فؤاد بلحسن
belahcenfouad@gmail.com
قبل عشرات السنين (عشرون عاما و أكثر )، تحدث
عالم المستقبليات، البروفسور المهدي المنجرة، عن أن الوضع القائم في المنطقة
العربية لا يمكن أن يستمر، و أن مؤشرات التغيير الجذري السياسي و الإجتماعي تبدو
جلية في الأفق.
حينها، كان "مثقفون" كثيرون يعتبرون
قوله ذاك ضربا من الحديث الأجوف، و في أحسن الأحوال اعتبروه رأيا ساخنا من دون
موجب. و لذلك حشروه في خانة المعارضين السياسين و الإجتماعيين (و هي الخانة الأشرف
على أي حال بالنظر إلى وضعنا العربي)، لا خانة الأكاديميين و علماء المستقبليات.
أتذكر أنني زرته صبيحة يوم الأربعاء 12 يوليوز
2006، و بعد كلام، سأل بغتة: هل قرأت كتابي المعنون بـ: «انتفاضات في زمن
الذلقراطية». رددت، في خجل: لا .. لم أفعل!. ثم وجهت بصري إليه متطلعا إلى تعليقه
و مغزى سؤاله المباغث، فقال ما مضمونه: يتعين أن تقرأ ذلك الكتاب، أجد الأمر في
غاية الأهمية أن تفعل ذلك.
هكذا قال الرجل في حزم و يقين، لم يخفف من حدة
القول ارتعاش جسمه - الذي كان حينها قد استحكم فيه مرض الشلل الرعاش. تحدث في حزم
و يقين، كأنه قرأ في لوح المستور أن الإنتفاضات التي تحدَّث، طويلا، و كتب، كثيرا،
عنها حقيقة؛ لا خيالا؛ و أمر واقع غدا؛ لا
سرابا عرض على الذهن في لحظة هذيان، و أن المسألة مسألة وقت ليس إلا.
و كذلك
كان ...
فحاصل اليوم هو: انتفاضات .. انتفاضات .. و
انتفاضات!
فالأرض السياسية تهتز تحت الأنظمة العربية
القائمة، و القلق يدب في نفوسها و ينخر فيها كالسوس، أكانت هذه الأنظمة في شرق
الخريطة العربية أم في غربها. كأن السحر انقلب على الساحر، و لسان الحال: يوم لك
ويوم عليك!
ماذا تعني التحولات الجارية في مصر و العالم
العربي؟
·
تداعيات ثورة ..
حقيقة الحقائق اليوم في كل ما يجري و يدور، هو أن
التطورات الجذرية الجارية في المشهد السياسي والإجتماعي بالمنطقة المذكورة هي صدى
للثورة التونسية.
فها هي الثورة تؤكد حقيقتها المتكررة عبر
التاريخ، باعتبارها واقعة إقليمية و دولية ممتدة، بامتياز- لا واقعة قُطرية محدودة
فقط.
بالتأكيد، لم توجِد الثورة التونسية الشروط
كلها للإنتفاضات المتزامنة في واقعنا العربي- هكذا رأي يجانب الصواب مؤكَّدا. بل،
لقد كانت الثورة التونسية الشرط الأخير لانطلاقها، كما كان الشهيد البوعزيزي الشرط
الأخير في انتفاضة تونس ذاتها، لا مولِّدها الأول و الأخير.
هذه هي دينامية الثورة، كل ثورة. و لنا في
التاريخ عبـر، نرى من خلالها كيف تتحول ثورة ما في قُطر ما من ثقافة عامة تنجح في
تحطيم حاجز الخوف و تتعلق بالحرية و الكرامة، إلى فعل ثوري يقلب الأمور رأسا على
عقب، فما إن تبرد أرجل الثوار في لحظة انتشائهم ريح النصر بهذا القـُطر حتى تُـوقد
أرجل ثوار آخرين في قُطر ثاني .. و هكذا.
لنا في الثورة الفرنسية (1789) مثلاً. فلقد كان
لإعلان المبادئ الديمقراطية و المناداة بـ « الحرية، المساواة و الإيخاء» أثر هام
في أوروبا و العالم كله. وعلى سبيل المثال، أعقبت هذه الثورة مجموعة حركات ثورية تحررية
تشبعت بالثقافة الجديدة للثورة الفرنسية. ففي ألمانيا، ثار «اتحاد الدول الجرمانية»
بقيادة بروسيا ضد السيطرة النمساوية مما أدى
إلى تفكك الإتحاد (1849) ثم تنظيمه من جديد (1851) ثم إعلان الوحدة الألمانية. و
في إيطاليا، ثارت الإمارات التابعة للنمسا بمساعدة مملكة السافوَا. أخضعتها النمسا
بالقوة مما مهد السبيل لتوحيد إيطاليا.
و كذلك فعلت الثورة الروسية (1917)، التي أعادت
تشكيل خريطة أوروبا و آسيا، و قسمت العالم إلى تيارين: شرقي (بزعامة الإتحاد
السوفياتي) و غربي ( بزعامة الولايات المتحدة الأمريكية). سقطت أنظمة، قامت أخرى، تشكلت أحلاف، أعيد تشكيل علاقات، و قامت حروب و
صراعات سياسية، اقتصادية، ثقافية و أمنية.
و لنا كذلك في الثورة الإيرانية (1979) مثلا
آخر. لقد انعكست هذه الثورة حيوية كبيرة في شكل موجة كبيرة من التعاطف و الإنتفاضات
الشعبية في المنطقة العربية و الإسلامية و انتعاشا كبيرا للثقافة الإسلامية، لم
تُفلح فزاعة الطائفية الدينية و القومية التي رفعتها الأنظمة العربية في إخمادها.
كما شكلت هذه الثورة إعلانا لمرحلة ارتكاس ثقافة التطبيع مع الإسرائيلي و طرح
مشروع المقاومة مقابل مشروع السلام. بل، و انفجرت هذه الثورة لاحقا في قلب الصراع
العربي الإسرائيلي
و في وجه الكيان الإسرائيلي مقاومة مسلحة في جنوب لبنان بقيادة حزب الله؛ الأمر
الذي خلط جميع الأوراق في المنطقة و فرض إعادة ترتيب الحسابات السياسية و
الإستراتيجية، خاصة بعد حرب 2006، عندما بخَّر مقاومو هذا الحزب أسطورة الجيش
الإسرائيلي الذي لا يقهر في الهواء.
و لما كانت الثورة فعلا قَـوَوِيـًّا بالطبيعة،
و ممتدا جغرافيا بالأثر، نلاحظ كيف أن دولة صغيرة (الدولة الأصغر مساحة في شمال و وسط
إفريقيا، بل و من بين الدول الأصغر مساحة في إفريقيا و الشرق الأوسط) استطاعت
ثورتها أن تشكل زلزالا سياسيا واجتماعيا على امتداد المنطقة العربية طولا و عرضا،
و بلا استثناء. و استطاعت أن تدفع بانتفاضات كبرى إلى الواجهة في أكثر من دولة
عربية (مصر، الأردن، اليمن، الجزائر، ..) و حراكا سياسيا مهما ( أجندة حكومية
جديدة، سياسات عمومية جديدة، قرارات سياسية جديدة، ...) في أكثر من دولة عربية (
المغرب، ليبيا، الجزائر، موريتانيا، سوريا، الأردن، ...).
هذه هي الثورات و هذه هي دينامياتها العابرة
للحدود الجغرافية، السياسية و الثقافية على السواء.
لقد كانت الأوضاع السوسيواجتماعية و السياسية
على امتداد المنطقة تعطي مؤشرات واضحة على أن الأجواء مهيأة كل التهيؤ لاستقبال
تغيرات جذرية في اتجاه مرحلة عربية جديدة.
فسياسيا، تحوَّلت الأنظمة العربية إلى
"قبائل" حكمٍ، تُزاوِج بين أهل السلطة و أهل المال، في تحالف قَبَـر كل
تطلعات الشعوب إلى الحرية ...
و تحوَّل مصدر الشرعية السياسية للحكم من يد
الشعوب إلى يد قوى الأمن ...
و تحوَّل القضاء إلى
جهاز تحكمي سياسيا، و طبقي اجتماعيا ...
و تحولت الدساتير و
القوانين إلى واجهات للحكم، و رسائل إعلامية للترويج...
و أما اجتماعيا، فقد تحولت الإدارة العمومية
إلى مجرد إدارة لتصريف الأعمال – كما جاء في بعض تقارير وكليكس- و لحفظ الحد الأدنى من فرص العيش، لا إدارة تُخطط
للإنماء و تعمل من أجله.
و هكذا، هوى الإنسان في هذه المنطقة في
"بورصة" قيم الشعوب. و لذلك، كان كل ما طلبت به موجة الإنتفاضات: الحرية
في السياسة و الكرامة في الإجتماع.
فليس غريبا أن تسمع بعض المتظاهرين على شاشات
التلفاز في مصر - و في غيرها - يُصرِّحون في غضب و هيجان و حسم:
« يجب أن يخرج من البلاد .. نريد الحرية !»
« إن هذا الرئيس قد أذلـَّنا .. أذلـَّنا
بين الأمم !»
...
هذه هي الثورة .. و هذه هي ديناميتها، العابرة
للحدود.
لقد دفعت الثورة التونسية المنطقة بأكملها إلى
مخرج جديد. و لذلك، فان الإنتفاضات الجارية اليوم تفرض تحديا كبيرا، على مستويين
اثنين:
← على مستوى
قادة العالم العربي - المفتقدون للشرعية - خاصة و أن من بينهم قادة حديثو عهد بالسياسية
و لم يختبروا أجواء الإضطرابات السياسية، أكانت في شكل انقلابات، أو إنتفاضات
إجتماعية و سياسية (ثورات)، و ربما لم يقرؤوا
عنها حتى في كتب التاريخ!
و هكذا، يجد هؤلاء القادة الذين يفتقرون روح
التاريخ وروح العصر على السواء أنفسهم في مفترق طرق!.
← و على المستوى
الإقليمي و الدولي، حيث السؤال المطروح: إلى ماذا تقودنا التحولات الجارية اليوم،
على صعيد سياسة المحاور؟.
·
تكريس واقع الإصطفاف
الجديد
لسنوات أريد من هذه المنطقة أن تكون إسرائيلية
الهوى .. و سقط هذا الخيار.
و أريد
لها أن تكون شرقا أوسطا جديدا على الطريقة الأمريكية .. و سقط هذا الخيار كذلك.
فبعد سياق طويل من المواجهات - انطلق منذ زرع
"إسرائيل" بالقوة في المنطقة، مرورا بحرب 1967، حرب أكتوبر 1973، حرب
الخليج الثانية 1991، احتلال العراق 2003، حرب 2006 على لبنان والعدوان الأخير على
قطاع غزة 2008- برز اصطفاف جديد في المنطقة، وهو يضم محورين إثنين، يوجدان على النقيض
من بعضهما البعض:
ü
محور يضم إيران،
سوريا، المعارضة اللبنانية (في مقدمتها حزب الله)، حركات المقاومة الفلسطينية ( في
مقدمتها حماس)، و بشكل أو بآخر كل من قطر و تركيا.
ü
محور يضم المملكة العربية
السعودية، مصر، الأردن، دول الغرب المهيمن (و ضمنه إسرائيل)، و بشكل أو بآخر بعض
دول الخليج.
ففي أي صف ستأخذ الأحداث الأخيرة موقعها في
سياسة المحاور هذه؛ حيث تتصارع الإرادات، تتصادم السياسات و تتقاتل الجيوش؟. هل
سترفد محور الممانعة و الإستقلالية عن الغرب (المحور الأول)، أم أنها سترفد محور
التحالف مع هذا الأخير(المحور الثاني)؟
ثمـَّة بعض عناصر الإجابة:
لقد أراد الغرب المهيمن دائما أن تكون هذه
المنطقة موطن استقرار، و عمل من أجل ذلك بكل الوسائل ... لكن اليوم، يسقط هذا
الخيار- المبدأ، تحت ضربات الإنتفاضات المنتشرة كالنار في الهشيم:
×
فقد أسقطت الثورة
التونسية نظام بن علي، و هو نظام كان حليفا للغرب، و يجد منه كل الرضى و الدعم و
ذلك لثلاث أسباب رئيسية:
1.
لقد اعتبر النظام المذكور
دائما حليفا استراتيجيا للكيان الإسرائيلي، و لذلك حل نفسه من كل التزام لصالح
القضية الفلسطينية، و فضَّل موقف الحياد علنا، و التعاطف و التأييد للإسرائيلي و
تفهم مواقفه سرا.
2.
و لقد اعتبر هذا
النظام كذلك حليفا استراتيجيا للغرب في محاربته ما يسمى بـ » الإرهاب« (مع أن الغرب نفسه أول من حال دون إعطاء تعريف
محدد لمعنى الإرهاب على صعيد الأمم المتحدة، ليستغل هامش المناورة – السياسية و
العسكرية- الذي تخلفه ضبابية المفهوم). و الجميع يعرف كيف سكت الغرب عن التنديد
بجرائم النظام ضد الإسلاميين التونسيين. فقد كان يكفي النظام فخرا لدى الغرب أن
يقمع أناسا مناوئين له، حتى ولو كان ذلك على حساب حقوق هؤلاء في التعبير و الرأي و
المشاركة السياسية. لقد مرَّر الغرب كل تلك الإنتهاكات تحت عنوان عريض و ماكر:
محاربة الإرهاب!
3.
تنكر هذا النظام للهوية
الإسلامية للشعب التونسي رأسا، و تحوَّل إلى نموذج للتغريب الثقافي و المسخ
الهوياتي لشعب هو بالتاريخ و الجغرافيا و الثقافة مسلم الهوى – روحا وشكلا.
بل وساهم الغرب –
نفسه- ماديا في اغتيال واحد من أهم رموز تونس المتشبثين بثقافة الشعب التونسي
الإسلامية، حينما رأوا أنه المؤهل شعبيا و سياسيا لحكم البلد ( الشهيد فرحات حشاد)،
و دفعوا ببورقيبة، المـُتغرِّب ثقافيا- إلى سدة الحكم.
و هكذا قدم النظام
التونسي هوية شعب بأكمله عربونا بخسا في صفقة تحالف و مودة مع الغرب وبدعوى التنمية؛
وكأن هذه الأخيرة تتناقض و تفعيل قيم الهوية.
×
و اليوم ثورة جديدة
ترفع شعار التغيير الجذري، تجرف جذور نظام ثاني حليف من حلفاء الغرب و إسرائيل:
نظام مبارك. هذا النظام الذي شارك الغرب معاييره لتحديد العدو من الصديق في
المنطقة، فاستحق مقابل الوفاء الدعم:
1.
لقد وقَّع السادات
اتفاقية السلام مع الإسرائيلي، و جاء مبارك ليسهر على تنفيذ بنودها، وزيادة (ألم
يُساهم في شد الخناق على شعب غزة المحاصر مدة أربعة سنوات؟!)، و فتح أبواب و
ساحات و اقتصاد مصر للإسرائيلي، و في مقابل ذلك خندق حركة حماس في زاوية الخصوم. و
في خضم العدوان الإسرائيلي على لبنان في صيف
2006، عمل بكل جهده من أجل تبرير هذا العدوان سياسيا، و تغطيته إعلاميا؛ و
ذلك حينما حمَّل حزب الله المسؤولية عن إشعال الحرب و وصف أعماله بالتهور و
المغامرة غير المحسوبة!
و هكذا وقف النظام المصري
في صف الإسرائيلي ضد المقاومين.
2.
و لأن الإخوان
المسلمون هم الأكثر تمثيلا للشعب المصري (هناك تعبير مصري يقول: الشعب إخواني و
الحكم حزب وطني؛ و هو تعبير يعكس أزمة
الشرعية التي يعيش عليها نظام مبارك)، و الحركة الأكثر حيوية، تنظيما و معارضة –
إلى جانب القوى الوطنية المصرية الأخرى بالطبع – رأى الغرب و إسرائيل في قمع
النظام لهذه الحركة – و لباقي القوى الوطنية الممانعة - وقاية له و لمصالحه في
المنطقة، ضد كل تحول من شأنه إيصال مناوئين له إلى حكم البلد. و بذلك فضل هذا
الغرب الحفاظ على الوضع القائم في مصر ودعم الإستقرار الهش و غير الشرعي فيها؛
المبني على غلق منافذ المشاركة السياسية، تزوير الإنتخابات و الإستقواء بالأمن و
القضاء؛ و لو على حساب تطلع الشعب المصري إلى الحرية السياسية و العدالة
الإجتماعية. وأكثر من ذلك، دعم الغرب المهيمن هذا النظام برشاوى سياسية مالية
دورية لتعضيضه و المحافظة على استقراره (1,5 مليار دولار أمريكي سنويا هي قيمة حصة
الولايات المتحدة الأمريكية في هذه
الرشاوى).
×
و تشاء الأقدار مرة أخرى، أن يكون ثالث نظام
يتهدده الإنفجار- بعد المذكورين سابقا- نظامٌ موقـِّع لاتفاقية سلام مع الإسرائيلي
و مخترَق من هذا الأخير و من الغرب حتى النخاع. و بذلك، يلاحَظ كيف أن التحالف و
التعاون –بشكل أو بآخر - مع الإسرائيلي يبدو جليا كمؤشر نحس حقيقي على أصحابه.
و
المقصود هنا بالنظام الثالث نظام الملك .. عبد الله الثاني.
فالنظام الأردني
القائم، الحليف للغرب في المنطقة، هو الآخر هبت عليه ريح
التغيير شديدةً.
و اللائحة مفتوحة على
كل الإحتمالات بالنسبة لباقي الأنظمة !
لوحة: نرميم همام
سقطت منظومة «الإستقرار»
التي ظلت لسنوات مبدء ً ثابتا في سياسة الغرب المهيمن و الدول العربية الحليفة له
مع قضايا المنطقة. فقد كانت الأولوية دائما لـ:
1-
أن يبقى تدفق النفط و
الغاز الطبيعي رتيبا،
2-
أن تكون إسرائيل فوق
الجميع؛ و
3-
أن تستمر الأنظمة الحليفة
في الحكم بأي ثمن.
لقد سعوا من خلال هذا المبدأ إلى قمع كل القوى
الوطنية وإلى احتواء الإحتقان السياسي
والإجتماعي في المنطقة. لكن لا أحد تنبه إلى أنه ثمـَّة شيء يكمِن لهم برائحة
البارود. و على حين غفلة انفجر كل شيء، فهوت سواطير الغضب الثوري على رؤوس الأنظمة
الحليفة للغرب في المنطقة تباعا.
لقد نسي الجميع، و على
حد تعبير الصحفي الكبير محمد حسنين هيكل، أن الإستقرار « معناه الحقيقي الإتساق مع
مبادئ الحرية، العدل و كرامة الإنسان ».
و هكذا، ساهم الإنتفاض
ضد الإستبداد السياسي و اللاعدالة الإجتماعية الداخليين في تكريس الإصطفاف الدولي بالمنطقة
- الذي بدأت تبرز معالمه أكثر فأكثر، يوما بعد يوم - لصالح محور الممانعة.
و سرعان ما تم فرز
الخاسرين من المستفدين مما يجري و مما هو آت في الأفق.
الخاسر الأكبر:
"إسرائيل". لقد بدأ هذا الكيان يستشعر بشكل أكثر وضوحا أن الدائرة-الدرع؛
العسكرية، السياسية و الأمنية؛ التي طالما احتمى بها بدأت تتقلص إلى أبعد الحدود
لتصل إلى حدود فلسطين المحتلة ذاتها: في الشمال الشرقي دولة مقاوِمة لم توقع
اتفاقية سلام حتى الآن و تدعم – سياسيا و ماديا – قوى المقاومة المسلحة في المنطقة
(سوريا). على الحدود مع لبنان، في الشمال الغربي، يكمِن حزبا؛ مقاوِما مسلحا؛ سَبق
و أن كسر شوكة الجيش الإسرائيلي و نزع عنه
عنفوانه؛ عصي على الفهم، بَلـْه الهضم (حزب الله). وفي الجهة المقابلة من البحر
الأبيض المتوسط دولة بدأ عقد المودة معها ينفرط حبة حبة (تركيا). و في الجنوب
الغربي نظام حليف في الـنَّـزْع الأخير و على وشك أن يخلي الساحة لقوى وطنية – على
رأسها الإخوان المسلمون- مناوئة للوجود الإسرائيلي
(مصر)، و في الشرق دولة بدأت أعصاب نظامها – الحليف الإستراتيجي و المـُوقع الثاني
لاتفاقية سلام- ترتخي تحت ضغط المعارضة الوطنية و مظاهرات الشارع (الأردن)، و على
بعد آلاف الكيلومترات، تتوعدها دولة بصواريخ مدمرة يزيد مداها عن الـ 2000 كيلومترا
و تُهدد بجعل دولة إسرائيل دولة مقعدة تمشي على كرسي متحرك إذا ما زاغ تفكيرها و تطاولت
يدها على أراضيها الوطنية (إيران).
إنها مرحلة مأساوية
بنكهة اليتم بدأت تُحس إسرائيل أنها تَلجها مكرهة ً، ولذلك تبدو اليوم أيأس من غريق!
الخاسر الأكبر الثاني:
المملكة العربية السعودية. إذ، طالما استقوت المملكة بالموقف المصري، و استقوت مصر
بالموقف السعودي - في لبنان، كما في فلسطين و كذلك كانا ضد إيران.
و اليوم، تخسر هذه
المملكة حليفا رئيسيا لها، في الدفاع و الهجوم، و في التخطيط و التنفيذ. ستلتفت
المملكة مستقبلا و لن تجد غير دولا إما مأزومة أو صغيرة ( دول الخليج، اليمن،
الأردن، ...)
هذا
ما تقول الخرائط .. و هو ما تُـعززه الوقائع.
ومن
المتوقع أن تكون القضية الفلسطينية و الفلسطينيين الرابح الأكبر في هذا المعمعان.
هذا
ما تقول الخرائط أيضا .. و هو ما ستؤكده الوقائع.
و
بذلك تشق الإنتفاضات الجارية طريقها، سياسيا و اجتماعيا، على المستوى القُطري في سكة التاريخ الخاص لكل شعب قال
كلمته.
و
تشق طريقها، استراتيجيا، على المستوى الإقليمي و الدولي في سكة التاريخ العام
للمنطقة، الذي بدأت تميل كفته لصالح المحور الأول: دول الممانعة.
خرائط
في طريق التشكل ...
وقائع
في طريق الإكتمال ...
و
مواقع ما فتأت تتبدل ...
...
إنها
الذلقراطيات تنفجر !
...
و
إن غدا لناظره قريب!
الإهداء:
إلى روح السيد محمد البوعزيزي
…
وإلى السيد المهدي المنجرة .. الذي أقول
له:
ها هو التاريخ
يصدقك القول .. فلتنم قرير العين، مطمئن القلب .. نعم يا السي المهدي!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق