كوننا نبدأ هذا
اللقاء ليس في الوقت المقرر، بل قبله بخمسة دقائق، فهذا دليل على أننا قطعنا بعض
الأشواط في مسيرة التحديث· سأقدم أولا ملاحظة حول تعبير «عوائق التحديث· «[1] فلو دعوتموني قبل أعوام، وكنت متخصصا في الاقتصاد
لسألتموني عن "أسباب التخلف"، ولربما كان جوابي يتلخص
في نقط محددة هي : شح الموارد، قلة الاستثمار، ضعف الإنتاجية بسبب انتشار البطالة
وانعدام التأهيل.
قبل أعوام لو كنت رجل قانون لسألتموني عن شروط الإقلاع، ولربما أجبت: الاستقرار، المشاركة، جودة المؤسسات القانونية، حسن التدبير· وقبل أعوام لو كنت عالما اجتماعيا، لسألتموني عن ظروف التجاوز، ولربما كنت أشرت إلى مسألة الولاء وإلى وضع المرأة وإلى انعدام التربية الوطنية·
اليوم لو كنت رجل دين لسألتموني عن محاذ الفلاح وأبواب الصلاح، ولربما أجبتكم بمقتطفات من كتب الغزالي وابن تيمية· اليوم لو جئتكم من فرنسا أو ألمانيا على إثر النقاش الساخن الجاري في تلك البلدان، ولو كنت صحفيا سياسيا لربما سألتموني عن عوائق التحديث في هذين البلدين اللذين كانا إلى عهد قريب يعتبران مهد الحداثة الفكرية والسياسية والاقتصادية·
هذه تعبيرات مختلفة: أسباب التخلف، شروط الإقلاع، ظروف التجاوز، وأخيرا عوائق التحديث· هل تشير إلى معنى واحد هنا وهناك، أمس واليوم؟ هل ما نبحث فيه هو نفس الأمر على اختلاف الظروف والفترات التاريخية والعبارات التشخيصية· هل التخلف، الإقلاع، التجاوز، التحديث، كلمات مترادفة بالنسبة إلى مجتمعنا؟ وهل التحديث هو هو بالنسبة إلينا وإلى دول صناعية متقدمة؟
التفكير الجدي في هذا الأمر ينير في نفس الوقت الحداثة، ما قبلها، وما بعدها. وعدم التفكير الجدي والمستنير هو الذي يؤدي إلى الخلط الذي يستغله الأعداء والخصوم: أعني أعداء الحداثة وخصومها·
إذن، الحداثة ما هي؟ واقع تاريخي، ومفهوم مستنبط· الواقع التاريخي ألخصه مع المؤرخين، بعض المؤرخين، في النقط التالية:
- ثورة اقتصادية·
- إحياء التراث القديم في الفلسفة والقانون·
- ثورة علمية مبنية على الملاحظة والتجربة·
- إصلاح ديني موجه ضد الكنيسة واحتكارها التأويل للمقدس·
- ثورة فكرية تعتمد أساسا على العقل·
- ثورة سياسية موجهة ضد الفيودالية والكنيسة·
هناك تكامل وترابط بين هذه الثورات المختلفة، لكن هناك اختلاف كبير بين المؤرخين· ليس هناك اتفاق حول ما هي الثورة المتقدمة على الأخرى وما هي التي كانت أصلا والتي كانت نتيجة·
من هذا التطور استنبط المفهوم عبر عقود وعلى مراحل· وهو يدور حول المفاهيم التالية: سلطة الفرد، حريته، حقله، تدبيره لشؤونه، وهيمنته على الطبيعة· إذن مكونات المفهوم بعد أن "حدث"، بعد أن "وقعت" الحداثة، مكونات المفهوم المستنبط هي: الفردانية، العقلانية، الحرية، الديموقراطية، العلمية أو العلمانية (بمعنى العلم الحديث) .
قد نتساءل هل هناك مطابقة بين الاسترسال التاريخي والتناسق المفهومي، هذا نقاش طويل عريض ولا زال جاريا بين المؤرخين و المفكرين والفلاسفة، وبينهم رجال العلوم الاجتماعية·
في هذا الإطار نطرح سؤالا إجرائيا، أو ندعو إلى القيام بتجربة ذهنية: في الميدان التاريخي، ماذا نقص أثينا أو مصر الفرعونية أو روما الوثنية أو مكة الوثنية لتكون مجتمعا حديثا مع كل ما نعرفه عن هذه المجتمعات من صور نيرة· في الميدان المعلومي الصرف، ما علاقته بالعلم ؟هل هناك علاقة ترابط ضروري أو تناسب اعتباطي؟ هل الحرية تؤدي بالفعل إلى تقدم علمي، والعكس هل التقدم العلمي يؤدي، بعد فترات، إلى التحرير؟
هذه التجارب الفكرية ليست لعبة مجانية، بل عليها يترتب كل ما يكتب في العلوم الاجتماعية· العلوم الاجتماعية كلها بما أنها لا يمكن أن تبنى على تجارب ملموسة فهي تقوم على تجارب ذهنية (ماذا لو: نفترض كذا ماذا يحصل كذا)، بعد ملاحظة الواقع التاريخي نستخرج منه بعض المفاهيم ثم نربط هذا المفهوم بالآخر ونقول ماذا لو سبق هذا على هذا؟ ماذا إذا تأخر هذا المفهوم على الآخر ماذا يحصل؟ ومن هنا نكتب العلوم من اقتصاد واجتماع وتاريخ وتاريخ مقارن إلى آخره···
وهنا أسجل نقطة في غاية الأهمية، في هذا الموضوع بالذات، متعلقة بالمنهج: لكي نفكر في الحداثة هل ننطلق من الواقع، وبالتالي نستمع أولا وقبل كل شيء إلى المؤرخين، أم ننطلق من المفهوم وبواسطته نقيم الواقع، بل نحكم عليه بمقاييس خارجية؟ هذا ما يفعل اليوم بكثرة: ننطلق من مفهوم الحداثة كما نؤوله ثم نحكم به على مجتمعات إما في الماضي أو في الحاضر دون اعتبار للتلوينات التي يقوم عليها عمل المؤرخ·
كلنا نعلم أن الواقع سابق على المفهوم· فلو لم تحصل الحداثة في بقعة من الأرض لما تبلور المفهوم· هذا أمر لا يناقشه أحد، لكن هذا الواقع التاريخي لا يمكن تلمسه مباشرة، بل نطلع عليه من خلال ما يقوله المؤرخون، وهؤلاء يستعملون بدورهم، ولو ضمنيا، مفاهيم· وهنا تكمن الصعوبة· كل صعوبات التصور والحكم ناشئة من هذا الأمر· وهو أمر واقعي لا انفلات منه·
المسألة كلها هي مسألة احتراس· على الإنسان ألا يندفع وراء التعميمات بل يحترس قبل أن يقوم بحكم معين أن يستمع أولا إلى ما يقوله المؤرخون الذين يدرسون نشأة الحرية، نشأة الديموقراطية، نشأة العلم الحديث إلى آخره ···
هل ننطلق من مفهوم المؤرخين حتى ولو كانوا متفلسفين مثل فولتير أو جاكوب بوكارت ···أو ننطلق من مفهوم الفلاسفة الأحرار: كانت، هيجل·· واليوم كلام كثير هو عن هيدجر·· إذا انطلقنا من الواقع واستمعنا أولا إلى المؤرخين أو انطلقنا من المفهوم واستمعنا أولا للفلاسفة المناهضين للتاريخ (لأن هناك فلاسفة يتبعون هذه الوجهة)، فإن النتيجة تكون مختلفة تماما في التصور وفي الحكم·
المؤرخ لا يمكن أن يقول سوى أن الحداثة حدثت، لم تكن قدرا، كان من الممكن ألا تحدث ونستمر في نظام تقليدي لا يناقشه إلا البعض دون أن تظهر هذه البدع التي كونت فيما بعد ما نفهمه نحن من كلمة "حداثة"· حصلت هاته الحداثة في بقعة معينة في وقت معين· والمؤرخ يسجل ثانيا أنها تمت على مراحل، بل إنها تشكلت كثورة مستمرة· بل إن هذه الظاهرة هي التي تحدد معنى التاريخ الحديث وتفصله عن السابق· التاريخ الحديث عبارة عن صراع متواصل بين الفئات، بين الأنظمة، وبين الأفكار·
يسجل المؤرخ، ثالثا، أن الحداثة مواكبة لضدها· في كل فترة نجد الظاهرة التي تبدو لنا في ما بعد من مكونات الحداثة وفي نفس الوقت نجد الظاهرة المناقضة لها· ومن خصائص الحداثة أنها تربي في ذاتها ضدها· لا حداثة إذن دون حداثة مضادة·
منذ البداية هناك تساؤلات: الفرد ما هو؟ هل هو موجود بالملموس لأن ما يرى بالفعل دائما وأبدا هو عضو في أسرة في قبيلة في جماعة إلى آخره·· العقل ما حده وما قدرته؟ أو ليس مجرد آلة تتلاعب بها أهواء الناس؟ الحرية ما جدواها في مواجهة المجهول والطبيعة الغاشمة؟ الديموقراطية ما أساسها؟ من يرعاها ويضمنها؟ من يراهن على استمرارها وبقائها؟ أولا تنتهي ضرورة إلى فوضى عارمة؟ العلم ما مجاله وما ثمراته؟ أليس مآله فساد خلق النسل؟
وكما أن الحداثة لم تظهر دفعة واحدة، لم تكن دائما واعية بتلازم كل مكوناتها، في نفس العصر ونفس المكان ونفس الطبقة، وربما في نفس الشخص نجد الموافق والمناوئ لها· هذا روسو يرفع مبدأ حرية العقيدة، وفي نفس الوقت يعادي الحضارة والفهم والعلم كذلك· هذا فولتير يقاوم الاستبداد يدعو إلى التسامح، ومع ذلك يحارب الديموقراطية· هذا باسكال قبلهما يطور العلم ويشارك فيه ثم يرفض البتة تدخل العقل في شؤون العقيدة·
خلال عقود، بل قرون والحداثة تتكون بالتدريج· لم تتوقف لحظة واحدة هذه التخوفات والتحذيرات والتساؤلات· قيل، على طول الحداثة، ونُـبه على أن مفهوم الإنسان أشمل من مفهوم الفرد· ونبه وقيل على أن العقل عرضي، أي مجرد وسيلة، يحضر ويغيب· الحرية مفهوم متناقض· الديموقراطية تطلع إلى نظام خيالي لا يمكن أن يستقر· العلم الطبيعي صناعة ودربة مبنية على المشاهدة وتقليد قوى الطبيعة، وفي أعلى صوره على الفرضيات والتوافق، لا يمكن أن يدرك أبدا الحقيقة في ذاتها (وهذا، كما تعلمون، قول فلاسفة كبار مثل هيوم وكانت···)·
وبقدر ما تتقدم الحداثة وتلتحم وتترسخ، بقدر ما تتعالى أصوات المحذرين سيما بعد الثورة السياسية في أمريكا وفي فرنسا· وإذا كان القرن الثامن عشر الأوروبي هو عصر التفتح والتنوير والثقة في الإنسان والتبشير بالأفضل، فإن القرن الذي تلاه رغم أنه كان عصر التصنيع والتوسع الأوروبي، كان في الغالب عصر معارضة سافرة لواقع الحداثة· ولا أدل على ذلك من ثنائية الماركسية التي تدعو من جهة إلى الإسراع بالحداثة لا للاحتفاظ بها بل لتجاوزها وتجديد ظروف الالتئام الأصلي في ظروف مستحدثة·
وبالفعل مع مطلع القرن العشرين اصطدم مشروع الحداثة بتناقضات ذاتية في صور ثلاثة:
أولا: الاستعمار الذي أبرز تهافت معنى الفرد والديموقراطية والحرية· ولم ينج من النقد في إطار الفكر الاستعماري إلا العلم التجريبي الذي أكد منافعه في الميدان الطبي والمواصلات، وتحسين الإنتاج· وكذلك العقل الذي ساعد على تخطيط السياسة الاستعمارية ونجاحها·
ثانيا: الحروب، والقرن التاسع عشر، قرن حروب مستمرة لم تتوقف منذ اندلاع الثورة الفرنسية· فهذه الحرب المتواصلة التي مزقت وحدة أوروبا، أبرزت تهافت مفهومي العقل والعلم، إذ عوض أن يخدما السلم والتعاون بين الشعوب، عملا (العقل والعلم) على تأجيج حوافز العداوة والمنافسة·
ثالثا: الثورة الشاملة التي حلم بها كل السياسيين على أنها ستقلب الأمور رأسا على عقب· ففكرة الثورة أبرزت تهافت الفردانية والحرية والعقلانية والعلمانية. ولم يفلت من النقد في إطار الإيديولوجيا الثورية إلا مفهوم الديموقراطية· إذ كان هو هدف الثورة ولو كان ذلك في المستقبل البعيد·
يعني الاستعمار، وهو العنف ضد الغير، الحرب، وهي العنف ضد الجار، والثورة، وهي العنف ضد الأخ، أن الفرد قد يكون حرا متدبرا لشؤونه عاقلا بالنسبة لنفسه فقط. تجسدت أزمة الفردانية في الماركسية لأنها في الأساس نقد الفردانية· تجسدت أزمة الحرية في الاشتراكية، تجسدت أزمة العقلانية في الفرويدية وغيرها، تجسدت أزمة الديموقراطية في النظام الفاشستي وغيره، وتجسدت أزمة العلم في النظرية النسبية إلى يومنا هذا·
وبما أن الحداثة عادت مرادفة للحضارة الغربية - ولن نقول أوروبية أو مسيحية- كثر الكلام عن أزمة الحضارة وبدأ البحث عن بدائل، إما في الماضي (هناك من بحث عن الإنقاذ لدى البوذيين وغيرهم)، وإما في المستقبل وهو تطور الخيال أو ظهور كتابات جديدة تعرف بالخيال العلمي·
فإذن، ونحن نقترب شيئا فشيئا من وضعنا الحالي، لا مجال للاستغراب إذا وجدنا تيارات كثيرة تعارض بعنف الحداثة في الثقافات التي لم تعرفها أو التي فُـرضت عليها فرضا عن طريق الاستعمار: الصين، الهند (تذكروا كتابات وأعمال غاند)، وبالطبع بلاد الإسلام وسيما الوطن العربي الذي عرف قبل الاستعمار الأوروبي الحكم العثماني المتوالي· وقبل ذلك عرف الحروب الصليبية· هناك إذن تراكم في الوعي·
لسنا إذن في وضع من هو خارج الحداثة ويتساءل هل أدخل فيها أم لا؟ كما أن الحداثة لم تُـتَـقبل أبدا بدون معارضة في بلاد منشئها· الحداثة فرضت على الجميع بعنف مع تفاوت في ذلك· فُـرضت على ألمانيا بالحرب، وعلى روسيا وإيطاليا، بل على هولندا وإنجلترا وفرنسا·
وضحايا التحديث لا يزالون يعيشون تلك المرارة في الأعمال الأدبية· فالأدب الأوروبي الحديث كله، من سيرفانتيس إلى ديكنز إلى دوستوفسكي، يمكن أن يعتبر وثيقة إنسانية مسجلة ضد النتائج السلبية للحداثة· الأدب الأوروبي الحديث، في العمق، وثيقة شجب لعملية التحديث·
هناك إذن تلاقح بين رفض الحداثة أو معاداتها، وبين تجاوزها· يمكن دائما أن نقارن ونقارب، أن نستوحي أفكارا سابقة على عهد الحداثة (قبل حداثية)، وأخرى معارضة ومعاصرة لها في نفس الآن، وثالثة لاحقة عليها (بعد حداثية)، لنبرهن على أن مفاهيم الحداثة، لا واقعها (لأنه سجل)، إما مبتسرة مجزوءة وإما سطحية· من منا بين المؤرخين والمفكرين ينفي ذلك؟
الحداثة كانت، في إحدى مراحلها، بعد البدء بالوعي بها، لنقل في القرن الثامن عشر، اختيارا· فكما يقال في المنطق "كل حد نفي"، فكذلك في اختيار الحداثة إهمال لشيء آخر· لا يمكن بحال أن تكون الحداثة أو أي شيء آخر كل شيء بالنسبة للجميع·
هذا بالنسبة للمفهوم، وأظن أني أعطيت للمفهوم ولنقل هذا المفهوم كل ما يمكن أن يقال فيه· لكن مع كل هذا بجانبنا يبقى الواقع، وهو مجتمعات عرفت الحداثة بل لنقل اكتوت بها· عرفت في نفس الوقت الحداثة وضدها، استمعت لما تبشر به واستمعت كذلك لما تحذر منه، استمعت لإنجازاتها ووعودها وتطلعاتها، كما عرفت واستمعت للمعارضات والتحذيرات المواكبة لها والأزمات الناجمة عنها من حروب دولية وصراعات داخلية وقلق نفساني وتيه عاطفي (التيه الذي يركز عليه أمثال ميشيل فوكو).
قبل أعوام لو كنت رجل قانون لسألتموني عن شروط الإقلاع، ولربما أجبت: الاستقرار، المشاركة، جودة المؤسسات القانونية، حسن التدبير· وقبل أعوام لو كنت عالما اجتماعيا، لسألتموني عن ظروف التجاوز، ولربما كنت أشرت إلى مسألة الولاء وإلى وضع المرأة وإلى انعدام التربية الوطنية·
اليوم لو كنت رجل دين لسألتموني عن محاذ الفلاح وأبواب الصلاح، ولربما أجبتكم بمقتطفات من كتب الغزالي وابن تيمية· اليوم لو جئتكم من فرنسا أو ألمانيا على إثر النقاش الساخن الجاري في تلك البلدان، ولو كنت صحفيا سياسيا لربما سألتموني عن عوائق التحديث في هذين البلدين اللذين كانا إلى عهد قريب يعتبران مهد الحداثة الفكرية والسياسية والاقتصادية·
هذه تعبيرات مختلفة: أسباب التخلف، شروط الإقلاع، ظروف التجاوز، وأخيرا عوائق التحديث· هل تشير إلى معنى واحد هنا وهناك، أمس واليوم؟ هل ما نبحث فيه هو نفس الأمر على اختلاف الظروف والفترات التاريخية والعبارات التشخيصية· هل التخلف، الإقلاع، التجاوز، التحديث، كلمات مترادفة بالنسبة إلى مجتمعنا؟ وهل التحديث هو هو بالنسبة إلينا وإلى دول صناعية متقدمة؟
التفكير الجدي في هذا الأمر ينير في نفس الوقت الحداثة، ما قبلها، وما بعدها. وعدم التفكير الجدي والمستنير هو الذي يؤدي إلى الخلط الذي يستغله الأعداء والخصوم: أعني أعداء الحداثة وخصومها·
إذن، الحداثة ما هي؟ واقع تاريخي، ومفهوم مستنبط· الواقع التاريخي ألخصه مع المؤرخين، بعض المؤرخين، في النقط التالية:
- ثورة اقتصادية·
- إحياء التراث القديم في الفلسفة والقانون·
- ثورة علمية مبنية على الملاحظة والتجربة·
- إصلاح ديني موجه ضد الكنيسة واحتكارها التأويل للمقدس·
- ثورة فكرية تعتمد أساسا على العقل·
- ثورة سياسية موجهة ضد الفيودالية والكنيسة·
هناك تكامل وترابط بين هذه الثورات المختلفة، لكن هناك اختلاف كبير بين المؤرخين· ليس هناك اتفاق حول ما هي الثورة المتقدمة على الأخرى وما هي التي كانت أصلا والتي كانت نتيجة·
من هذا التطور استنبط المفهوم عبر عقود وعلى مراحل· وهو يدور حول المفاهيم التالية: سلطة الفرد، حريته، حقله، تدبيره لشؤونه، وهيمنته على الطبيعة· إذن مكونات المفهوم بعد أن "حدث"، بعد أن "وقعت" الحداثة، مكونات المفهوم المستنبط هي: الفردانية، العقلانية، الحرية، الديموقراطية، العلمية أو العلمانية (بمعنى العلم الحديث) .
قد نتساءل هل هناك مطابقة بين الاسترسال التاريخي والتناسق المفهومي، هذا نقاش طويل عريض ولا زال جاريا بين المؤرخين و المفكرين والفلاسفة، وبينهم رجال العلوم الاجتماعية·
في هذا الإطار نطرح سؤالا إجرائيا، أو ندعو إلى القيام بتجربة ذهنية: في الميدان التاريخي، ماذا نقص أثينا أو مصر الفرعونية أو روما الوثنية أو مكة الوثنية لتكون مجتمعا حديثا مع كل ما نعرفه عن هذه المجتمعات من صور نيرة· في الميدان المعلومي الصرف، ما علاقته بالعلم ؟هل هناك علاقة ترابط ضروري أو تناسب اعتباطي؟ هل الحرية تؤدي بالفعل إلى تقدم علمي، والعكس هل التقدم العلمي يؤدي، بعد فترات، إلى التحرير؟
هذه التجارب الفكرية ليست لعبة مجانية، بل عليها يترتب كل ما يكتب في العلوم الاجتماعية· العلوم الاجتماعية كلها بما أنها لا يمكن أن تبنى على تجارب ملموسة فهي تقوم على تجارب ذهنية (ماذا لو: نفترض كذا ماذا يحصل كذا)، بعد ملاحظة الواقع التاريخي نستخرج منه بعض المفاهيم ثم نربط هذا المفهوم بالآخر ونقول ماذا لو سبق هذا على هذا؟ ماذا إذا تأخر هذا المفهوم على الآخر ماذا يحصل؟ ومن هنا نكتب العلوم من اقتصاد واجتماع وتاريخ وتاريخ مقارن إلى آخره···
وهنا أسجل نقطة في غاية الأهمية، في هذا الموضوع بالذات، متعلقة بالمنهج: لكي نفكر في الحداثة هل ننطلق من الواقع، وبالتالي نستمع أولا وقبل كل شيء إلى المؤرخين، أم ننطلق من المفهوم وبواسطته نقيم الواقع، بل نحكم عليه بمقاييس خارجية؟ هذا ما يفعل اليوم بكثرة: ننطلق من مفهوم الحداثة كما نؤوله ثم نحكم به على مجتمعات إما في الماضي أو في الحاضر دون اعتبار للتلوينات التي يقوم عليها عمل المؤرخ·
كلنا نعلم أن الواقع سابق على المفهوم· فلو لم تحصل الحداثة في بقعة من الأرض لما تبلور المفهوم· هذا أمر لا يناقشه أحد، لكن هذا الواقع التاريخي لا يمكن تلمسه مباشرة، بل نطلع عليه من خلال ما يقوله المؤرخون، وهؤلاء يستعملون بدورهم، ولو ضمنيا، مفاهيم· وهنا تكمن الصعوبة· كل صعوبات التصور والحكم ناشئة من هذا الأمر· وهو أمر واقعي لا انفلات منه·
المسألة كلها هي مسألة احتراس· على الإنسان ألا يندفع وراء التعميمات بل يحترس قبل أن يقوم بحكم معين أن يستمع أولا إلى ما يقوله المؤرخون الذين يدرسون نشأة الحرية، نشأة الديموقراطية، نشأة العلم الحديث إلى آخره ···
هل ننطلق من مفهوم المؤرخين حتى ولو كانوا متفلسفين مثل فولتير أو جاكوب بوكارت ···أو ننطلق من مفهوم الفلاسفة الأحرار: كانت، هيجل·· واليوم كلام كثير هو عن هيدجر·· إذا انطلقنا من الواقع واستمعنا أولا إلى المؤرخين أو انطلقنا من المفهوم واستمعنا أولا للفلاسفة المناهضين للتاريخ (لأن هناك فلاسفة يتبعون هذه الوجهة)، فإن النتيجة تكون مختلفة تماما في التصور وفي الحكم·
المؤرخ لا يمكن أن يقول سوى أن الحداثة حدثت، لم تكن قدرا، كان من الممكن ألا تحدث ونستمر في نظام تقليدي لا يناقشه إلا البعض دون أن تظهر هذه البدع التي كونت فيما بعد ما نفهمه نحن من كلمة "حداثة"· حصلت هاته الحداثة في بقعة معينة في وقت معين· والمؤرخ يسجل ثانيا أنها تمت على مراحل، بل إنها تشكلت كثورة مستمرة· بل إن هذه الظاهرة هي التي تحدد معنى التاريخ الحديث وتفصله عن السابق· التاريخ الحديث عبارة عن صراع متواصل بين الفئات، بين الأنظمة، وبين الأفكار·
يسجل المؤرخ، ثالثا، أن الحداثة مواكبة لضدها· في كل فترة نجد الظاهرة التي تبدو لنا في ما بعد من مكونات الحداثة وفي نفس الوقت نجد الظاهرة المناقضة لها· ومن خصائص الحداثة أنها تربي في ذاتها ضدها· لا حداثة إذن دون حداثة مضادة·
منذ البداية هناك تساؤلات: الفرد ما هو؟ هل هو موجود بالملموس لأن ما يرى بالفعل دائما وأبدا هو عضو في أسرة في قبيلة في جماعة إلى آخره·· العقل ما حده وما قدرته؟ أو ليس مجرد آلة تتلاعب بها أهواء الناس؟ الحرية ما جدواها في مواجهة المجهول والطبيعة الغاشمة؟ الديموقراطية ما أساسها؟ من يرعاها ويضمنها؟ من يراهن على استمرارها وبقائها؟ أولا تنتهي ضرورة إلى فوضى عارمة؟ العلم ما مجاله وما ثمراته؟ أليس مآله فساد خلق النسل؟
وكما أن الحداثة لم تظهر دفعة واحدة، لم تكن دائما واعية بتلازم كل مكوناتها، في نفس العصر ونفس المكان ونفس الطبقة، وربما في نفس الشخص نجد الموافق والمناوئ لها· هذا روسو يرفع مبدأ حرية العقيدة، وفي نفس الوقت يعادي الحضارة والفهم والعلم كذلك· هذا فولتير يقاوم الاستبداد يدعو إلى التسامح، ومع ذلك يحارب الديموقراطية· هذا باسكال قبلهما يطور العلم ويشارك فيه ثم يرفض البتة تدخل العقل في شؤون العقيدة·
خلال عقود، بل قرون والحداثة تتكون بالتدريج· لم تتوقف لحظة واحدة هذه التخوفات والتحذيرات والتساؤلات· قيل، على طول الحداثة، ونُـبه على أن مفهوم الإنسان أشمل من مفهوم الفرد· ونبه وقيل على أن العقل عرضي، أي مجرد وسيلة، يحضر ويغيب· الحرية مفهوم متناقض· الديموقراطية تطلع إلى نظام خيالي لا يمكن أن يستقر· العلم الطبيعي صناعة ودربة مبنية على المشاهدة وتقليد قوى الطبيعة، وفي أعلى صوره على الفرضيات والتوافق، لا يمكن أن يدرك أبدا الحقيقة في ذاتها (وهذا، كما تعلمون، قول فلاسفة كبار مثل هيوم وكانت···)·
وبقدر ما تتقدم الحداثة وتلتحم وتترسخ، بقدر ما تتعالى أصوات المحذرين سيما بعد الثورة السياسية في أمريكا وفي فرنسا· وإذا كان القرن الثامن عشر الأوروبي هو عصر التفتح والتنوير والثقة في الإنسان والتبشير بالأفضل، فإن القرن الذي تلاه رغم أنه كان عصر التصنيع والتوسع الأوروبي، كان في الغالب عصر معارضة سافرة لواقع الحداثة· ولا أدل على ذلك من ثنائية الماركسية التي تدعو من جهة إلى الإسراع بالحداثة لا للاحتفاظ بها بل لتجاوزها وتجديد ظروف الالتئام الأصلي في ظروف مستحدثة·
وبالفعل مع مطلع القرن العشرين اصطدم مشروع الحداثة بتناقضات ذاتية في صور ثلاثة:
أولا: الاستعمار الذي أبرز تهافت معنى الفرد والديموقراطية والحرية· ولم ينج من النقد في إطار الفكر الاستعماري إلا العلم التجريبي الذي أكد منافعه في الميدان الطبي والمواصلات، وتحسين الإنتاج· وكذلك العقل الذي ساعد على تخطيط السياسة الاستعمارية ونجاحها·
ثانيا: الحروب، والقرن التاسع عشر، قرن حروب مستمرة لم تتوقف منذ اندلاع الثورة الفرنسية· فهذه الحرب المتواصلة التي مزقت وحدة أوروبا، أبرزت تهافت مفهومي العقل والعلم، إذ عوض أن يخدما السلم والتعاون بين الشعوب، عملا (العقل والعلم) على تأجيج حوافز العداوة والمنافسة·
ثالثا: الثورة الشاملة التي حلم بها كل السياسيين على أنها ستقلب الأمور رأسا على عقب· ففكرة الثورة أبرزت تهافت الفردانية والحرية والعقلانية والعلمانية. ولم يفلت من النقد في إطار الإيديولوجيا الثورية إلا مفهوم الديموقراطية· إذ كان هو هدف الثورة ولو كان ذلك في المستقبل البعيد·
يعني الاستعمار، وهو العنف ضد الغير، الحرب، وهي العنف ضد الجار، والثورة، وهي العنف ضد الأخ، أن الفرد قد يكون حرا متدبرا لشؤونه عاقلا بالنسبة لنفسه فقط. تجسدت أزمة الفردانية في الماركسية لأنها في الأساس نقد الفردانية· تجسدت أزمة الحرية في الاشتراكية، تجسدت أزمة العقلانية في الفرويدية وغيرها، تجسدت أزمة الديموقراطية في النظام الفاشستي وغيره، وتجسدت أزمة العلم في النظرية النسبية إلى يومنا هذا·
وبما أن الحداثة عادت مرادفة للحضارة الغربية - ولن نقول أوروبية أو مسيحية- كثر الكلام عن أزمة الحضارة وبدأ البحث عن بدائل، إما في الماضي (هناك من بحث عن الإنقاذ لدى البوذيين وغيرهم)، وإما في المستقبل وهو تطور الخيال أو ظهور كتابات جديدة تعرف بالخيال العلمي·
فإذن، ونحن نقترب شيئا فشيئا من وضعنا الحالي، لا مجال للاستغراب إذا وجدنا تيارات كثيرة تعارض بعنف الحداثة في الثقافات التي لم تعرفها أو التي فُـرضت عليها فرضا عن طريق الاستعمار: الصين، الهند (تذكروا كتابات وأعمال غاند)، وبالطبع بلاد الإسلام وسيما الوطن العربي الذي عرف قبل الاستعمار الأوروبي الحكم العثماني المتوالي· وقبل ذلك عرف الحروب الصليبية· هناك إذن تراكم في الوعي·
لسنا إذن في وضع من هو خارج الحداثة ويتساءل هل أدخل فيها أم لا؟ كما أن الحداثة لم تُـتَـقبل أبدا بدون معارضة في بلاد منشئها· الحداثة فرضت على الجميع بعنف مع تفاوت في ذلك· فُـرضت على ألمانيا بالحرب، وعلى روسيا وإيطاليا، بل على هولندا وإنجلترا وفرنسا·
وضحايا التحديث لا يزالون يعيشون تلك المرارة في الأعمال الأدبية· فالأدب الأوروبي الحديث كله، من سيرفانتيس إلى ديكنز إلى دوستوفسكي، يمكن أن يعتبر وثيقة إنسانية مسجلة ضد النتائج السلبية للحداثة· الأدب الأوروبي الحديث، في العمق، وثيقة شجب لعملية التحديث·
هناك إذن تلاقح بين رفض الحداثة أو معاداتها، وبين تجاوزها· يمكن دائما أن نقارن ونقارب، أن نستوحي أفكارا سابقة على عهد الحداثة (قبل حداثية)، وأخرى معارضة ومعاصرة لها في نفس الآن، وثالثة لاحقة عليها (بعد حداثية)، لنبرهن على أن مفاهيم الحداثة، لا واقعها (لأنه سجل)، إما مبتسرة مجزوءة وإما سطحية· من منا بين المؤرخين والمفكرين ينفي ذلك؟
الحداثة كانت، في إحدى مراحلها، بعد البدء بالوعي بها، لنقل في القرن الثامن عشر، اختيارا· فكما يقال في المنطق "كل حد نفي"، فكذلك في اختيار الحداثة إهمال لشيء آخر· لا يمكن بحال أن تكون الحداثة أو أي شيء آخر كل شيء بالنسبة للجميع·
هذا بالنسبة للمفهوم، وأظن أني أعطيت للمفهوم ولنقل هذا المفهوم كل ما يمكن أن يقال فيه· لكن مع كل هذا بجانبنا يبقى الواقع، وهو مجتمعات عرفت الحداثة بل لنقل اكتوت بها· عرفت في نفس الوقت الحداثة وضدها، استمعت لما تبشر به واستمعت كذلك لما تحذر منه، استمعت لإنجازاتها ووعودها وتطلعاتها، كما عرفت واستمعت للمعارضات والتحذيرات المواكبة لها والأزمات الناجمة عنها من حروب دولية وصراعات داخلية وقلق نفساني وتيه عاطفي (التيه الذي يركز عليه أمثال ميشيل فوكو).
رغم كل هذا فهذه
الدول هي اليوم تقول أو تدعي أو تظن أو تتطلع إلى تجاوز هذه الحداثة بالوسائل
والقدرات التي وفرتها لها الحداثة· وبالطبع نتكلم نحن عن حداثة موشومة أوروبية
لأنها هي التي تواجهنا وتتحدانا اليوم· ففي يوم ما في الماضي كانت حداثة إسلامية،
كانت حداثة صينية، كانت حداثة يونانية، كانت حداثة رومانية، وربما كانت هناك
حداثات لم نطلع عليها بعد· لكن ما يواجهنا اليوم هي الحداثة الموشومة أي الحداثة
الأوروبية·
إذن، هاهنا مجتمعات عرفت الحداثة إما طوعا وإما كرها· وفي الغالب طوعا وكرها، في الشرق وفي الغرب، بين الموحدين وبين المشركين· فهي الآن غنية واعية منتظمة قوية متعلمة مهيمنة على الأرض وعلى الفضاء· أمرها نافذ وكلمتها مسموعة· وهاهنا مجتمعات تلقت الحداثة كصفعة أو كركلة، فُرضت عليها فرضا في صورة التاجر والمبشر والغازي والمعمر·
هذه الحداثة في صورتها الاستعمارية الاستعبادية الاستغلالية، وأحيانا القاتلة، غيرت الآفاق، وتركت النفوس على حالها· بل دفعت بها إلى الوراء، وهذه النقطة أشرت إليها مرارا، الحداثة المفروضة تغرس، ترعى، تنمي النزعات المعادية لها· قامت يوما تلك المجتمعات، التي عرفت الحداثة في صورتها الاستغلالية، فوجدت الحداثة بين أظهرها (كما قلت في شكل تاجر أو راهب أو متودد داع إلى الإصلاح أو غاز، ···) وذلك بسبب الغفلة واللاوعي والاتكال الطويل على الوسطاء والمرتزقة، فلم تستطع لا التوسل منها ولا ترويضها حتى بعد أن استعادت استقلالها بتدبير شؤونها·
وحيث تزامنت الحداثة والاستعمار حاول البعض التخلص من الاثنين· وقد نعتبر الغاندية واللينينية والماوية والخمينية محاولات من هذا القبيل· مع أن هناك تعارضا بين لينين وماو، من جهة والخميني وغاندي، من جهة· التقييم مختلف وبالتالي التكتيك طبعا· والمعضلة التي تفسر الاختلاف هي التالية:
كيف نحقق الهدف؟ بوسائل قبل حداثية(هذا كان اختيار غاندي مثلا)· الأمر غير ممكن كما تبرزه مشكلة الحرب والتجارة والسياسة الدولية، وكما أوضحه التطور التاريخي نفسه· أم نحققه بوسائل الحداثة؟ (وهذا اختيار لينين وماو) أو على الأقل بعض مظاهر الحداثة العقلانية والعلمية مع إهمال المكونات الأخرى؟(الفردانية والحرية والديموقراطية)، لكن استيعاب العقل والعلم دون الاعتماد على الفرد الحر المسؤول هل يؤدي بالغرض؟
لست من الذين يفتقون اليوم على قبر لينين وماو· لكني أرى اليوم أن تجربة القرن العشرين تشير إلى أنه لا يمكن معارضة الحداثة إلا بتجاوزها، ولا يمكن تجاوزها إلا باستيعابها· قلت هذه الكلمة قبل سنين وهاجمني من أجلها من هاجمني، فأنا أعيدها اليوم وأتأسف لضرورة التكرار·
كل ما يمكن قوله ضد الحداثة قد سبق أن قيل أثناءها وفي ظلها، وبما أن العملية استؤنفت بعد توقف (هذا هو مضمون العولمة)، فيمكن دائما إعادة النقد الذي سمع أثناء الحداثة· فماذا نرى في عالم اليوم؟ نرى وضعا، هذا حازم قاصد كالصين مثلا، على غرار يابان الأمس، وذاك متردد متقاعس· لم تعد المسألة مسألة أهداف وقيم، هذه خرافة بل أكذوبة سافرة، كلنا نريد الرفاهية والأمن والثقافة· الجميع يريد حظه من الخيرات وإلا لما احتج، لما تظاهر، لما أضرب عن العمل·
الحداثة موجة العوم ضدها مخاطرة، ماذا يبقى؟ إما الغوص حتى تمر الموجة فوق رؤوسنا فنظل حثالة، وإما نعوم معها بكل ما لدينا من قوة فنكون مع الناجين في أية رتبة كان· تسألون: ما هي العوائق؟ استخلصوها أنتم من عرضي هذا، وهذا هو المنهج القويم·
العائق الأول - كما تبين - فكري، هو المعارضة الغبية الجاهلة أو التأييد الماكر· القول: إن الحداثة كانت مروقا، تنطعا، جهالة ندم عليها أصحابها فلزمت التوبة على القائمين عليها والقائلين بها والداعين إليها، هذا عائق لا سبيل إلى استئصاله، فأمره موكول إلى الحداثة ذاتها،إما تقهره وإما يتلفها، وإذا كان التلف فكلنا خاسرون·
أما العوائق الأخرى فيمكن أن نساهم في معالجتها ولو بتشخيصها· هي تلك التي تمت بسبب ما إلى إحدى مكونات الحداثة· كل ما يعوق تحرير الفرد من مختلف التبعيات: السياسية، الاجتماعية، العائلية، العشائرية، الفكرية يعوق التحديث· كل ما يعوق الحريات المدنية والسياسية يعوق التحديث· كل ما يعوق الديموقراطية في سيادة الشعب (شعب الأحياء لا شعب الأموات) يعوق التحديث· كل ما يعوق العقلانية العلمية (منطق التجربة والاستقراء) باللجوء إلى الغيبيات في حياتنا اليومية، في كل حركاتنا وسكناتنا، في مأكلنا وملبسنا ودوائنا، في ما نقرأ ونشاهد، يعوق التحديث·
كل واحد من هذه العوائق مجسد في قانون ،في عادة، في سلوك، في عبارة، في فكرة، في نكتة، في مثل،، لكل عائق مناط ،الأسرة، الجماعة، الحرفة، الحزب، المدرسة، المكتب ،المتجر· لكل عائق وجه، وبدأنا بتوضيح هذا الجانب، اقتصادي سياسي عقائدي· كل واحد منا يستطيع أن يذكر أمرا يقلقه أو يستفزه، قد يسميه غباوة أو سفاهة أو جهالة أو بداوة، بدعة،أو ظلما، أو تعديا· وكل تعبير يدل على تكوين واختيار· لكن في واقع الأمر، في خاتمة التحليل، قال ذلك أو لم يقله، فإنه يعرف الشيء الذي يستفزه، ويسميه بإحدى الكلمات التي ذكرت، بكونه عقبة في وجه التقدم والرقي وحسن تدبير الشأن العام· يود إصلاحه، وأحيانا يعمل على إصلاحه باليد أو باللسان أو بالقلب·
فإذا كان لحديثي هذا من فائدة فهي تشجيع كل منا أن يربط بين هذا الأمر المزعج أو المقلق وإحدى ركائز الحداثة كما وضحناها· هذا اجتهاد مطلوب منا أن نقوم به جميعا دون حاجة إلى مساعدة أحد، وإذا ما فعلنا ذلك وخرجنا من الاختبار بنجاح، فعندها نكون قد عبرنا، ذهنيا على الأقل، هذه الحداثة·
إذن، هاهنا مجتمعات عرفت الحداثة إما طوعا وإما كرها· وفي الغالب طوعا وكرها، في الشرق وفي الغرب، بين الموحدين وبين المشركين· فهي الآن غنية واعية منتظمة قوية متعلمة مهيمنة على الأرض وعلى الفضاء· أمرها نافذ وكلمتها مسموعة· وهاهنا مجتمعات تلقت الحداثة كصفعة أو كركلة، فُرضت عليها فرضا في صورة التاجر والمبشر والغازي والمعمر·
هذه الحداثة في صورتها الاستعمارية الاستعبادية الاستغلالية، وأحيانا القاتلة، غيرت الآفاق، وتركت النفوس على حالها· بل دفعت بها إلى الوراء، وهذه النقطة أشرت إليها مرارا، الحداثة المفروضة تغرس، ترعى، تنمي النزعات المعادية لها· قامت يوما تلك المجتمعات، التي عرفت الحداثة في صورتها الاستغلالية، فوجدت الحداثة بين أظهرها (كما قلت في شكل تاجر أو راهب أو متودد داع إلى الإصلاح أو غاز، ···) وذلك بسبب الغفلة واللاوعي والاتكال الطويل على الوسطاء والمرتزقة، فلم تستطع لا التوسل منها ولا ترويضها حتى بعد أن استعادت استقلالها بتدبير شؤونها·
وحيث تزامنت الحداثة والاستعمار حاول البعض التخلص من الاثنين· وقد نعتبر الغاندية واللينينية والماوية والخمينية محاولات من هذا القبيل· مع أن هناك تعارضا بين لينين وماو، من جهة والخميني وغاندي، من جهة· التقييم مختلف وبالتالي التكتيك طبعا· والمعضلة التي تفسر الاختلاف هي التالية:
كيف نحقق الهدف؟ بوسائل قبل حداثية(هذا كان اختيار غاندي مثلا)· الأمر غير ممكن كما تبرزه مشكلة الحرب والتجارة والسياسة الدولية، وكما أوضحه التطور التاريخي نفسه· أم نحققه بوسائل الحداثة؟ (وهذا اختيار لينين وماو) أو على الأقل بعض مظاهر الحداثة العقلانية والعلمية مع إهمال المكونات الأخرى؟(الفردانية والحرية والديموقراطية)، لكن استيعاب العقل والعلم دون الاعتماد على الفرد الحر المسؤول هل يؤدي بالغرض؟
لست من الذين يفتقون اليوم على قبر لينين وماو· لكني أرى اليوم أن تجربة القرن العشرين تشير إلى أنه لا يمكن معارضة الحداثة إلا بتجاوزها، ولا يمكن تجاوزها إلا باستيعابها· قلت هذه الكلمة قبل سنين وهاجمني من أجلها من هاجمني، فأنا أعيدها اليوم وأتأسف لضرورة التكرار·
كل ما يمكن قوله ضد الحداثة قد سبق أن قيل أثناءها وفي ظلها، وبما أن العملية استؤنفت بعد توقف (هذا هو مضمون العولمة)، فيمكن دائما إعادة النقد الذي سمع أثناء الحداثة· فماذا نرى في عالم اليوم؟ نرى وضعا، هذا حازم قاصد كالصين مثلا، على غرار يابان الأمس، وذاك متردد متقاعس· لم تعد المسألة مسألة أهداف وقيم، هذه خرافة بل أكذوبة سافرة، كلنا نريد الرفاهية والأمن والثقافة· الجميع يريد حظه من الخيرات وإلا لما احتج، لما تظاهر، لما أضرب عن العمل·
الحداثة موجة العوم ضدها مخاطرة، ماذا يبقى؟ إما الغوص حتى تمر الموجة فوق رؤوسنا فنظل حثالة، وإما نعوم معها بكل ما لدينا من قوة فنكون مع الناجين في أية رتبة كان· تسألون: ما هي العوائق؟ استخلصوها أنتم من عرضي هذا، وهذا هو المنهج القويم·
العائق الأول - كما تبين - فكري، هو المعارضة الغبية الجاهلة أو التأييد الماكر· القول: إن الحداثة كانت مروقا، تنطعا، جهالة ندم عليها أصحابها فلزمت التوبة على القائمين عليها والقائلين بها والداعين إليها، هذا عائق لا سبيل إلى استئصاله، فأمره موكول إلى الحداثة ذاتها،إما تقهره وإما يتلفها، وإذا كان التلف فكلنا خاسرون·
أما العوائق الأخرى فيمكن أن نساهم في معالجتها ولو بتشخيصها· هي تلك التي تمت بسبب ما إلى إحدى مكونات الحداثة· كل ما يعوق تحرير الفرد من مختلف التبعيات: السياسية، الاجتماعية، العائلية، العشائرية، الفكرية يعوق التحديث· كل ما يعوق الحريات المدنية والسياسية يعوق التحديث· كل ما يعوق الديموقراطية في سيادة الشعب (شعب الأحياء لا شعب الأموات) يعوق التحديث· كل ما يعوق العقلانية العلمية (منطق التجربة والاستقراء) باللجوء إلى الغيبيات في حياتنا اليومية، في كل حركاتنا وسكناتنا، في مأكلنا وملبسنا ودوائنا، في ما نقرأ ونشاهد، يعوق التحديث·
كل واحد من هذه العوائق مجسد في قانون ،في عادة، في سلوك، في عبارة، في فكرة، في نكتة، في مثل،، لكل عائق مناط ،الأسرة، الجماعة، الحرفة، الحزب، المدرسة، المكتب ،المتجر· لكل عائق وجه، وبدأنا بتوضيح هذا الجانب، اقتصادي سياسي عقائدي· كل واحد منا يستطيع أن يذكر أمرا يقلقه أو يستفزه، قد يسميه غباوة أو سفاهة أو جهالة أو بداوة، بدعة،أو ظلما، أو تعديا· وكل تعبير يدل على تكوين واختيار· لكن في واقع الأمر، في خاتمة التحليل، قال ذلك أو لم يقله، فإنه يعرف الشيء الذي يستفزه، ويسميه بإحدى الكلمات التي ذكرت، بكونه عقبة في وجه التقدم والرقي وحسن تدبير الشأن العام· يود إصلاحه، وأحيانا يعمل على إصلاحه باليد أو باللسان أو بالقلب·
فإذا كان لحديثي هذا من فائدة فهي تشجيع كل منا أن يربط بين هذا الأمر المزعج أو المقلق وإحدى ركائز الحداثة كما وضحناها· هذا اجتهاد مطلوب منا أن نقوم به جميعا دون حاجة إلى مساعدة أحد، وإذا ما فعلنا ذلك وخرجنا من الاختبار بنجاح، فعندها نكون قد عبرنا، ذهنيا على الأقل، هذه الحداثة·
[1] - ألقيت هذه
المحاضرة يوم 15/12/2005، وهي تندرج في نطاق برنامج ثقافي لاتحاد كتاب المغرب. ترأس
اللقاء الأستاذ عبد الحميد عقار وساهم في التعقيب الأستاذان عبد المجيد قدوري ونور
الدين أفاية.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق