عن جريمة اغتيال مثقف الكرامة المهدي المنجرة - أو بعض مما لم يقل في مراسيم التأبين - القلم 3000

اَخر المشاركات

القلم 3000

مدونة القلم 3000، متخصصة في قضايا الفكر والشأن العام وفن العيش.

الاثنين، 16 يونيو 2014

عن جريمة اغتيال مثقف الكرامة المهدي المنجرة - أو بعض مما لم يقل في مراسيم التأبين

فؤاد بلحسن
belahcenfouad@gmail.com




أكتب لأبناء جيلي الذين لم يتسنى لهم معرفة السي المهدي؛ إذ كان خلالها الرجل بين كماشة، وبالكاد كان يتنفس!
أكتب لأبناء الجيل الذي يلي جيلي، لأنهم هم من سيحفظ الذكرى وفي أفقهم يعيش الحلم!
بالطبع، لا أكتب لأبناء الجيل الذي سبقنا؛ لسبب بسيط، وهو أنني سأكتب عنهم هم بالذات.
....
إخوتي، إن الرجل قضى نتيجة فعل إجرامي! جريمة يراد لها أن تطوى للأبد. شارك فيها، إلى جانب المخزن، "إخوتنا هؤلاء" من الجيل السابق، جيله هو.
نعم، إنهم شركاء في "الجريمة". كل بقدر سلطته، نفوذه، عزمه أو قلة عزمه، درجة استعداده لسماع الرأي الآخر، ومدى استعداده للصمت على انتهاك حق القول وحرية الفعل ...
لا مجال للتفصيل في مسؤولية المخزن الأخلاقية والسياسية عن "اغتيال الرجل"؛ فجرائمه، على هذا المنوال، لا تحصى كما أن أدلتها ما عادت تستجيب لمناورات الطمس.
"إخوتنا هؤلاء"، إخوة يوسف، كانوا مشاركين. مثقفوهم، ساستهم، إعلاميوهم، أدباؤهم، فنانوهم، وغيرهم كثير- والاستثناء قليل- كانوا، في مسرح الجريمة، حاضرون من وراء حجب تارات وبملامح وردية، تخفي خبثهم، تارات أخرى.
فأثناء تنفيذ الجريمة، التي استمر مسلسلها لأزيد من ثلاثين عاما، لم يكونوا مستعدين لا للتضامن مع الضحية ولا حتى لسماع صراخها، ناهيك عن الوقوف في صفها!
ألم يُمنع السي المهدي من إلقاء محاضرات، في عز حكم "مناضلي الحركة الوطنية" مطلع الألفية الثالثة، أولئك الذين كان يتكلم باسمهم، في الخارج، خلال مرحلة مقاومة الاستعمار، ثم أسس، في الداخل، منظمة حقوقية للدفاع عنهم وعن حرياتهم بعد الحصول على الاستقلال؟! 
هل يعتقدون أننا نسينا الأمر وطوينا الحزن؟!
لقد تم الصفح حتى على أولئك الذين خططوا لاغتيال الحسن الثاني في الستينات والسبعينات، وتـُـركوا يسرحون ويمرحون في ربوع المملكة وفنادقها ومنتجعاتها ، ويكسبون في مضارباتها وضيعاتها ومأذونياتها. لكن أريد للسي المهدي أن يعيش التضييق المتواطئ عليه!
...
كيف عاش السي المهدي وكيف عاشوا؟ من يكون ومن يكونوا؟ لمن عاش ولمن /لما عاشوا؟ 
لقد كان السي المهدي يعيش بين الناس، حيث كانوا هم يعيشون بين دهاليز المال والأعمال الملوثة بالريع والظل المخزني ...
كان يستقبل الناس، كل الناس، في الوقت الذي كانوا هم يستقبلون من سيدعم ترشيحهم لهذا المنصب أو ذاك، من سيقف معهم في الحملات الانتخابية، من سيرمي ورقة تحمل اسمهم في الصندوق الانتخابي، من سيأخذ لهم صورة في المجلة الفلانية، من سيكتب عنهم مقالة إشادة أو قصيدة تكريم، ومن سيبني لهم جسرا إلى "القمة" ...
كان هو يصعد، معنويا، بين أبناء جيلي، بعد أن تلمسوا فيه صدق الطوية، ذوق الكرامة، وموقف الرجال، في الوقت الذي كانوا هم يتساقطون، واحدا تلو الآخر، في رقعة العمالة، دناءة الطبع، تقبيل الأيدي، تسخير المواقف، واسترخاص المروءة!
كان هو ينتقل بين دراسة هنا عن الوطن العربي المسلوبة إرادته على يد رؤسائه وملوكه، ودراسة هناك عن الشعوب العربية المستضعفة. بين دراسة هنا عن العالم الثالث وأحلامه الممكنة، ودراسة هناك عن الاستعمار الجديد وسقوطه الحتمي، بين دراسة هنا عن ماضي المستقل وأخرى هناك عن مستقبل الماضي، ... في الوقت الذي كانوا هم يتنقلون بين وزارة هنا، ومؤسسة عمومية هناك، بين حفل توشيح هنا وحفل عشاء هناك ...!
كان يراهن على العلم، التقنية، المعرفة، سياسات الاستقلال وإنهاء علاقات التبعية للغرب، وكانوا هم يراهنون على السياحة، تصدير الطماطم، فتح السواحل للأوروبي!
كان هو يراهن على تعليم الإنسان المغربي وعلى سياسة جادة للتصنيع وتطوير الابتكار وإنتاج الخدمات، وكانوا هم يراهنون على توفير اليد العاملة الرخيصة في المناطق الصناعية الحرة للمُصَنع الأجنبي!
كان يعطي الطلاب من وقته الثمين إلى أن يرتووا، يحزنه أن يعودوا بغير ما أتوا من أجله، ويستحي أن يرد لهم طلبا، وكانوا هم يأنفون من الوقوف مع الطلاب في ساحات الجامعة أو على قارعة الطريق، بل كان بعضهم يفضل لقاء المقاهي والشقق مع الطالبات و ضرب مواعيد لا يحل أجلها مع الطلبة!
كان هو يجلس في مكتبه المتواضع، أقصد المتواضع جدا، بشارع عمر بن الخطاب بالرباط، وكانوا هم يعبثون بمال دافعي الضرائب، متفنين في اختيار أريكات، لوحات وأكسسوارات مكاتبهم الجديدة والمتجددة باستمرار!
كانت خريطة العالم نصب عينيه بحراكها وتحولات القوة فيها وتبادلاتها الاقتصادية والتجارية، وبدينامية شعوبها وتسارع تراكم المعرفة في مختبراتها، وكان همهم هم تزوير أرقام الاقتصاد والمالية العامة وتبادل العلاوات!
كان أفقه العالم كله من آسيا إلى أمريكا الجنوبية، ومن أوروبا إلى إفريقيا، لا تتزحزح عينيه وحسه عن استشعار التغيرات الآتية؛ وكل ذلك خدمة لوطنه وللعالم الإسلامي وللمستضعفين في كل العالم، وكان همهم رصيد البنك، رضى الزعيم، البطن وما تحت البطن!
كان يصرخ ويهمل لوقف تدمير الشعوب المختلفة والحضارات الإنسانية في كل العالم خدمة لأطماع الشركات الكبرى والصهيونية العالمية، وكانوا هم يدمرون شعبهم في الداخل وقواه الحية وأسوار المدن والقصبات والمدارس العتيقة وغيرها من المعالم التاريخية القديمة والمعاصرة!
كان هو محبوسا في مكتبه، يعصر قلبه أسا على وطن أخلف مواعيده مع الكرامة والحرية والعدل والجمال والذوق والفن، وكانوا هم يصمتون على الصمت أو يقهقهون على "البهلوان" الذي يعزف خارج اللحن وبما لا يشتهي قائد الأوركيسترا وحراس القلعة الكبار!
كان هو يريد المغرب لنا جميعا، وكانوا هم يريدونه لأنفسهم، وكذلك كان وهو كذلك ما يزال!
...
بصمت، انبطاح وتواطئ "إخوتنا هؤلاء"، أريد أن يُكسَر الأمل في قلب السي المهدي، لولا أن معيشه كان بين غيرهم؛ بين أبناء الشعب؛ لا بينهم هم، ولولا يقينه، الممزوج بإيمان غيبي، بأن انتفاضة الكرامة قادمة لا محالة.
هكذا كان هؤلاء في مقابل السي المهدي، والآن هم أنفسهم من يحثون الخطى للالتحاق بمسيرة تأبينه، ولإلقاء كلمة تسلط الضوء على وجودهم "المبارك"، ولالتقاط صورا بالمناسبة، ولمالا ذرف فضلات دمع رقراق تزيد المشهد وهجا! 
فإذا كان المخزن يجيد اغتيال الأحياء، فإن هؤلاء يُجيدون قتل الأموات مرتين!
لقد شاركوا في اغتياله المستمر والذكي لأزيد من ثلاثة عقود؛ عبر التهميش، الاقصاء، المنع والتضييق، والآن يحاولون إتلاف آثار الجريمة. فلا تصدقوهم!
إذ أنتم إخوة المهدي الوحيدون، فما كان المهدي، يوما من الأيام، صديقا للجلاد ولعملاء الجلاد، وإنما كان أخا للضحية وشريكا في التضحية. إخوته هم أبناء الشعب الذين يريدون، بإصرار، الكرامة والانعتاق من أغلال السلطوية المرنة والعبودية المقنعة التي تكشفها مظاهر التحرر المزيف والحرمان الاجتماعي والاحتكار الاقتصادي وعنف المخزن الماكر!
المهدي هو العالِم المثقف الذي لم نسمعه يوما يقلل من شأنكم ولا من قدراتكم ولا يضحك على ذقونكم، كما يفعل هؤلاء ببراعة. ولم نسمعه يوما يقول تعابير الاستعلاء في شأنكم، بالرغم من كل ما قطعه في طريق العلم والمعرفة والخبرة والتجربة ... بل كان يقول لكم «خُّوتِي» وكان فعلا أخا للشعب- وهو اللقب الذي يستحقه. المهدي هو الذي أدى الضريبة تلو الضريبة في سبيلكم يا أبناء جيلي وفي سبيل الأجيال القادمة، وهو من قال من أجلكم أيضا، في منبر جمعوي بمدينة مكناس، في عز الاستبداد، حيث كان يُطلب من المرء قمع حنجرته لأن الجدران لها آذان تسمع بها وتُـبَلغ: « ... الحرية لا تُـعطَى، الحرية تُأخذ ويؤدى عليها [...] والحياة مقاومة ... وعلى الإنسان أن يبقى على يقظة دائمة، لأنه ما إن ينجلي الاستعمار حتى يأتي استعمار جديد محله ... والحرية الحقيقية هي التي يكون صاحبها على استعداد دائم لأداء ثمنها [...]. وأنا أديت ضريبة حريتي وعلى استعداد لأؤدي عنها المزيد [...] فالخوف يكون من الله وحده ...»
لنا جميعا، عشاق الكرامة، السي المهدي، ولهم، هم عبيد "الإله" الصغير، العار الأبدي!
...
أنتم إخوة المهدي، ومنكم يَـنتظر الشيء الكثير ...
...
الله يرحمك أ سِيدِي المهدي
الله يرحمك أ سِيدِي المهدي
الله يرحمك أسِيدِي المهدي

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق