ما حاجة المغرب إلى ثورة الآن؟ ولماذا نجد أنفسنا دائما
أمام سؤال الملكية المغربية؟ وإلى أين يتجه المغرب؟ لا تدعي هذه الدراسة الإجابة
عن هذه الأسئلة، بقدر ما تسعى إلى سبك مسالك نقاش من جهة واستنبات أسئلة جديدة في
الطريق قد تفتح النقاش على أفكار ذات راهنية.
ثورة الأفق الصدفوي ... أو حين تمسي الثورة مغامرة صعبة:
السؤال الذي تبادر إلى ذهني، ووجدته وجيها ومهما وذي أولوية
قصوى، وذلك حينما عاينت احتفاء العديد ممن يحسبون أنفسهم على أنصار الثورة ضد
النظام المغربي بدراسة لوران شالار (Laurent chalard)[1]
هو: في ظل الظروف الحالية للمغرب، هل تمثل الثورة مصلحة وطنية؟
هذا سؤال مغيَّب في منطق هؤلاء «الثوريين» وفي دراسة شالار.
وإذا كان ليس من حقنا أن نُحمل دراسة الرجل مسؤولية الإجابة
عن سؤال لا يعنيه بالضرورة، فماذا عسانا نقول بشأن أناس - أي أولئك الثوريين -
يدعون الدفاع عن المصلحة الوطنية عبر مدخل الثورة؟ أم أمسى إسقاط النظام هدفا في
حد ذاته يبيح لهم إرجاء الحديث عن مكمن المصلحة الوطنية في إسقاطه؟ إذا كانت
الإجابة بنعم، فإننا، ولا شك، نكون أمام أطفال يهوون لعب المفرقعات بغض النظر عن
حساب العواقب والمخاطر!
من منا - حتى الجبناء بيننا - لا يستهويه مشهد خروج الشعب
بصورة ملحمية إلى الشارع لإسقاط نظام لم يرتق لطموحاته؟ من منا لا يستلذ تلك
اللحظة التي يجسد فيها الشعب قمة توتره الجميل الذي يعانق القيم الوطنية الكبرى
والحلم الذي يربط قصص بطولات الأجداد بالرغبة في التموقع في روح العصر؟ بهذا
المعنى كلنا ثوريين، لأننا جميعا نحلم بالثورة التي تدك جشع القلة الحاكمة لمصلحة
العدل للجميع.
بيد أنه حينما يتحول الحلم إلى وهم مضلل أو فكرة بسيكوپاتية
مُثيرة لعواطف غير ناضجة، يكون لنا كل الحق في أن نختلف مع الثوريين حين يركبون
قارب المغامرة المميتة أو الخطيرة في الحد الأدنى.
ينطلق هذا التمييز من الحسابات الجيوسياسية التي يغفلها،
بشطارة ساذجة، العقل الثوري القصير والقاصر. متى كانت الثورة مسألة داخل-وطنية حتى
يكون الإعداد لها أو التحفيز عليها أو التبشير بها أو تأييدها ينطلق من حسابات
وطنية وينتهي إليها؟ فالثورة، حتى وإن كانت من إنجاز وطني صرف، تبقى دائما فعلا
عابرا للحدود بالنتيجة. ألم تر أن المؤرخين للشرق الأوسط يعتبرون الثورة الإيرانية
مفصلا في تاريخ هذا الشرق ولا يقفون عند الحدود الإيرانية؟ وكذلك الأمر بالنسبة
للثورة البلشفية في علاقتها بالغرب. ثم ألا ترى أن الثورة المصرية أُجهضت في
الخارج قبل الداخل؟
إن معطى «ما بعد الحدود» يصير معطىً وطنيا داخليا كلما أردت
التفكير في الثورة أو في إنجاحها. هنا، يصير السؤال التالي مشروعا بقوة: كيف تنجح
الثورة في المغرب وهي تتقاسم، مع غيرها، جغرافية تهتز بفعل الإرهاب والتطرف والمكر
الدولي والجوار غير الودي؟ هذا جيو-سياسيا. ولنا أن نتأمل استنادا إلى ذلك عمق
التحدي وجسامة المهمة وخطورة الموقف.
أما داخليا، فعلى أي مرجعية سياسية وثقافية ستتغذى الثورة
اليوم بالمغرب؟ وهل أن لحمتنا المجتمعية بلغت من الرشد ما يؤهلها لتقود ثورة تبدأ
بالوحدة ولا تنتهي بالانقسام؟ كيف نفكر في ثنائية الوحدة والانقسام على ضوء تجارب
ثورة لم تفلح في صيانة الوحدة الوطنية والدولة الجامعة وانتهت إلى حسابات
تحت-وطنية، أي طائفية ومناطقية: ففي اليمن تقوى الحراك الجنوبي الانفصالي، وفي ليبيا
صارت الدولة دولتين بحكومتين وبرلمانين، وفي سوريا (انقسم البلد إلى شمال-شرق كردي
وشمال-غرب ليبيرالي إخواني ووسط وجنوب بعثي.
والأهم، ما هي الضمانات التي يقدمها للمغاربة كل من يتبنى
خيار «إسقاط النظام» بشأن سلمهم الأهلي ووحدتهم الوطنية والترابية في ظل انعدام
ثقة عميقة داخل جغرافية البلد بين الدولة من جانب وبعض الذين يحملون أحلاما قديمة
في الشمال (حنين خاص لثورة ودولة سيدي عبد الكريم الخطابي) وأحلاما جديدة في
الجنوب (ارتباط عضوي-سياسي بسردية جبهة البوليساريو الانفصالية يتغذى على عمل
استخباراتي ودعم مالي مهم من الجار الجزائري وقوى دولية أخرى)؟ وكذلك، ما هي
الضمانات التي يمكن أن يقدمها أصحاب هذا الخيار حتى لا يتحول كل حَراك سياسي معارض
إلى حركة انفصالية بمجرد ما تبدأ قوة وهيبة الدولة المركزية في التآكل؟ هل نستطيع
أن نَعقِل تفكيرنا في الثورة في استقلال عن هشاشة الجغرافية الثقافية المغربية
التي صارت مكشوفة أكثر فأكثر (أحداث مخيم إكديم إيزيك، أحداث الحسيمة، ارتفاع في
منسوب الخطاب العنصري لدى بعض نشطاء الحركة الأمازيغية، عمل استخباراتي-تعبوي كبير
لجبهة البوليساريو في الجنوب،...)؟
هذه قراءة وأسئلة تكشف الكثير عن هشاشة فكرة «إسقاط النظام».
دون أن يعني ذلك أنها تنحاز إلى الدفاع عن فكرة «المحافظة على الوضع القائم». لأن
الوضع القائم، في الأصل، هو الداء الأساسي الذي يقودنا إلى "ثورة" قد تغامر،
بدون حساب، بمصلحة الشعب والدولة على حد سواء.
وبالعودة إلى دراسة شالار. لقد حملت هذه الدراسة العديد من
الثغرات المنهجية والموضوعية. أقلها في العناصر التالية:
وصفت الدراسة نظام الحكم بالمغرب بالديكتاتوري. وهذا وصف، بالاستناد
إلى الكثير من المؤشرات والدراسات، يـجانب الصواب ولا ينطبق مع حقائق الواقع. بل
فيه الكثير من المبالغة أو التجني حتى. فكثيرة هي المؤسسات العلمية التي وضعت
المغرب على رأس الدول العربية في مؤشر الديمقراطية (حتى أن بعضها وضعه قبل لبنان
التي لا أحد يستطيع أن يصفها بالديكتاتورية). يمكن أن نقول أن نظام الحكم بالمغرب
نظام مقيد – إذا أخذنا هنا، من دون الدخول في التفاصيل، بنظرية النظام
المقيد-المفتوح لكل من دوغلاس سي نورث، جون جوزيف واليس، ستيفن بِـي. وِيبْ، وبَاري
وينغاست. أقصى ما نستطيع قوله هو أننا أمام نظام يتلكأ في الانتقال إلى النظام
المفتوح حيث سيادة القانون والمساواة بين الناس وتحقيق تكافؤ الفرص أمام الجميع.
نعم، في المغرب هناك ضعف في أداء الإدارة والحكومات المتعاقبة وجمع بين السلطة
والثروة وملكية تنفيذية مهيمنة وريع اقتصادي واعتداء على الحريات واستمرار التعذيب
وعنف السلطة وفساد في القضاء، لكن هنا أيضا هامش واسع من حرية التعبير والرأي
والاعتقاد واحترام الملكية الفردية والعمل المؤسساتي وسمو الدستور وحياة سياسية
تقودها الأحزاب ومعارضة نشطة وغيرها. نعم، قد يكون المغرب سلطوية مرنة، لكنه ليس
بديكتاتورية بأي حال من الأحوال. وقد أثبتت ولايتي كل من اليوسفي وبنكيران هذا
الأمر بصورة واضحة، وكذلك الأمر، ولو نسبيا، في ولاية عباس الفاسي لولا شخصية
الرجل الباهتة.
· لقد استندت هذه الدراسة على عناصر إحصائية
ثلاثة: التطور الديمغرافي، النمو الاقتصادي ومستوى الديمقراطية. والملاحظ أنها
وقفت على هذه العناصر بالنسبة لمصر وتونس بصورة جدية، غير أنها قفزت عليها فيما يخص
المغرب. فقد استسهل الكاتب الاستنتاج قبل تقديم أفكار داعمة كافية له. حتى أنه
استسلم للخمول البحثي حينما قفز على معطيات الديمغرافية المغربية بدعوى عدم
كفايتها، فيحين أنها متوفرة ويمكن قراءتها وتحليلها كميا ونوعيا! وكذلك الأمر مع
الإحصاءات القديمة المعتمدة لديه بخصوص الاقتصاد والتي لا ينفع الاكتفاء بها، بَلْه
البناء عليها. وهنا إما يكون الكاتب سقط في الكسل البحثي المكشوف أو أنه دخل لعبة
الانتقاء الذي تـُحَول العمل الأكاديمي إلى مجرد واجهة لتبرير أفكار ونتائج
مسبقة! هذا دون الحديث عن عدم اطلاعه الواضح على بنية
الاقتصاد المغربي.
· لقد تجاهلت الدراسة في الحالات الثلاث المدروسة
- المصرية، التونسية والمغربية- متغيرات أساسية في نسق الثورة. أذكر على سبيل
المثال: درجة تأطير المجتمع من لدن القوى السياسية والمدنية [مصر (جماعة الإخوان
وحركة 6 أبريل)، تونس (الاتحاد العام التونسي للشغل، وباقي القوى المعارضة كحركة
النهضة والجبهة الشعبية)، وهامش التفاوض والقدرة على طرح البدائل لدى النظام (حالة
النظام المغربي بدرجة أساسية)].
· ثم، لم تقدم الدراسة تفسيرا عن سبب عدم وقوع
الثورات ضد أنظمة لا تقل سوءا إذا نظرنا إليها من زاوية العناصر الثلاثة التي
ارتكزت عليها الدراسة. بالنسبة لبعض الدول الإفريقية مثلا.
وحتى لو أغضنا النظر عن هذه الثغرات، وافترضنا أن منطلقات
الدراسة صحيحة وكذلك مخرجاتها، ألا يستدعي الأمر منا، انطلاقا من معطيات البلد
الحالية والمصلحة الوطنية، دق ناقوس الخطر بشأن التهديد الذي يحيط، في المستقبل
القريب، بالدولة ككيان جامع يعلو على الكل، بدل الاحتفاء بثورة قد تُسقط هذا
الكيان فوق رؤوس الجميع؟!
مستقبل البلد غير المأمول
في سنة 2005، طرح تقرير الخمسينية سيناريوهين لمستقبل البلد
في أفق 2025. «سيناريو المغرب المأمول والممكن» و«السيناريو التراجعي». لنترك
السيناريو الأول جانبا؛ إذ لم يستجب المغرب إلا جزئيا لجميع رهاناته، وعلى رأسها
توطيد ممارسة ديمقراطية عادية، تحسين نظام الحكامة، توفير شروط اندماج المغرب في
مجتمع المعرفة، إعادة بناء اقتصاد تنافسي، مكافحة مختلف أشكال الإقصاء والفقر
وإعادة تنظيم أشكال التضامن. ولنقف عند السيناريو التراجعي (السيناريو الأسود) كما
حدده التقرير المذكور لمغرب سنة 2025: «إن المغرب إذا لم يبادر منذ الآن إلى العمل
على تجاوز مواطن عجزه وعوائقه، مع تحويل بؤر المستقبل (أي كوابح التجديد والتنمية
المتمثلة في ضعف مؤشرات الحكامة والمعرفة والصحة والاقتصاد والاندماج) إلى رافعات
حقيقية للتنمية، فإنه سيكون في مواجهة سيناريو تراجعي. وهو سيناريو يظل محتملا،
إذا لم تصبح الإصلاحات الجارية متينة وراسخة، وإذا لم تصل إلى تحقيق أهدافها، أو
إذا أضحت محل مزايدات قابلة لإضعاف الانخراط الجماعي في أوراشها، ولكن أيضا إذا لم
تكن البلاد في مستوى التكيف بذكاء مع الرهانات الجديدة والتغيرات التي يشهدها
محيطها الدولي» (ص: 252). وحدد التقرير بعض معالم هذا السيناريو في التالي:
· تصاعد ظاهرة "مغرب بسرعات مختلفة"؛
بسبب استمرار تنمية غير متكافئة للتراب واستعداد غير كاف لرهانات العولمة. وستؤدي
مواصلة نهج تمركز الأنشطة السوسيواقتصادية على الساحل إلى تكدس السكان بالمدن؛ إذ
ستحيط بها أحزمة كثيفة يسودها الفقر والبطالة وانعدام الأمن...، مما سيزيد من خطر
الانفجار الاجتماعي والتطرف الأعمى.
· ولوج غير متكافئ للعلاج على الرغم من التحسن
النسبي للخدمات فيما يتعلق بالتغطية الصحية وتراجع الأمراض القابلة للانتقال. كما
أنه من الممكن أن نشهد تدهورا في الخدمات العمومية للصحة، مصحوبا بعجز متزايد في
مجال التأطير.
· اقتصاد قليل التنافسية، قد تتسبب وتيرة نموه
المضطربة وغير الكافية في تفاقم مشكلة البطالة على المستوى الوطني، مع ما يمكن أن
يحمله هذا النمو المتذبذب من انعكاسات سلبية وقوية على نسب الفقر والهشاشة
والاقصاء. كما يتوقع أن يتسع القطاع غير النظامي كنتيجة لعدم كفاية النشاط
الاقتصادي للقطاعات العصرية، وكفضاء بديل لضبط آثار العولمة.
· فعالية غير أكيدة للحكامة، قد تُضر بتنمية
البلاد إذا لم يتم استدراك مواطن القصور والاختلال، التي يعاني منها نظام تدبير
الشأن العام: الرشوة، الاختلال في سير القضاء، غياب ثقافة تقويم البرامج، تشتت
وتجزيئية الحلول القطاعية والمرافق الوزارية، غياب التخطيط والتدبير المعقلن للزمن
في السياسات العمومية. (ص ص: 252-254).
وختم التقرير هذا السيناريو بالعبارة التالية: «إن عرض مثل
هذا السيناريو التراجعي لا يهدف إلى تقديم صورة متشائمة عن مغرب 2025، بقدر ما
يتوخى التنبيه للمخاطر التي تُحدق بتنمية البلاد».
طيب، وبعد أزيد من 12 سنة عن كتابة هذا التحليل الاستشرافي؛
والذي نبه إلى خطورة التردد في تنزيل الاصلاحات الضرورية والتعبئة لها، في ترسيخ
المكتسبات وفي الفاعل الإيجابي مع تحديات
العصر؛ ألسنا هاهنا باقون نعيد الكثير من قصص الفشل والتيه في السياسة والاقتصاد
والإدارة؟ نستطيع أن نفهم – بدون تبرير - استبعاد الملك الوزير الأول عبد الرحمان اليوسفي،
المناضل ذائع الصيت والسياسي، الذي تصدر انتخابات 2002 وتعيينه لإدريس جطو، رجل
الأعمال والتقنقراطي. فقد فعل والده، الحسن الثاني، نفس الشيء تقريبا حينما استبعد
رجالات وطنية كبيرة ووازنة وتقلد بنفسه منصب رئيس الحكومة سنة 1961. يندرج هذا
بالنسبة للملِكَين، محمد السادس والحسن الثاني، في إطار الرغبة في البحث عن أدوار
طلائعية ومواقع بارزة على الخريطة السياسية. فكل ملك أو أمير يحمل تطلعات نحو
الحكم الفعلي والتأثير في مسار بلده لن يقبل بأن تكون له صورة باهتة إلى جانب رجال
دولة ذوو صيت وتاريخ نضالي كبير. لقد كانت ظلال اليوسفي كبيرة، أكبر مما هو مسموح
بالنسبة لملك شاب لا يندرج في قائمة الأمراء الذين ساهموا في إخراج الاستعمار
الفرنسي-الإسباني (على عكس والده، الحسن الثاني الذي نُفي مع أبيه ونسَّق مع
المقاومة الوطنية وساهم في مفاوضات التحرير)، ولا هو بالأمير الذي ترك له أبوه
هوامش كبيرة للتأثير في الحياة السياسية من موقع ولي العهد (عكْس ما كان عليه
الأمر بالنسبة لأبيه، الحسن الثاني، حينما كان أميرا ووليا للعهد حيث أدى أدوارا
سياسية وازنة إلى جانب والده كمستشار خاص وقائد عام للقوات المسلحة ورئيس أركانها
وكذا وزيرا للدفاع ومسؤوليات أخرى. ونشاهد هذا أيضا بالنسبة للأمير وولي العهد
السعودي محمد بن سلمان الذي تقلد مناصب مهمة في هرم الدولة والآلة الاعلامية
السعودية).
في إطار بحث الملك الشاب عن أدوار ومواقع، نستطيع أن نقرأ –
كمدخل أساسي – استبعاد اليوسفي. هذا الاستبعاد اعتبرته حينها الكثير من النخب
السياسية والأكاديمية مضرا بمسيرة الديمقراطية، إذ لم تر فيه أي مصلحة، كما أنها
رأت فيه تصرفا تراجعيا للتوافقات السياسية السابقة. وإذا لم تستغ شريحة واسعة من
هذا التصرف، كيف لها أن تستسيغ خروج صديق الملك وأحد أركان القرار في البلد، فؤاد
عالي الهمة، بتجربة إحداث حزب الأصالة والمعاصرة سنة 2008، والذي أريد له أن يكون
حزب الدولة، على غرار التجارب البعثية وتجربة الحزب الدستوري التونسي؟!
وهنا أيضا اصطدمت التصرفات السياسية لرجال الدولة العميقة
مع الثقافة السياسية المطابقة لمشروع العهد الجديد. حيث عكس العقل السياسي للنخبة
الحاكمة منطقا مفارقا: فأي عقل سياسي هذا الذي استطاع أن يجمع تطلعا حزبيا عتيقا
من هذا النوع مع سردية «مغرب الديمقراطية والحداثة والعهد الجديد»؟! متى كان بناء «مشروع
عهد جديد» يستند على ممارسات قديمة ثَبُتَ فشلها (والإحالة هنا على تجربة حزب «جبهة
الدفاع عن المؤسسات الدستورية» في عهد الحسن الثاني)؟. وبالإضافة إلى أنها ممارسات
عتيقة وفاشلة، فهي ممارسات تنم عن غباء سياسي واضح لا يتماهى مع المزاج السياسي
العام والوعي الديمقراطي المتصاعد ويُعاكس النمو الطبيعي للكائن الحزبي. ولهذا، دَفن
هذا المشروع رأسه في التراب عند أول صرخة لشباب حركة 20 فبراير سنة 2011. وحينما
فشل هذا المشروع، استحْدث أركان الدولة العميقة أساليب لا تقل قِدما، على رأسها
التدخل، عبر رجال السلطة وأجهزة الدولة، لتوجيه الناخبين في الانتخابات البرلمانية
في أكتوبر 2016 لفائدة أحزاب قائمة (حزبي الأحرار والصالة والمعاصرة بدرجة أساسية).
أما حبكة «البلوكاج» فهي تعبِّـر عن تغير مهم في تكتيكات القوى التي تريد التحكم
في المشهد السياسي. مع ذلك لم ترق هذه الألعاب الجديدة-القديمة وغير النظيفة،
في آن، إلى الدرجة التي تخدع وعي المواطنين بعد أن تكشَّفت عن تشكيل برلمان وحكومة
مشوَّهين لم يشهد لهما تاريخ المغرب مثيلا.
وبهذه الأساليب المعيبة دستوريا وسياسيا، تدفن الدولة
العميقة كل مقومات تحقيق المغرب المأمول والممكن. بل إنها تُـمَهد الطريق لإغراق
البلاد، على المدى المتوسط، في صراعات عنيفة تتغذى على اليأس والفقر والعنصرية
والتطرف والتطلع، تحت تأثير قوى خارجية، إلى الانفصال. وساذج من لا يرى في الأفق
هذا السيناريو. فالمغرب لن يكون استثناء على هذا الصعيد في غياب المشاركة والعدالة
والإنماء. لنأخذ هذا المثال المقارن.
انطلاقا من النصف الأول من الأربعينيات إلى بداية
الثمانينيات، عاشت يوغسلافيا (السابقة) فترة ازدهار كبير. غير أن هذا الازدهار لم
يكن عادلا البتة من الناحية الترابية (شمال مزدهر/جنوب متخلف). وحينما دخلت البلاد
مرحلة تدهور اقتصادي في النصف الثاني من الثمانينيات، ركِب الساسة اليمينيون
والقوميون المتطرفون موجة الأزمة واللاتكافؤ في التنمية ونفخوا في اللهيب العرقي
وشرعوا في تكريس التوجهات الانفصالية. وقد وجدت الدول الاستكبارية التي أرادت شرا
بهذه الجمهورية، كألمانيا والولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا، في نقط الضعف
هذه مدخلا لتوسيع عملها الاستخباراتي الهدام. وفي مطلع التسعينيات، أوصلت الأزمة
السياسية الداخلية ومختلف التدخلات الدولية غير النظيفة هذا البلد إلى أبواب حرب
مدمرة أتت على عشرات الآلاف من المدنيين والعسكريين بعضهم في الحرب الأهلية وبعضهم
نتيجة التدخل العسكري الدولي، بالإضافة إلى تدمير العديد من المدن والبنى التحتية
والمصانع والمؤسسات العمومية الخَدمية كالمدارس والمستشفيات.
وليست سوريا ببعيدة عن هذا المصير المأساوي، والذي انطلق من
أسباب مشابهة!
فما الذي يضمن، في ظل الأوضاع الاجتماعية والسياسية
والاقتصادية والثقافية والأمنية الحالية، إلى أن يلقى المغرب نفس المصير؟ شخصيا،
لا أرى أي ضامن، بما في ذلك الملك. فالملكية، كرمز لوحدة الدولة والتراب الوطني،
لن توقف زحف من ضغط عليهم اليأس والحاجة واللامساواة.
إن دولة تعيش بنِسبٍ كبيرة من الفقر والأمية واللاتكافؤ
المجالي وأفكار – كبيرة أو صغير – انفصالية أو في الحد الأدنى معادية أو لا تثق في
الدولة، لحقيقٌ بها أن تقلق على مستقبل استقرارها ووحدتها الترابية. إن تعددنا
العرقي واللغوي لن يكون في خدمة الوحدة الوطنية والترابية خارج التربية الوطنية
والعدالة المجالية المبنية على الانصاف في الاستفادة من الخدمات والتشغيل والحريات
والكرامة. كما أن مواردنا الاقتصادية وخيراتنا الوطنية لن تكفي لسد جميع حاجاتنا
ما لم يجر توزيعها بعدالة تضمن كرامة الناس.
وفي الوقت الذي لم تُحرز فيه بلدنا إلا القليل من معايير
العدل، لا ندري من أين يستقي رجال الدولة العميقة هذا الاطمئنان إزاء المستقبل.
لقد عاينا خلال السنين الأخيرة تصاعد الخطاب العرقي واليأس من قدرة الدولة على
تلبية عطش المواطنين إلى الحرية والكرامة والعدالة الااجتماعية.
لقد حمل العهد الجديد آمالا وردية. لكن سرعان ما تحول إلى
انتظارية من نوع جديد بعدما راكم سلسلة من الأخطاء الكبيرة.
فالتوافق السياسي بين القصر والمعارضة الوطنية الذي أخرج
المغرب من عنق الزجاجة وأدخله مرحلة الانفراج السياسي، سرعان ما أغلَق قوسه محمد
السادس، وفتح التجربة على أفق جديد يراهن على الاقتصاد من خلال تعيين إدريس جطو،
رجل الأعمال، على رأس الحكومة. فقد حاول الملك أن يدفع، من خلال ذلك، بالنمو إلى
الأمام لاكتساب مشروعية الانجاز، إلى جانب مشروعيته الدستورية والدينية. لم ينجح
جطو في تنفيذ الخطة إلا نسبيا بعدما رفع من مؤشرات النمو الاقتصادي، بينما لم تسلم
هذه الخطة من الانتقاد السياسي الحاد بسبب الحيد عن سكة الديمقراطية من جهة، ومن
جهة أخرى لأن حكومة رجل الأعمال لم تنجح في امتحان المؤشرات الاجتماعية ومؤشرات
الحكامة؛ إذ أنها لم تقض على الفساد ولم تُخرج إلا فئة قليلة من الفقر والعطالة في
ظل نسب نمو اقتصادي متوسطة وغير كافية لامتصاص 400000 عاطل سنويا كمعدل ضروري لخفض
البطالة إلى معدل مقبول، كما أن مؤشرات التعليم والصحة بقيت في مستويات تبعث على
القلق. وحين عاد الملك إلى سكة المسار السياسي الديمقراطي؛ من خلال تعيين رئيس
الحزب الفائز في الانتخابات، عباس الفاسي، على رأس الحكومة؛ لم يفلح هذا الأخير في
تنشيط الفضاء السياسي ولم يدفع لا بالحكامة ولا بمؤشرات التنمية البشرية ولا بإصلاحات
كبرى تستحق الذكر. حتى أن فترته مرَّت كما لو أنها مرحلة كمون في النقاش العمومي
وفي برامج الإصلاح. لقد بدا وكأن حكومته مجرد حكومة تصريف أعمال.
مع موجات الربيع العربي والدستور الجديد وقانون «ما للملك
وما لبنكيران» توسَّع مجال الفعل السياسي في البلد، وكأننا دخلنا دورة إنتاج موسعة
للسياسة، تغذت على وقع الدينامية التي خلقتها حركة 20 فبراير والاحتجاجات الاجتماعية
والمظاهرات السياسية التي نُظمت محليا ووطنيا من جانب، وعلى الدينامية التي
أحدثتها قرارات حكومة بنكيران في مجالات الوظيفة العمومية والمقاصة والدعم المقدم
للأسر ومنظومة الصحة وصناديق الاحتياط وبرامج التكوين، إلخ، ومن جانب ثالث
بالدينامية التي خلقها شخص بنكيران نفسه كفاعل استثنائي في مرحلة استثنائية استطاع
من خلال قدراته التواصلية وحنكته السياسية أن يمرر قرارات كبرى حرَّكت بنىىً عميقة
في الدولة والمجتمع.
ولمـا بدا للقصر والمقربين له والمستفيدين منه أن بنكيران
أجاد استثمار اللحظة السياسية بطريقة جعلته يتصدر المشهد السياسي كراع لحيوية هذا
المشهد وللإصلاحات المهَيكـلة للشأن العام، تقرر على أعلى مستويات القرار أمور
كثيرة، أهمها:
1. ضرورة إعادة تشكيل مشهد سياسي ينضبط كليا لمصالح القصر
وللنخب السياسية والاقتصادية المُـقربة منه بعد أن تجرأت حكومة بنكيران على اتخاذ
قرارات ومواقف لا تخدم هذه المصالح؛
2.ضرورة إعادة التوازن للمشهد الحزبي الذي بدأ يميل لصالح
قوى لا تنهل مشروعيتها من القرب من السلطة، بل من يقظة فئات عريضة من الشعب؛
3. ضرورة تحطيم بنكيران سياسيا.
وعموما، هذا ما جرى تنفيذه بالفعل؛ إذ لم يكن البلوكاج،
مثلا، سوى تكتيكا دُبر ليلا بحِنكة ونُـفذ في واضحة النهار بلا
"ماكياج". وقد حسِبَت الدولة العميقة (أو ما يسمى بالمخزن – كنسق من
العلاقات هدفه الحفاظ على مَلكية متحررة من أي قيود مرجعية تمليها ضرورات العصر
ومصلحة المجتمع، أو بعبارة أخرى، كنسق يهدف إلى الحفاظ للملكية بسلطات واسعة) لكل
شيء باستثناء وعي الشارع الذي كشف أبعاد اللعبة قبل وبعد البلوكاج، وانتقدها بشدة.
بل حتى أن كثيرين ممن توجهوا لصناديق الاقتراع للتصويت في انتخابات 7 أكتوبر 2016،
بادروا لاحقا إلى الاعتذار عن فعلهم ذلك وأعلنوا فقدان ثقتهم في الدولة (العميقة)
بعد أن عاينوا تدخلها السافر لمصلحة أحزاب بعينها. وفي ظل هذا الوعي، تحول
بنكيران-الضحية بالنظر إلى الطريقة التي أُبعد بها إلى مفصل تاريخي، كمؤشر بالغ
الدلالة على المنعطف الانتكاسي الجديد الذي دشنه البلد في مسيرته الطويلة والمملة
نحو الديمقراطية والإنماء.
وقد جاءت أحداث الحسيمة فسلطت الضوء أكثر على مشاهد جديدة
من هذا المنعطف الانتكاسي الجديد. فما إن شرعت "التماسيح" و"العفاريت"
(=رجالات الدولة العميقة) في "التبوريد" السياسي وأخذ صور لقهقهات النصر،
معلنين احتفاءهم بإسقاط "الثور" (بنكيران)، حتى داهمتهم هذه الأحداث لمحرجة
والمربكة من حيث لم يتوقعوا. وهكذا، أفسدت توقعات بنكيران التي صارت حقيقة مهرجان
نصرهم؛ فلطالما حذَّر الرجل من أن جَـرفَ السياسة والمسار الطبيعي للديمقراطية قد
يُعيد موجة الربيع العربي للمغرب. وكذلك كان! ومن يضحك أخيرا يضحك كثيرا!
لقد أراق
مأزق الحسيمة ماء وجه الدولة، وأركعها بصورة مهينة. فلا العسكرة ولا القمع
يستطيعان أن يمحيان الآن صورة هرولة الوزراء من وإلى الحسيمة. ولعل "ما عندي
بو الوقت" تمثل خير تعبير عن درامية المأزق.
المهم في
هذه الأزمة هو أنها وضعتنا من جديد على منصة الأسئلة الكبرى: ما موقع كرامة الناس
في فلسفة تدبير الدولة؟ كيف يجري توزيع الثروة في البلد؟ ما هو الموقع الذي يجب أن
تأخذه وزارة الداخلية في الهندسة الحكومية؟ أي مؤسسة أمنية نريد؟ ما هي الضريبة
التي تؤديها الدولة العميقة (دولة القلة) ودولة الحق والقانون (دولة الجميع) حين
يجري جرف التمثيلية الحقيقية للناس داخل الوسط الحزبي لفائدة تمثيلية مزيفة؟ لماذا
نفشل دائما في تنزيل مشروع ربط المسؤولية بالمحاسبة؟ لماذا يجد المجتمع نفسه دائما
في مواجهة أو انتظار تدخل المؤسسة الملكية (فضيحة دانييل كالڨان كمثال آخر على هذا
التماس الصعب بين المؤسسة الملكية والمجتمع)؟ إلخ.
من الدولة العميقة (دولة القلة) إلى الدولة كمؤسسة المؤسسات (دولة الجميع):
عوض أن
يكون مأزق الحسيمة، كحدث كبير، وأمثاله محطة حقيقية للنقاش العمومي المفضي إلى قرارات
كبيرة، عملية وجريئة، جرى تدبيره بمنطق الدولة العميقة الذي يشكل في ذاته جزءا
المشكل لا الحل: في البدء، عبر تجاهل المطالب وعدم التسريع في محاكمة المسؤولين عن
مقتل محسن فكري، ثم عبر تجاهل القيادة الميدانية للحراك الشعبي، ثم عبر الاعتقالات
الواسعة والعنف. وأخيرا، عبر التهيـيء لتدخل الملك بما يكرس مشروعيته السياسية
كرجل حل. بينما كان المفروض أن يتم تهـييء الشروط منذ البدء لحل هذا ب المأزق بما
يتوافق ومصلحة الدولة ككيان جمعي، عبر إعمال القانون وإقرار الحقوق وإشراك السلطات
والهيئات العمومية والمدنية المعنية. لأننا، كشعب، نحتاج في مثل هذه الحالات إلى
حل جماعي توافقي يُـراكم ثقافة خاصة بالتدبير السلمي للأزمات في المستقبل.
وإذا كان
يبدو لأركان الدولة العميقة أن تدخل الملك في مثل هذه الملفات يشكل مصدرا لتكريس
مشروعية الملك، فإننا نعتقد أن الأمر أكبر من هذه الحسابات الضيقة. فمهام الملك
محددة دستوريا. ومخطئ من يماثل بين سلطات الملك داخل الدولة وسلطات الأب داخل
الأسرة. فالرمزية السياسية والتمثيلية العليا شيء والأبوة شيء آخر. وإذا كان الأب
يحب حسابات الميكرو-تدبير للجماعة القريبة، فإن على الملك أن يحسب حسابات
الماكرو-تدبير لدولة الجميع. أي الدولة التي تصير فيها المؤسسات ناضجة بصورة
تستوعب اختلافاتها وتقابلاتها وتناقضاتها. فلا يجب أن نسعد لتدخلات الملك حين تعبر
أو تكرس عدم نضج مؤسسات الدولة وهيئات المجتمع المدني. وهذا مدخل للتمييز بين
الدولة والملك. فالملك رئيس الدولة. والدولة، كمؤسسة المؤسسات، تتموقع فوق مؤسسة الملكية.
والذين يريدون – وهم أركان الدولة العميقة والمستفيدون من نعمائها - أن تكون
الدولة هي الملك والملك هو الدولة يُعرضون الملكية لاهتزازت هي في غنى عنها. لأن
الشعب حالما يفقد الثقة في المؤسسات الأخرى، الوسيطة، سيطالب الملكية بأكثر مما
تُطيق النهوض به أو أكثر مما ينبغي لها النهوض به في منطق الدولة الحديثة. وحينما
تقوم الملكية بأكثر مما ينبغي لها أن تقوم به، تتأثر سلبا باقي المؤسسات. فالوساطة
بين الملكية والمجتمع في مصلحة كليهما؛ لأنه حينما تأخذ الملكية حجمها الطبيعي، يستفيد
المجتمع أكثر من المؤسسات القريبة منه.
إن بنية
الدولة العميقة، أي المخزن، التي تجمع بين ثالوث الريع والأيديولوجية والعنف،
مكلفة جدا. وكلما صارت المؤسسات التي تدعي حماية مصالح النظام مكلفة جدا كلما زاد
سخط المجتمع على النظام.
في هذا المناخ العام، بقدر ما لن تكون الثورة على النظام في صالح المجتمع، لا يمكن أيضا أن يستمر الوضع على حاله كما هو في ظل ترجيح كبير لكفة الاغتناء والاغتنام السريع والسهل لصالح القلة الحاكمة والمستفيدة من خيرات البلاد. أو بعبارة أخرى، إن الاتجاه الذي يسير فيه البلاد في غير صالح المجتمع والقلة الحاكمة على السواء.
في هذا المناخ العام، بقدر ما لن تكون الثورة على النظام في صالح المجتمع، لا يمكن أيضا أن يستمر الوضع على حاله كما هو في ظل ترجيح كبير لكفة الاغتناء والاغتنام السريع والسهل لصالح القلة الحاكمة والمستفيدة من خيرات البلاد. أو بعبارة أخرى، إن الاتجاه الذي يسير فيه البلاد في غير صالح المجتمع والقلة الحاكمة على السواء.
لذلك، ستستمر
المقاومة المدنية للمجتمع. لأنه بات أوعى وأشجع. كما أن الفقر واليأس واللاعدل لن
يتركوا له خيارات أخرى غير الجهر برفض الوضع. فلن يهدأ شارع حتى يترجل الشباب شارعا
آخر، ولن تنام مدينة على حَل أو صدام مع قوى الأمن حتى تستيقظ أخرى على مأزق جديد.
وما عاد عقاب البعض يستلزم ردع الباقي كما كان عليه الأمر سابقا.
لنترك
المآزق ونُسائل بنيتها.
في حوار تلفزيوني سابق معه، عبَّر الحسن الثاني ما مضمونه
أنه يريد للملك الذي سيخلفه أن يكون له ما يفعله (أي أن يكون له دور مهم في الحياة
السياسية). وقد عمل الملك الجديد، محمد السادس، بهذه النصيحة. فخلال عقد ونصف من
حكمه، كان له الكثير ليقوم به، إلى درجة أنه ملء المشهد بصورة شبه كاملة في جميع
اللحظات الكبرى للأمة المغربية. وقد ساهم الاعلام العمومي وغير العمومي، المحسوب
على الدولة العميقة، في ازدراء تجارب رؤساء الحكومات والحكومات ليبقى نجم الملك
ساطعا وعاليا وبعيدا عن أي منافسة. لا بل عكست الكثير من مؤسساتنا الإعلامية عقلا
مفارقا يرى المغرب مغربين: مغرب الملك ومغرب الحكومات المتعاقبة. الأول في ازدهار
والثاني في أزمة! وقد عبرت القناة الثانية (2M)عن أوج هذا الفصام
بصورة واضحة ومضحة في آن خلال ولاية حكومة بنكيران.
هذه النصيحة الحسنية ما عاد لها من ضرورة. سواء في مجال
السياسة أو الاقتصاد. بل إن ضررها صار أكبر من نفعها. فكلفة الملكية على الميزانية
العامة بات أمرا يثير العديد من الأسئلة المرتبطة بمدى ترشيد النفقات وفاعلية
التدخلات. كما أن تدخلها أمسى يطرح أسئلة لا مفر منها بخصوص قدرة مؤسسات الرقابة
السياسية والقضائية على محاسبة البرامج التي ترعاها. لا بل إن تدخلها كثيرا ما
يكون على حساب صلاحيات الحكومة التي أقرها الدستور بنفسه. فلا يمكن أن تكون
الملكية حديثة ما لم تأخذ بعين الاعتبار منطق التدبير الحديث الذي يعطي أهمية
بالغة للعلاقة بين المنتوج النهائي وتكلفته من جانب، والفصل بين السلطات الذي يمثل
أساس الرقابة المتبادلة فيما بينها من جانب آخر.
في ظل المعطيات الجديدة للمغرب ومتطلبات العصر، يتعين أن
يجد الملك ما لا يفعله أكثر مما يجب أن يبحث عما يفعله. فالمغرب في حاجة أن يقلص
أكثر مساحة اللامسؤولية السياسية التي تحوم حول الملكيات عموما.
وإذا كان من مصلحة البلاد أن تبقى الملكية، فإن من مصلحتها
أيضا ألا يبقى الملك مسؤولا عن ملفات الإنماء. فأن تكون الملكية أسمى تعبير عن
إرادة الأمة يعني أن تكتفي الملكية بملفات أكبر من التدبير اليومي والبرامج
الإنمائية. فما عادت مصداقية ومشروعية الملوك مرتبطة بالإعلان عن إطلاق جميع
البرامج وتدشين جميع المشاريع الطموحة في الميدان والتدخل في القرارات السياسية
الكبرى. يكفي أن يُطلع الملك على ما يجري في البلاد بما يضمن متابعته لقضايا
الاستقرار العام للنظام وسير المؤسسات الدستورية، وأن يساهم، برمزيته، في تعبئة
الجمهور لتنفيذ البرامج عبر إظهار حماسته لها وقبوله بها. وفي أقصى تقدير،
المساهمة في تدشين – التدشين لا أكثر - المشاريع الوطنية الكبرى التي تُـعبر عن
طموح أمة (مشروع نور مثلا) والانخراط في البرامج الكبرى التي تعبر عن التضامن
الوطني والهوية المغربية الجامعة. أما التفاصيل، أما إدارة الصراع السياسي بين
الأحزاب أو بين المجتمع والحكومات، أما الاختيارات السياسية والتنموية فيتعين أن
تتحمل مسؤوليتها الحكومات المنتخبة وهيئات المجتمع المدني. لأنها هي فقط من يُتابع
ويُسأل، كل من موقعه، عن تنزيل السياسات والنتائج.
وهنا ستفرض إعادة النظر في العديد من المؤسسات والممارسات
نفسها: المؤسسة الملكية التي يتعين أن يعاد النظر في تكاليفها ومهامها، الديوان
الملكي الذي يتعين أن يصير أقل ارتباطا بالإدارة العمومية والقطاعات الوزارية
والمسؤولين العموميين، الحكومة الذي يتعين أن تؤدي أدوارها كاملة وتتحمل مسؤوليتها
كاملة، الإعلام العمومي الذي يتعين أن يجد توازنا مقبولا بين دعم إنجاح السياسات
العمومية والإخبار وتطوير النقاش العمومي، وزارة الداخلية التي يتعين أن تصبح
وزارة تحت سلطة ومسؤولية رئاسة الحكومة، الأحزاب السياسية التي يتعين أن تراهن على
قدراتها التأطيرية والتواصلية والتعبوية والاقتراحية من خلال الارتكاز على استقلال
القرار الداخلي والكفاءات البشرية الذاتية، القضاء الذي يتعين أن يجد هويته في
استقلاله المطلق عن جميع الهيئات والمؤسسات والأفراد والقوى.
لقد فشل مغرب العهد الجديد في أغلب الملفات الكبرى: المفهوم
الجديد للسلطة، إصلاح الإدارة، محاربة الفساد، رفع مؤشرات التنمية البشرية استنادا
إلى معايير الأمم المتحدة، بناء دولة الحق والقانون، تحديث الدولة والمجتمع،
الانتقال الديمقراطي، الإصلاح الديني، إصلاح التعليم، إلخ. ألا يكفي كل هذا لإعادة
النظر في تصور الدولة العميقة لذاتها ووظيفتها؟! إن في الإجابة عن هذا السؤال،
سيتحدد مصير الملكية والبلاد.
19 يوليوز 2017
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق