«بدون» ضجيج ... مات فنان في مدينتنا! - القلم 3000

اَخر المشاركات

القلم 3000

مدونة القلم 3000، متخصصة في قضايا الفكر والشأن العام وفن العيش.

الأحد، 4 أكتوبر 2015

«بدون» ضجيج ... مات فنان في مدينتنا!



فؤاد بلحسن
belahcenfouad@gmail.com





لعله قبل موته بقليل سخِر من الموت باعتباره حدثٌ يجمع بين العنف واللطف...
لعله قبل ذلك بقليل رسم ابتسامة على وجه زوجته كما كان يفعل باستمرار...
لعله قبل ذلك أطلق خياله البسيط-المركب، الساخر-الجاد ليرسم آخر مشهد كاريكاتيري حول مصيره...
أو لعله قام بدمج مختلف رسوماته لينسج منها رسمة بانورامية تسخر من حياته التي عاشها على غير ما أراد...
هذا ما أتـوقعه من فنان عاش بالنُّــكتة وبالكاريـكاتير ولهما.
...
توفي الكاريكاتوري حميد أولمعطي ببيته، بعد معاناة طويلة من مرض السرطان، صبيحة الأحد 13 سبتمبر 2015 بالخميسات.
*    *    *

«بدون» .. بهذه الكلمة كان يوقع على رسوماته... بها أيضا كان يعنون واقعنا الذي فاض بطالةً وفقراً وسلطويةً!
يكفي توقيعه ذاك لتصنيفه كمناضل حقوقي ومثقف اجتماعي.
إن نظرة خاطفة على أعماله، أو ما تبـَـقى منها، حاسمة في تأكيد هذا التصنيف. فأعماله لا تهادن السلطوية، انتهاك حريات التعبير والاحتجاج، الفساد، تهديد الصحة العامة، الرشوة، أو غيرها من الأعمال والظواهر الماسة بالكرامة البشرية. «كرامة الإنسان خط أحمر»، هذا ما آمن به وعمل من أجله.
نعم تكفي أعماله لتصنيفه ضمن زمرة مناضلي المدينة ورموز تاريخها الفني بعد أن بصَم حضوره في العديد من المجلات والجرائد الوطنية والأنشطة الثقافية، غير أنها لا تكفي لإظهار روحية المناضل التي عاش بها وعليها.
فقد ضم إلى موهبته ومهاراته في الكاريكاتير، خصال الكرم والصبر والمرح وحب البساطة بشكل فريد.
يحدث أن أزوره بدون موعد، فيفتح الباب على مصراعيه ويطلب مني الدخول على عجل، قبل التحية: «زِييييدْ». بيته، كما أُخبِـرت غير ما مرة، كان بيتاً للجميع.
يحدث، وأنا مار أمام بيته، أن أطرق الباب في أوقات غير مناسبة، قبيل الغذاء أو أثناءه، خشية مني أن أنسى لاحقا زيارته أو أن أغيب أكثر مما ينبغي، خاصة بعد أن تيقنت أن مرض السرطان على وشك أن يتجاوز حدود صبره ليُـسلمه إلى الموت. أدُّق، يفتح الباب، يقوم بإيماءته اللطيفة المعهودة من خلال تحريك رأسه إلى اليمين، يدخل البيت ويتركـني مترددا على الباب. أرغب في توضيح أنني هنا بقصد التحية والاطمئنان على صحته لا أكثر، فلا يترك لي فرصة لفعل ذلك. فأدخل مضطرا. يطلق كلمة تضحكني وزوجته، يجلس، يدعوني للجلوس، ثم نشرع ثلاثتنا في حديث ممتع. يزيد متعة ونحن نشاهده يملأ كل الفراغات التي تُـحْدثُها الزيارات غير المبرمجة سلفا. سريعا يتبخر ارتباك زوجته ما إن ننطلق سويا في تجاذب الحديث بسخرية ومرح.
يدعوك أكثر من مرة للأكل، يحثك على المكوث معه حتى تتهيأ فناجين القهوة، ثم ينهض ليُطلعك على خزانة كتبه، ويقول: «خذ ما شأت منها. خذ هذا وخذ ذاك. [يضعها بين يديك] لا تخجل!». فيزيد خجلك أكثر أمام هذا البحر من السخاء.
ما إن يسرح بذهنه وخياله إلى حيث لا ندري حتى تشرع زوجته في الحديث عن مشاهِد من كرمه. «كان بيتنا مليء بالكتب. غير أن الكثير منها ضاع. فهو لا يرد طلب أي شخص بشأن أي كتاب. موسوعات بكاملها صارت أثرا بعد عين!». مع ذلك، لا يلتفت الرجل إلى هذه الخسارة، كأنه يقول «الخسارة الحقيقية هي في عدم القراءة لا في ضياع الكتب». «لقد أنجز الكثير الكثير من الرسومات، لكنه الآن لا يملك إلا القليل منها. والآن لا ندري أين هي!»
يأخذك إلى الباب أو إلى آخر الزقاق، ثم يُذَكرك كعادته: «تجدني في زاوية مقهى (أ). ما تَـغْبَرْشْ عْلِينَا»!
...
عندما قالوا له، لن تعيش أكثر من 4 أشهر أو شيئا من هذا القبيل، تمسك بصبره وأطلق عبارات رقيقة بشأن الموت والنهاية، واستأنف. ثم عَـبر على جسر أعماله الساخرة إلى ما بعد الأربعة أشهر. وحين كذَّب امتداد روحه توقع العلم، شرع يسخر من الأطباء. كأنه قال: «الأفق أبعد بكثير من الغد».
...
لا يترك فرصة من دون أن يبصم بصمته الخاصة. عندما كانت تطول بعض الاجتماعات، يضِيق صدره، فينفجر نكتة. عندما كان يعم صمت منظم أو كلام فوضوي، يجر ورقة ويخط رسمة كاريكاتورية، ثم يبتسم لها ويقدما لمن هو على جانبه حتى يسرق منه ابتسامة تسخر من تهجم الوجوه المحيطة وجديتها الزائدة أو الزائفة بحسب الحالات. وهكذا، كان «المرح تاجٌّ فوق رأسه».
...
في يوم من الأيام، التقيته وزوجته في الشارع العام، حيَّـى بعضنا البعض، تبادلنا بعض الأخبار ذات الأهمية حينها، ثم دس يده في قفة وأخرج برتقالة كبيرة الحجم. «خذ». لم أردها ولكني تسلمتها بابتسامة بلهاء. ودَّعاني، والبرتقالة في يدي. ولأني لا أحمل كيسا أو محفظة لأضعها فيها، ارتبكت. لم يفاجئني الحادث بقدر ما فاجأتني بساطة الرجل. كأنه يقول: «الحياة أبسط مما نعتقد».
...
عندما قررنا، كنشطاء في حركة 20 فبراير، بتاريخ 22 ديسمبر 2012، أن نُقيم نشاطا دراسيا حول الكاريكاتير والشأن العام، بتأطير من الشاعر والمترجم رشيد وحتي، أخبرته أن اللقاء يتضمن فقرة خاصة بتكريمه. بعد تردد، قبِل الفكرة بتواضع. دخلنا، معا، بيته لأتسلم نسخا من أعماله على سبيل عرضها في النشاط، فإذا به يفاجئني بتسليمه إياي كل أعماله الأصلية، بما فيها تلك المنشورة في بعض الجرائد قبل حوالي عقدين من الآن أو أكثر! لم أستوعب في الفور حجم هذا السخاء والتجرد والثقة. وما زاد من دهشتي هو كونه لم يقدم لي أي توصية بشأنها: لم يطلب حسْن حفظها، لم يطلب نَسخها لإعادة الأصلية منها، لم يطلب إعادتها داخل أجل معقول، لم يطلب أي شيء من هذا القبيل! اتفقنا على موعد النشاط وترتيب فقراته ثم انصرفت حاملا على مسؤوليتي ثروة كاريكاتورية بحق. ولسان حالي يقول: «إنه تصرف جنوني!». لكن بعد أن هدأ بالي، وفكرت مليا في الأمر، وربطت هذا بذاك، قلت: «إنها أخلاق المناضلين الكبار الذين يضعون كل بيضهم في سلة شعبهم». فالرجل لم يؤمن في يوم من الأيام - وكما أكَّدت لي زوجته- أن رسوماته تلك مِلكا شخصيا له. ولهذا تجد أعماله قد تفرقت بين أصدقائه هنا وهناك. نعم، من جانب، إنه نوع من سوء التنظيم، لكنه، من جانب آخر، نوع من تنظيم مختلف، يمثل حب الآخر والتطلع إلى تعميم/تأميم الخيرات بعضا من أسسه.
انطلق النشاط، فجلس في زاوية بعيدة عن المنصة. عندما انتهى التكريم، قال من بين ما قال: «هذه الشهادة التقديرية التي قدمتم لي أغلى عندي من أي وسام!».

*    *    *

«بدون» رعاية صحية حقيقية صارَع مرض السرطان،
«بدون» أصدقائه، إلا ما ندر، تم تشييعه إلى مثواه،
...
«بدون» تكافؤ بين ِرقة قلمه وقساوة واقعه الشخصي والعام، رسم على قنطرة الأمل شارة النصر،
«بدون» توقيعه على موته، وقَّعت رسوماته على ذاكرته،
...
من حسن حظنا أننا "كرمناه" قبل وفاته، وإلا لكان عارُنا أكبر. مع ذلك، بقي الشيء الكثير لنقوم به. أقله 1.سهر أصدقائه الأقربين وزملائه على تشكيل لجنة لجمع أعماله وتصنيفها وتوثيقها وحفظها ولما لا نشرها ودراستها أكاديميا، 2. نسخ أعماله وجعلها معرضا دائما بالقاعة الكبرى للجمعية الحقوقية التي عمل لسنوات داخلها، 3. تسمية هذه القاعة باسمه!

*    *    *

شكرا لأصدقائه القلائل الذين حضروا تشييعه وفاء لروحه،
شكرا لجيرانه الذين عبَّروا عن تضامن أمسى، شيئا فشيئا،  كالكبريت الأحمر في ندرته،
شكرا لأولئك السلفيين بلحاهم الطويلة الذين ساروا في موكب جنازته، في الطريق الطويل وتحت الشمس، من دون أن يلتفتوا إلى كونه يشكل النقيض من أيديولوجيتهم،
شكرا للناس العاديين في الشارع الذين وقفوا احتراما لجثمانه،
شكرا لذاك الشرطي الذي أدى التحية الرسمية له حين مرور موكبه،
شكرا لزوجته التي أحبته بعمق.
...
لروحك دموعنا والدعاء!

17 سبتمبر 2015



صورة من حفل تكريم حميد أولمعطي قبل 3 سنوات (على يسار الصورة)


 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق