معارك عامة" و"شارعُ نضالٍ ومناضلين"
و"أبطال زموريين" و"ممحاربين للفساد"! يا لجرأتهم على الله والوطن
والقيم! يا لوقاحتهم!
...
مع ذلك، يبقى ذلك اجتماع دورة أكتوبر 2017 تمرينا مهما.
أثبت أن نفخ العضلات ورفع الصوت لا يُـجد نفعا. ففي المجالس التداولية يكون النقاش
هو سيد الموقف؛ وأي انحراف عن الاعتدال والعقلانية يجعل من صاحبه مسخرةً. إذ كيف تستوي
حجج المنطق والاعتدال في الموقف والتشخيص المرتكز على معطيات الواقع مع حجج المغالطة
والبلطجة والسَّخف وتحريف الوقائع؟!!
نعم، نعترف أن هذه الدورة شكلت مؤشرا على انبثاق ثقافة
جديدة تقطع مع ما قبلها. وإذا كان لا بد أن ننوه بالدور الإيجابي الذي أدَّاه مستشارو
العدالة والتنمية باللجنة الثقافية والدورة المذكورة في
الدفع بهذه التحولات إلى مسرح النقاش العمومي. فلا بد أن نُـنَبه أيضا إلى الطريقة
التي ما يزال يستفيد منها الرئيس الحالي من حليفه الأساسي، حزب العدالة والتنمية.
فهو يورط هذا الأخير في مواجهة خصومه السياسيين والمجتمع المدني. لقد تحول الحزب
بالنسبة له إلى شماعة يُـعلِّق عليها ثقل كل المعارك العامة التي تعترضه. فالرجل
يذبح ويمسَح السكين في الحزب! وها هو هذا الحزب يجد نفسه مجددا يلعب هذا الدور
ببلاهة. والخطير في الأمر، هو أن الرئيس المذكور لا يقف مع الحزب بنفس مواقف المروءة
حيثُ يجب أن يقف. بل إنه يُـنشِف رِيق مستشاري الحزب بمكتب المجلس قَـبل أن يُـلبي
لهم أبسط المطالب وأبخسها. كأنه يقول لهم: أنتم حلفاء لي حيث أرغب أنا لا أنتم!
مع ذلك، لا يمكن أن ننكر أهمية هذا التحول الذي تم في هذه
الدورة. إذ أنه لأول مرة نجد أن توزيع الدعم لم يُـقدم، بشكل عام، لا استنادا على اعتبارات
شخصية أو سياسية ولا على معايير الاستحقاق والعدل، وإنما جرى ذلك استنادا على
معايير فيها قدر لا بأس به من الانصاف والعدالة في التوزيع، على أساس "مبدأ لا
تميلوا كل الميل" و"مبدأ القليل للجميع أفضل من احتكار القلة".
وبذلك، قُطع الطريق أمام عديد من الممارسات السلبية السابقة، وعلى رأسها تحكم
الكاتب العام السابق للبلدية في توزيع الدعم العمومي، والتوزيع المبني على مساومة من يثيرون الضجيج أمام باب
البلدية بغض النظر عن مدى أهمية مشاريعهم المقدمة وفعالية جمعياتهم المعنية، وكذا رشوة
(جزاء) رؤساء الجمعيات الذين دعموا هذا الحزب أو ذاك وهذا الرئيس أو ذلك خلال حملاته
الانتخابية وغيرها من الممارسات.
لأنه بأي حق كانت تحصل بعض الجمعيات، دون غيرها ودون وجه
حق، على عشرات آلاف الدراهم، قد تصل إلى 100000 درهم سنويا من دون أن تكون ملزمة
بتقديم الحساب حول نتائجها أو بأن تخضع لتدقيق حساباتها من طرف الممول العمومي؟
لماذا على المواطن أن يقبل باستمرار الدعم لفائدة جمعيات-شبح لا يعود عليه أي نفع
من وجودها؟
إن هذا التوجه الجديد الذي خطه المجلس فيما يخص توزيع الدعم
بصورة أوسع مطلوب أن يستمر. هذا التوجه الذي تستفيد معه جميع الجمعيات العاملة والمستحِقة
من جميع أطياف المجتمع المدني بغض النظر عن مرجعياتها الفكرية والسياسية يجب أن يستمر
ويتَـمَأسَسَ أكثر من خلال دعم المرجعيات التنظيمية وضبط أهداف التمويل وتنشيط آليات
المتابعة والتقييم والمواكبة الإعلامية لأداء الجمعيات الممَّولة.
إن جمعيات من قبيل جمعيات السواني وبسمة أمل والعمل
الاجتماعي وجمعية مدرسي علوم الحياة والأرض وبعض النوادي والجمعيات الرياضية
العاملة يجب أن يستمر حصولها على الدعم، لأنها تساهم فعليا وبفعالية في خلق
ديناميات جامعة ومُحَفِّـزة للمواهب والطاقات والكفاءات وفي احتضان شابات وشباب ما
كانوا ليجدوا سوى عروض الانحراف والعنف والجريمة والإدمان في شارع لا يقدم إلا
القليل القليل من الفرص.
كنت دورة أكتوبر 2017 تجليا جديدا لأزمة المدينة. امتزجت
فيها المشاهد الكاريكاتورية بالمافيوزية في دراما بئيسة قلَّ نظيرها.اد المستشارون
هناك يرفس بعضهم البعض، في معركة أراد أحد أطرافها أن يقلب الحقائق لفائدة الزيف.
غير أن تاكتيكاتهم العرجاء تلك ما عادت تنطلي علينا. وهم بذلك يصبون الزيت على نار
غضب الشارع الذي سئم تهريجهم القبيح.
هذا هو الغالب على حال ساستنا ونشطاء التحريف لدينا. ولهذا،
فإنا نصر ونؤكد على أن صناعة الأمل، أغلب الأمل، يبقى على عاتق المجتمع المدني النظيف
والعامل والمـُـضحي. فمجتمعنا المدني هو الداء ومنه الدواء. والمسؤولية بيد الشباب
والشابات الذين يجب أن يشمروا على أيديهم ويجعلوا من العمل المدني اهتماما ذا
أولية في حياتهم. الفراغ قاتل. والفراغ منطقة عيش الطفيليات السياسية والمدنية.
فادخلوا الساحة عليهم كافة، لتُـضيقوا الخناق على هؤلاء
"الشلاهبية".
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق