أتساءل من أيِّ غاب أتى هذا
التوحّش الذي ترعاه عصابة من اللّقالق وَجدت لها في سوق الطائفية بيئة مناسبة
لممارسة هواية الحقد. دائما مع داء الشيعوفوبيا الذي يشبه داء السّل...
دور
العصابة المعتوهة هو تحيين التجديف المستمر لاستغفال رأي عامٍ تجاوز تفاهتهم
الطائفية. قسم منهم يترنح طائفيا في انتظار أن يـنْبرِي له من يناقشه ليكتسب بذلك
دورا مقنعا لدى الدوائر الوهابية، ولكن عبثا!
وحتى لا نوغل في ملاحقة
" لْهْبال"، قلنا مرارا لهؤلاء المعاتيه الذين اصطفوا في مارشا الطائفية
صفا صفا كـ "الزرزور.. اللِّي طاحْ من فوقْ الصُّور"، أنّكم تجهلون تاريخ
هذا البلد الذي لم يكن يوما بلدا للكراهية. يحفظ العراقيون الذين عاشوا حقبة حكم
عبد الكريم قاسم الزيارة التاريخية التي قام بها المرحوم الملك محمد الخامس إلى
بغداد. هي تاريخية لأنّ عملية بناء الجيش وتحديدا القوات الجوية كان يتطلب دعما
وتدريبا. أسفرت تلك الزيارة عن منح طائرات للمغرب وكذا ضباط للقيام بتدريبات
لأفراد القوات الجوية. في تلك الأثناء وفي ظل الحكم الشيوعي، زار الملك محمد
الخامس مدينة النجف الأشرف. لم تكن زيارة عادية بل في جملة ما قام به الملك الراحل
من زيارات تؤكد أنه قام بزيارة روحية للمقام العلوي وكذا لمراجع النجف. أكثر من
شخصية عراقية عاشت في تلك الحقبة وصفوا لي الحالة التي تم فيها استقبال الملك محمد
الخامس بحيث خرج التلاميذ والطلبة لاستقباله بالأناشيد. أخبرني بالقصة أول مرّة
عالمٌ نجفي هو الشيخ جعفر الهادي بعد درس في علم الكلام أخبرني أنه كان شابا
يومها، وقال لي بأنّ الملك محمد الخامس بعد أن زار النجف والحضرة العلوية طلب أيضا
تُـرْبَـة حسينية للتبرك حملها معه إلى المغرب. حكاية التربة أيضا حكاها في لقاء
خاص المرجع الحكيم، حيث قال بأنه لما طلب التربة كان هو من ذهب حينئذ وأحضرها.
قلنا سابقا بأنّ المرجعية بالنجف
متمثلة في ثلاث عوائل: آل الحكيم، آل طباطبائي، آل بحر العلوم هم من أبناء إبراهيم
أخو المولى إدريس، ما يعني أنّ المرجعية تاريخيا في العراق ترتبط بنسب مع الأدارسة
والعلويين باعتبار الجد الأكبر: عبد الله الكامل دفين العراق. في الصُّور التي نضعها هنا، يظهر المرحوم
الملك محمد الخامس وهو يمشي رفقة وفد رسمي في الصحن الشريف، وفي الصورة الأخرى يظهر
الملك رفقة مراجع من النجف الأشرف الكبار جِدّا يجلس في تواضع مع العلماء. صورة
تؤرّخ للقاء في ستينيات القرن الماضي بين الملك محمد الخامس والفقيه الفيلسوف عبد
الكريم الزنجاني في الروضة الحيدرية بالنجف الأشرف بتاريخ 4/ 8/ 1379هـ (1960م)،
وفي الصورة أيضا الشيخ علي كاشف الغطاء النجفي. جلسة الملك محمد الخامس مع فطاحل
علماء النجف الأشرف كانت مميزة. لقد زار العلماء وجالسهم كأحدهم. الفقيه عبد
الكريم شخصية فلسفية نادرة جدّا. يُـذكر أن طه حسين حين ختم الشيخ الزنجاني كلمته
الفلسفية الشهيرة في الأزهر وقد كان طه حسين وزير المعارف قام وقبـَّل يده وقال
هذه أول يد أقبلها في الشرق. وأما الشيخ كاشف الغطاء فهو من الأعلام المجددين وكبار
مراجع الدين في عصره. هناك شخصيات أخرى التقى بها الملك محمد الخامس مثل المرجع
الكبير السيد محسن الحكيم.
هذا هو مغرب ما قبل الشّيعوفوبيا.
وهؤلاء هم من تكفرهم العصائب الوهابية بكل مستوياتها
الوهابية الملتحية المنتوفة والوهابية لاَيْتْ الحليقة...
وأزيد أهل الكراهية الأغبياء
في طين التحقيق بلّة. فالملك محمد الخامس كان رجل علم ودين، وهو ما أخبرنا به
المؤرخ عبد الكريم الفيلالي الذي عاش إلى جانبه فترة من الزمان، قال لي مرة: كان
له شخص مهمته أن يوقظه لصلاة الصبح. حكاية المؤرخ المذكور عجيبة. تذكرون أيّام حَميِ
الوطيس بين هذا المؤرخ وعدد من الشخصيات عندما أصدر كتابه حول تاريخ المغرب، وكان
من بين من أكثَـرَ في هجائهم مؤرخ المملكة: الراحل عبد الوهاب بن منصور.. هذا
الأخير لم يرد أن يرد عليه ولكن أخبرني معاونه برواية مفادها أن أصل حكاية المؤرخ المذكور
هو أنه كان من المشردين الذين يتكسبون بالقرآن. وحين سمع الملك محمد الخامس صوت
هذا الشاب وهو في جولة في الشارع، أتى به وقـرَّبه وأسكنه القصر ليقرأ له القرآن
ورعاه ثم بعثه يستكمل دراسته في القاهرة. حكاية القراءة حكاها لي الفيلالي نفسه. وحينما
كنت بالقاهرة قرأت في إحدى الصحف حوارا مطولا مع ابن المقرئ المصري الشهير عبد
الباسط عبد الصمد يحكي فيها عن قصة أبيه مع محمد الخامس. وكالعادة طلب الملك أن
يذهب إلى جامع سيدنا الحسين بالقاهرة القديمة وهناك أحْـيى ليلة سيكتشف فيها
المقرئ المذكور، وبعد أن انتهى طلب منه أن يأتي إلى المغرب ليقيم "على
طول". وأصر على ذلك كثيرا لولا وجود مانع لدى المقرئ عبد الباسط عبد الصمد.
من ناحية أخرى، سأحيل على
الشخص الذي كان أقرب الناس إلى محمد الخامس بل هو الذي كان يده اليمنى طيلة فترة
المنفى في مدغشقر وملازمه إلى المسجد باستمرار. وفي الصورة يظهر إثنان: أحدهما كان
مقربا من الراحل محمد الخامس في منفاه ومداوم على المسجد الذي كان يؤمهم فيه الملك
نفسه، وأما الذي على يساري فهو السيد نور علي من أصول هندية ومواليد مدغشقر وهو
إسماعيلي أغاخاني. كلفه الراحل محمد الخامس في فترة إدارته للعمل الوطني بمهام
كثيرة وبلَّـغ عن طريقه رسائل الى زعماء كبارٍ مثل عبد الناصر ولالانهرو وغيرهم.. وكنت
قد اتفقت مع نور علي على استكمال الحديث في هذا الموضوع، وأنا أتابعه ليس فقط
بخصوص ما نحن بصدده بل بتتبع تفاصيل الكفاح الوطني في المنفى حيث يعتبر هذا الرجل
خزانا لكل أسرار هذه الحقبة من الكفاح. لقد كان نشاط الملك الذي كان يقضي فترة
المنفى في عهد الاستعمار الفرنسي لا يتجاوز المسجد والنشاط الديني. ولكنه حسب كلام
نور علي أنه قربه مرة وأسرّ له بشيء مفاده: أنا هنا أقوم بما هو مستطاع في النشاط
الديني والاجتماعي ولكنني أنا لدي مهمة وطنية فهل تعدني بأن تكون أمين سرّ ما سأكلفك
به.. وهكذا كانت هناك حركة سرية يقوم بها الملك من منفاه وخلالها عبر نور علي
تواصل ونسق مع زعماء كثيرين لا سيما زعماء حركة عدم الانحياز.
بيت القصيد أنّ أكثر معاونٍ
للملك في منفاه كان إسماعيليا وكذلك مرافقه في المسجد كان كذلك اسماعيليا. أكتفي
بهذا القدر وفي الجعبة مزيد من المفاجآت لأنّ الذين وَلَغُوا في الطائفية هم أغراب
على المزاج المغربي ويُسَوِّقون للكراهية التي استوردوها من البيئة التكفيرية.
أقول للمرتزقة الذين ملؤوا الصحف
بالحساسيات التافهة وبالعصبية وداء السل الطائفي: ماذا عساكم تقولون في هذا،
فالتاريخ المغربي أعمق بكثير من مغالطاتكم.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق