يمكن اعتبار هذه الورقة بمثابة محاولة
للوقوف على بعض التحولات التي ساهمت خلال السنتين الأخيريتين في رسم معامل واقعنا
الاجتماعي والاقتصادي. هي أقل من محاولة لتشخيص الأزمة، وأكبر من محاولة لتقديم توصيات:
هي محاولة لربط بعض الخطوط الرئيسَة التي يمكن من خلاها فهم وتفسير الكثير من
الوقائع والـمآلات التي تظهر أو لا تظهر على سطح الأحداث في المدينة اليوم. أما
الغد، فهو كفيل بوضع القطع، التي تبدو الآن مبعثرة، في مكانها الصحيح داخل لوحة
حياتنا العمومية المحلية.
أستعرض هنا أربعة تحولات يبدو من
المهم الوقوف عندها. وحينما نقول تحولات، فهذا يعني أنها تمثل قطيعة مع الماضي أو،
في الحد الأدنى، تمثل اختلافا جوهريا عنه. ونقف عند هذه التحولات الأربعة بالنظر
لأهميتها من جهة ولتأثيرها المتوقع على مستقبل المدينة السياسي والاجتماعي.
أولا: افتقار المجلس لأغلبية متجانسة ولمعارضة قوية:
من يقود المجلس الجماعي؟ هل يمكننا
الحديث عن وجود أغلبية تقود الشأن المحلي في مقابل معارضة تُـتابع وتنـتقد وتُـنَشط
النقاش والأداء العموميين؟
يمكن أن ننطلق من ملاحظة أساسية:
مبكرا، دخل الزواج القبيح
بين لائحة العداء بقيادة عبد الحميد بلفيل والفرع المحلي لحزب العدالة
والتنمية -وكما توقعنا ذلك منذ سبتمبر 2015- نفقا مسدودا. حيث سريعا تشكل المشهد
التالي: أغلبية مجلسية يحاصر بعضها بعضا. فسريعا وجَد حزب العدالة والتنمية نفسه
مضطرا إلى كبح جماح الرئيس في أكثر من مستوى حتى لا يتورط معه فيما لا تُحمد
عقباه. وفي نفس الوقت، وجد الرئيس عبد الحميد بلفيل نفسه مكَـبلا بحليفه الرئيسي،
أي العدالة والتنمية، الذي يُـبْدي مقاومة بادية في مسايرة إيقاعه وتوجهاته
وطموحاته.
إليكم ملخص المفارقة الدرامية: يرى
العدالة والتنمية أنه أعطى عبد الحميد بلفيل أكثر مما يستحق (الرئاسة) وبالتالي من
الواجب على هذا الأخير أن يرد هذا الجميل بالعمل على إخراج منجزات حقيقية للساكنة
حتى يغسل الحزب ذاكرة المدينة من عار "خطيئة التحالف مع الفساد". لكن
الرئيس؛ الذي يعي جيدا الضغط الذي يَـرْزح تحته الحزب؛ لا يريد، بسبب عناده وكِياسَته،
أن يكون مجرد واجهة تنفيذية للحزب من جهة، ومن جهة أخرى يريد من الحزب أن يتماشى
مع ما يريده هو لا العكس. فالرجل خَسر الكثير من المال في حملته الانتخابية التي
"قاتل فيها بمفرده" لأنه لم يكن مدعوما من أي جهة حزبية أو دولتية
(نتكلم هنا عن مئات الملايين من السنتيمات وليس عن ملايين السنتيمات فقط!).
وبالتالي لابد من إيجاد سبل لتعويض ما ضاع. هنا يمانع حزب العدالة والتنمية لأنه
لا يستطيع المغامرة برصيده السياسي والأخلاقي أكثر مما فعل. هذا الأمر أدخل
علاقتهما منزلةً بين منزلَتين، بين الزواج والطلاق. وهذه منزلة أعقد بكثير من إحدى
تلك المنزلتين. لأنها تبث الشلل في المبادرة والتشكيك في نوايا الأطراف.
هل يمكن لهذا الوضع أن يستمر؟
تصعب الإجابة الحاسمة هنا. لكن ما
يمكن تأكيده هو أن هذا الوضع دفع أكثر من جهة إما إلى استغلاله أو محاولة تجاوزه.
حيث سُجلت محاولات للانقلاب على الرئيس عبد الحميد بلفيل من خلال اتصالات جرت بين
أحزاب في الأغلبية وأخرى في المعارضة لترتيب فصول هذا الانقلاب. ويُتداول أنه جرى
طَرقُ باب عادل بنحمزة في هذا الشأن. غير أنه من المستبعد - وربما هذا ما حصل فعلا
– أن يستجيب بنحمزة لهذا العرض. فالرجل، بعد سنوات من النضال من موقع المعارضة لأداء المجلس الجماعي
خلال ولاية البويرماني (بين 2009 و2015)، غسل يده من المدينة عقِب هزيمته في
الانتخابات الجماعية (2015)؛ مما دفعه إلى التوجه نهائيا إلى العاصمة مُتخليا عن طموحه
إلى لعب دور قيادي داخل المدينة. أو بعبارة أخرى، صار الرجل يرى المدينة رهانا
خاسرا. ولعل ما يؤكد هذا الاختيار عدم ترشحه في دائرة المدينة في الانتخابات
التشريعية الأخيرة (7 أكتوبر 2016) من جانب وغيابه المتواصل عن دورات وأشغال
المجلس الجماعي الحالي رغم عضويته فيه من جانب آخر.
غياب بنحمزة بتجربته الكبيرة
وقدرته التواصلية والتنظيمية العالية داخل حزب الاستقلال من جهة وضعف باقي أحزاب
المعارضة (الأصالة والمعاصرة والتقدم والاشتراكية) من جهة أخرى أدخل المعارضة داخل
المجلس في حالة ركود مزمن. ولهذا نجد أنهم لم يستطيعوا بلورة أي معركة سياسية
كبيرة وواضحة وشعبية على غرار معارضة الولاية السابقة.
النتيجة: خلل في أداء الأغلبية
الجماعية؛ شبه غياب للمعارضة؛ ضعف التنسيق والإنجاز.
ثانيا: جيل جديد من المستشارين الجماعيين
في ظل هذا الوضع الذي دخل سريعا
مرحلة التطبيع مع الاستمرارية (غياب الرؤية وضعف الإنجاز)، برز إلى السطح جيل جديد
من المستشارين. يمكن أن نسميهم بالمستشارين-الناشطين ميدانيا أو المستشارين
المحتجين والمرتبطين أكثر بالساكنة. يمكن تقديم نموذجين: مراد بوعلام ويوسف بنهيبة.
منذ الوهلة الأولى، حدد المستشار بوعلام
اختياره؛ حيث التصق بالساكنة من خلال حفاظه على روابط مهمة مع المجتمع المدني
والإعلام المحلي من جهة ومشاركته الميدانية في العديد من المبادرات والقضايا
المحلية في الشارع (مبادرة دعوة الملك الموجهة للبلاط، قضية «مجموعة يوسف المتمرد»،
إلخ). ووصل الأمر معه إلى الاشتباك الجسدي مع الرئيس عبد الحميد بلفيل.
بينما اختار يوسف بنهيبة اختيارا عَكَس
قلقا جديا عن وضع المدينة. فبين موقعه كعضو داخل الأغلبية وموقعه كمسؤول عن فرع
حزبي محلي، أضاف بنهيبة لسلوكه السياسي بُعدا معارضا لأداء المكتب الجماعي المسير.
حيث جمع بين توجيه النقد الصريح بهذا الشأن داخل الدورات، التهديد المباشر المبطَّن
أو غير المباشر المقصود للرئيس بلفيل عبر رسائل مباشرة مشفَّرة أو غير مباشرة
صريحة، الكتابة النقدية، إطلاع الرأي العام بالكثير من المعلومات والملفات التي
كانت لعهد قريب حبيسة «عَنْعَنَة» المقربين من دائرة القرار، والتشكي المرير من
واقع المدينة على شبكات التواصل الاجتماعي.
الفارق في أسلوبَـي الرجلين واضح،
لكن يجمعهما عدم قدرة حلفائهم والمقربين منهم على توقع ما يمكن أن يصدر عنهما من
سلوكيات وقرارات. فكلاهما عصي على الضبط. ولهذا، فهما لا يَسلمان من لوم أقرب
المقربين، لكن في نفس الوقت يحظون باحترام أكبر في الشارع العام. إنهما يعكسان
الاختيار الصعب الذي يواجهه السياسي: الحرص على المصلحة السياسية الفئوية أو
الارتباط بمصلحة الساكنة.
ثالثا: رئيس يلعب لعبا مختلفا
مقارنة مع أدائه خلال ولايته
الرئاسية الأولى (2003-2009)، يبدو أن الرئيس عبد الحميد بلفيل قرر تغيير تكتيكاته
واستراتيجياته خلال ولايته الثانية الجارية (2015-2021). فخلال ولايته الأولى،
كانت رؤية الرجل واضحة: "شْوِيَّـه لرْبِّي وشويه لْعْـبدُو". حيث قام
خلالها، من جهة، بشَقِّ طرقا جديدة، تزفيت
طرقا أخرى، إنارةَ أحياء إضافية، ترصيف عديدا من الشوارع والأزقة، تهيئة بعض
المساحات الخضراء، من جهة، ومن جهة أخرى التورط في الملفات غير النظيفة التي فتحها
المجلس الأعلى للحسابات وعرضَها في تقريره لسنة 2008.
أما الآن، فلا أحد يعلم ما يدور في
رأسه: فالقرارات قليلة، وتعطيل العديد من المشاريع المقترحة كبير، والانجازات شبه
منعدمة، إلخ. نعم، احتفظ الرجل ببعض التكتيكات: الصرامة الرئاسية اتجاه الموظفين وإعادة
نشر بعض المسؤولين والموظفين لصالح من يثق فيهم على سبيل المثال. لكن الباقي لا
يعلمه إلا الله.
لكن في جميع الأحوال، يبدو أن
بلفيل اليوم هو أضعف من بلفيل الأمس. فسلوكه السياسي والتدبيري يعكس ضعف ثقته في
نفسه مقارنة بما مضى. وذلك لعدة أسباب: افتقاره لسند حزبي قوي؛ مشاكل لم تنته بعد
مع المجلس الأعلى للحسابات (قد تكون لهذا الأخير زيارة جديدة لبلدية الخميسات.
وهذا مصدر قلق جدي بالنسبة له)؛ عدم مسايرة حليفه الأساسي (أي حزب العدالة
والتنمية) له في العديد من مقترحاته وأهدافه؛ يقظة أكبر للشارع والإعلام،...
النتيجة: أولا: هذه الظروف التي
تكبح الأداء الحر للرجل ستدفعه إلى البحث عن خيارات جديدة في التعاطي مع الشأن
المحلي من جهة ومع العدالة والتنمية من جهة أخرى، وقد تسوء علاقته مع هذا الأخير
أكثر خلال الشهور المقبلة. ثانيا: الرجل،
وهو يعيش على إيقاع «عقدة ملايين السنتيمات غير المسترجعة» وفي ظل الظروف الضاغطة
المذكورة آنفا وتصرم أيام ولايته الجديدة، قد يأخذ قرارات سيكون لها ثمن كبير على مستقبله
السياسي، خاصة في ظل متغيرين أساسيين محتملين على المدى القريب: 1.تقارب محتمل بين
حزبي العدالة والتنمية والاستقلال و2.فشل تشكيل حكومة بنكيران الثانية. ليس
المقصود هنا بالضرورة نجاح ترتيبات الانقلاب على الرجل، بل قد يفتح عليه سلوكه في
المستقبل موجة ضغط سياسي قد يكون لها ما بعدها. فلا أحد يستطيع توقع مستوى انفراط
الصبر الذي ينفجر عنده الموقف السياسي لحزب العدالة والتنمية ضد الرجل على سبيل
المثال. ومن غير المستبعد أن ينضم كل من الاستقلال والتقدم والاشتراكية إلى
سمفونية الضغط على بلفيل. هذه احتمالات. والاحتمال وارد.
رابعا: نقصان في الاحتقان الاجتماعي وساكنة جد متذمرة من المجلس الجماعي
الملاحظ أن حجم الاحتقان الاجتماعي
خفَّ بشكل كبير منذ الانتخابات الجماعية الأخيرة. فباستثناء حركة المعطلين، يبدو أن
المجتمع المدني بالمدينة صار أكثر هدوء. هل يمكننا الحديث عن تفاهمات جرت في
الخفاء أم أن الشارع لحقه العياء؟ وماذا لو كانا معا؟!
يعلم الجميع أن هناك أطرافا داخل
المجتمع المدني لها استعدادات وقدرات عجيبة على الانتقال بين طرفي نقيض عبر إبرام
تفاهمات تنتهي بحصولها على أجر مقابل الصمت. المقصود طبعا، جوقة المرتزقة القائمين
على رأس عديد من الجمعيات الثقافية أو الرياضية أو التنموية. هذا ظواهر نعلمها
جميعا، غير أننا نادرا ما نملك وسائل لإثباتها. خاصة في ظل منسوب وقاحة لا حدود
لها تستبد بسلوك رؤساء وقياديي تلك الجمعيات.
بينما هناك أطراف أخرى أصابها
العياء أو الملل أو الفشل. أمسَت تنسيقية حركة 20 فبرير بالخميسات مجرد ذكرى جميلة
أو سيئة (بحسب موقفك من الحركة!). فقد صار وجودها مناسباتيا أثناء الاحتفال
بذكراها السنوية. كما أن فرع الجمعية المغربية لحقوق الانسان دخل مرحلة السنوات
العِجاف. بينما صار صوت بعض الجمعيات العاملة أقل ضعفا (جمعية بسمة أمل، مثلا).
وفي نفس الوقت، خفَّت الاحتجاجات
الاجتماعية (ضد المستشفى، ضد مكتب الكهرباء والماء والشروب، ضد العمالة،...). هل
هذا مؤشر على تحسن الوضع الاجتماعي لدى الساكنة؟ هذا الأمر غير مستبعد. تصعب متابعته
إحصائيا لكن من غير المستحيل تسجيل وجوده عمليا. خاصة في ظل بعض الزيادة في مستوى
الحماية الاجتماعية المسجلة على المستوى الوطني ككل [بطاقة المساعدة الطبية «راميد»،
الدعم الموجه للنساء المطلقات والمتكفلات بالأيتام، والأسر المتكفِّلة بأشخاص ذوي
الاحتياجات الخاصة، توظيف مجموعة من المعطلين، التحكم في معدلات التضخم، استمرار
وتيرة نمو القطاع الفلاحي (حوالي 8.9% سنويا)،...]. غير أن حاجة الساكنة المحلية لـِ
: (1)فرص الشغل وتخفيض مستوى الفقر و(2)تحسين أداء المجلس الجماعي ومحاربة الفساد،
و(3)بنيات مؤسسية للتعليم العالي ما تزال على رأس أولويات الساكنة. وهذا ما توضحه
الأرقام (80.9% من المستجوبين في أكبر استطلاع نُـظِّم على مستوى المدينة[1]) وتصريحات الساكنة في
الشارع العام. وبالتالي من الطبيعي أن تستمر نقمة الساكنة على المجلس الجماعي
بالنظر إلى فشله الواضح في سد هذه الحاجات.
النتيجة: استمرار التوتر في علاقة
الساكنة بالمجلس البلدي مع تراجع كبير في الحراك الاجتماعي على مستوى الشارع. وفي
مقابل هذا التوجه، يُسجل تغَـيُّر في أداء المجتمع المدني (على مستوى التكتيك) مع
استمرار نفس البنية التنظيمية (ثبات في النسيج الجمعوي).
الخلاصة: أرسلت المدينة خلال
السنتين الأخيرتين رسائل متناقضة: أغلبية غير منسجمة؛ معارضة غائبة، مستشارون
جماعيون مناضلون، رئيس جماعي أكثر غموضا ويقود بلا رؤية، شارع ناقم لكن هادئ،
مجتمع مدني أبدل تكتيكاته دون أن يُحسِّن أداءه.
1-3-2017
[1] - استطلاع رأي نُـظم من قبل كاتب السطور بشراكة
مع موقع «الخميسات سيتي»، بتاريخ أبريل 2016 وشارك فيه 12056 شخص.
belahcenfouad@gmail.com
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق