بانوراما دينامية حركة 20 فبراير بعد عام من الحراك - مأزق كثيرين و آمال متعددة - - القلم 3000

اَخر المشاركات

القلم 3000

مدونة القلم 3000، متخصصة في قضايا الفكر والشأن العام وفن العيش.

الأحد، 8 أبريل 2012

بانوراما دينامية حركة 20 فبراير بعد عام من الحراك - مأزق كثيرين و آمال متعددة -

فؤاد بلحسن



يمثل هذا المقال سليل خليط من القراءات لمقالات كُـتبت - على سبيل النقد أو المتابعة أو حتى السخرية، سواء كانت غثة أم سمينة - قـُـبَـيل أو بعد الاحتفالات بالذكرى السنوية الأولى لخروج حركة 20 فبراير إلى الشارع. و هو كذلك ثمرة مجموعة من الحوارات التي أجراها كاتب السطور مع عشرات الناشطين – قياديين و نشطاء عاديين - في صفوف التنسيقيات المحلية للحركة على طول خريطة البلاد و عرضها (مدنا كبيرة كالرباط، سلا، فاس، القنيطرة، آسفي، و غيرها أو متوسطة و صغيرة، كميسور، زاوية الشيخ، الخميسات، تزنيت، سيدي سليمان و غيرها) و كذلك مع عشرات الناشطين السياسيين- إسلاميين و يساريين و غيرهم.  و أخيرا، هو كذلك نتيجة معايشة لمسار الحركة – كتابة و عملا ميدانيا - في معظم تفاصيلها و منعرجاتها.
هي محاولة لتقييم مسار حركة شكلت ديناميتها مرحلة تاريخية بامتياز في التاريخ العام للمغرب، وذلك عبر رصد فعلها و تفاعلها مع المحيط (الفاعلون السياسيون و المجتمع بدرجة أساسية) انطلاقا من الفترة التي سبقت الانتخابات التشريعية الأخيرة و إلى اليوم، ودون أن يعني هذا التنكر للمسارات الكبيرة التي سبقت هذه المرحلة و التي لازالت آثارها مستمرة (ربما رغبة لتجنب تكرار الأفكار التي سبق وأن خطها الكاتب سابقا و يمكن الرجوع إليها).
*    *    *    *    *

الذات في مرآة الآخر .. حسابات المحيط و القصر !
بعد حوالي سنة على انطلاقتها، الجميع (الحركة ذاتها و الحليف و حليف الأمس و الخصم و "العدو") تحسس موطأ قدمه في ساحة المـَعْمعَان و مسافته من حرارة الحراك. جميعهم أخذوا نَـفَسا طويلا ليلفظوا تقريرا عن ذواتهم، بل مـن بين هؤلاء من بادر إلى ذلك قبل هذا التاريخ (العدل و الإحسان مثلا). و مؤكدا أن الحركة آخر من فعل ذلك، فلقد كانت بيروقراطيتها عصية على إعادة التوجيه وممارسة النقد الذاتي بالسرعة المطلوبة في علاقتها مع الخارج.
على أي حال، كل رأى وجـهه في مرآة الآخر و رآهم المجتمع جميعا: فلأول مرة يتحدد فرز حقيقي للفاعلين. فعَـهْدنا أن يتحدث الجميع همسا في فضاء منغلق على نفسه، حتى تكاد لا تميز بين ما إذا كان هذا الفاعل أو ذاك يتحدث أم يختنق .. و لا تكاد تُـميز في الخطاب و السلوك بين من يتحدث ليقول ما يعتقده حقيقة و بين من يقول ما يريد الآخرون سماعه منه. الآن بات للجميع أن يتحدث مع منسوب كبير من الأوكسجين، شرط أن ينتقي الكلام و المواقف و يتحمل تبعاتها السياسية.  و باختصار، تقلص هامش العبث وانكشفت أكثر ساحة الغموض و قواعد اللعب.
فحتى القصر- و الملك تحديدا- تقلص هامش مناوراته السياسية و ضاقت خياراته، نتيجة: الرجة الثورية في المنطقة و سياقها المغربي، سقوط مشروع "حزب صديق الملك" – حزب الأصالة و المعاصرة - ، الأزمة الاقتصادية و الاجتماعية للبلاد، انكشاف تعثر ما سمي بالانتقال الديمقراطي، و الرغبة الأكيدة لبعض الأحزاب و التنظيمات في الأغلبية و في المعارضة في العيش في جو ديمقراطي حقيقي بعيدا عن التحكم و السلطوية التي تتدخل في كل شيء باسمهم هم، ...
وقد نتصور كيف كان سيبدو الأمر مُحـرجا لو أن حركة 20 فبراير طالبت بفتح ملف "المبادرة الوطنية للتنمية البشرية" للنقاش و التقييم و المحاسبة، و رفعت صوتها الاحتجاجي عاليا على هذا الصعيد، مثلا !
و باختصار، لم يعد مسموحا - شعبيا و مؤسساتيا – أن يبقى التخلف و الفساد و الإستبداد قدَرا مفروضا على شعب يعيش على بعد 14 كيلومترا من القارة الأوروبية و يشهد إنجازاتها الإنمائية و الديمقراطية صباح مساء.
في السياق المغربي للربيع العربي، انكشف الجميع أمام الجميع. و باتت السياسة تمارس عارية، انطلاقا من الخطب الرسمية والحزبية، مرورا  بالبرامج التلفزية و الكتابات و وصولا إلى الشعارات الإحتجاجية. خلعت السياسة ثوب  النفاق السياسي، و شُرع في تسمية الأشياء بمسمياتها.
و في الأخير، و بعد أشواط من الصراع و التنافس السياسيين بين الفاعلين، لم تقم لا ثورة و لا تم الحسم، توافقيا، في شروط عبور البلد إلى الديمقراطية[1].
فأصبح مشروعا و ضروريا الآن التساؤل: ماذا جرى تحديدا؟
*    *    *    *    *

حركة 20 فبراير و الدور المفقود !

بتاريخ الخميس 23 فبراير 2012، كتب  د. فؤاد بوعلي مقالا عن حركة 20 فبراير[2]، و مما جاء فيه: « في الذكرى السنوية للحركة قالت صحيفة "الواشنطن بوست" الأمريكية أن حركة 20 فبراير "ضلت طريقها" إلى الثورة، لتحقيق تغيير في المشهد السياسي للبلاد، موضحة أنه بعد مرور عام على انطلاق الحراك الشعبي في المغرب، فإن الحركة التي قادت الاحتجاجات في المغرب يبدو عليها الآن بعد عام من ولادتها أنها ضلت طريقها وإن كانت لا تزال تناضل من أجل الحصول على دور».

هل هذا ضرب من المبالغة أو من المزايدة؟. لا يبدو الأمر كذلك، ما دام حتى مناضلو الحركة باتوا يرددون نفس الأمر وووقفوا على نفس النتيجة.

لا بل، ذهب آخرون إلى أبعد من هذا، عندما أعلنوا نهاية الحركة، من بينهم صحفيون متتبعون (مثلا، توفيق بوعشرين، مدير تحرير جريدة أخبار اليوم)[3] و أكاديميون جادون كذلك (الباحث في الحقل السياسي عبد الرحيم منار أسليمي مثلا)[4].

 لكن، ما الذي دفع إلى هذه النتائج/ الاستنتاجات؟

لا يجادل أحد في أن حركة 20 فبراير أحدثت فـتـقا في جدار السلطوية بالمغرب و أرْخت قبضة النظام – و على رأسه المؤسسة الملكية -  على الفضاء العام. فلوقت طويل، أطرت- بـإحكام- طابوهات سياسية كبيرة على النقاشات السياسية و حدث انسداد في الفضاء العام. فكان لها السبق إلى إشعال الديناميت في كل ذلك الركام السياسي المريض: تخلف تنموي و سياسي و خطابي و مع ذلك لم يخجل آل النظام من التشدق بكل أدبيات الحداثة و التنمية البشرية و الديمقراطية و هلم جرا.
لن يدخل الكاتب في تعداد ميكانيكي للمكاسب التي تحققت، فقد كتب غيري، ضمنهم متخصصون، و كتب كاتب السطور أيضا في وقت سابق في الموضوع؛ هنا سيتم تجاوز هذه المقاربة لنطرح سؤالا يبدو أكثر أهمية.
هل فعلا ما حققته الحركة حتى الآن أقل بكثير مما كان ممكنا؟. هذا السؤال سيكون مدخلا للإجابة على السؤال المطروح قبل قليل.
سؤال محير و يفتح النقاش على التأويل و حرفة افتراض السيناريوهات بامتياز.
لا أحد تقريبا يُـنكر – و قليل مَن يفعل على أي حال - أن الحركة دخلت، مبكرا، سن اليأس الإبداعي، على الرغم من احـتـفاظها بحيوية نضالية غير مسبوقة. فلقد جرب النظام أكثر من وسيلة و حيلة لإخماد الفتيل الفبرايري أو على الأقل تطويق امتداداته: تارة في اتجاه الحركة و هيئاتها الداعمة، و تارة في اتجاه الهيئات غير الداعمة و المناوئة لها، و ثالثة في اتجاه الشعب، و ذلك عبر مناورات سياسية، اجتماعية و إعلامية عبرت عن علو كعب النظام في التعامل مع الأزمات المتولدة. و مؤكدا، كان العنف في حالات عدة هو لغة الخطاب، لكن بقي دائما في دائرة الاستثناء و ليس القاعدة. بل و تم اللجوء إلى الذاكرة الجماعية الأسطورية والخرافة لحث الناس على أخذ مسافة من الحركة ( حدث أمر في تزنيت مثير للضحك حقيقة: فبالموازاة مع الأنشطة التعبوية التي باشرها الناشطون بتنسيقية الحركة هناك؛ إعدادا للإحتفال بالسنوية الأولى؛ باشر كذلك المخزن تعبئة مقابلة غريبة، حيث روج بين أوساط الناس و المؤسسات - التعليمية و غيرها- أن "الغُـولة" في طريقها إلى المدينة و ستنقض بطبيعة الحال على كل من وُجد خارج بيته يوم الأحد- أي يوم الإحتفال!. و من علامات وفود "الغولة" أنها تهجم على البيوت ليلا خابطة بقوة على أبوابها. و كذلك فعل البلطجيون بعد أن انتشر الخبر كالنار في الهشيم، إذ بادروا ليلة الاحتفال بالذكرى السنوية إلى الضرب، بعنف، على أبواب الناس لترهيبهم!).
و عموما، استطاع النظام في جبهته إقناع حلفائه و خصومه، غير الفبرايريين، بأنه على استعداد للدخول في مسار سياسي جديد يستهدف تحقيق تغيير جذري في بنية الدولة، بينما بقي الخط النضالي في جبهة الحركة رتيبا و بلا مناورات تكتيكية و لا أفق استراتيجي: مسيرات و وقفات محلية روتينية، سرعان ما بدأت تتراجع، رويدا رويدا، من حيث الامتداد الجغرافي، الكم الجماهيري والعمل الميداني على السواء (الرباط، طنجة، القنيطرة، و غيرها)، لا بل توقف نشاط العديد من التنسيقيات المحلية تماما ( الجديدة، مريرت، زاوية الشيخ و غيرها).
نعم، هكذا دخلت الحركة دورة رتابة لم تفكر/لم تسطع الخروج منها. و يتذكر كثيرون كيف أنه قبيل التصويت على مشروع الدستور كنتَ ترى و تسمع الناشطين الفبرايريين يرددون عبارات لا تحتمل اللبس حول ضرورة تجديد تكتيك الحركة و ضخها بأفكار جديدة لمواجهة استراتيجية الدستور المحكمة، لكن و بُـعيد التصويت على هذا الأخير، تَـنكَّر معظم هؤلاء إلى ما بدا البارحة حاجة ملحة. فدخلت الحركة، مجددا، روتين الوقفات و المسيرات، بدون أدنى التفات إلى قياس مدى تناسب وقعها مع أهداف الحركة !
و بقي الحال على ما هو عليه إلى حين وصول الانتخابات التشريعية، فأشعلت الحركة موجة التنديد بالانتخابات و رفضها جملة وتفصيلا؛ بطرح مبررات معقولة إلى حد كبير، و على رأسها غياب هيئة مستقلة لتنظيم الانتخابات (هذا، بغض النظر عن موقف الحركة من الدستور نفسه التي تنظـَّم في إطاره هذه الانتخابات، و التي تطالب كبديل عنه مجلسا تأسيسيا منتخبا لصياغة دستور ديمقراطي و شعبي للبلاد). و بالتأكيد لها الحق في ذلك، كما لغيرها الحق في وجهة نظر مخالفة، لكن المؤسف هو أنها لم تفكر في إبدال تكتيكها أبدا و بقي "السلاح" هو "السلاح": مسيرات تعبوية و وقفات تنديدية (الملاحظ أثناء هذه الأشكال النضالية أنه لم تتم إدانة حزب السلطة "حزب التراكتور" بشكل صريح؛ عبر فضح أصوله و أساليبه في تمييع الحياة الحزبية، و استغلاله موارد الدولة/المواطنين، و دوره في خلخلة الموازين السياسية و تشويه العمل الحزبي !).
و زاد الطين بلة توقيف جماعة العدل و الإحسان نضالها ضمن صفوف الحركة، و الذي لحقته موجة انسحابات في صفوف من سُـموا بـ«المستقلين» ( و لا تخفى أعمال البلطجة التي مارسها بعض  هؤلاء [5] ؛ للتشويش على نضال الحركة، لإضعاف جماهيريتها وللطعن في مناضليها. ومنهم من فعل ذلك خدمة للرجعية المخزنية، و أسماء بعضهم معلومة و موثــَّـقة.
قد لا يبالغ أحدهم إذا قال، أنه، فقط، عقب موجة توقيف الأنشطة و الانسحابات المذكورة بادرت الحركة إلى "إبدال استراتيجيتها": أصبحت "الإستراتيجية الجديدة" لدى المكونات السياسية و المدنية المستمرة في النضال- و التي أصبحت هي العمود الفقري للحركة (حزبي النهج و الطليعة و مكونات سياسية و مدنية أخرى)- الحفاظ على استمرارية وجود الحركة أكثر منه البحث في سبل تجاوز أزمة الحركة التعبوية و أزمة تعثر الإنجازات المنتظرة و سبل مواجهة محاولات إجهاض حُـلمها المشروع في تحقيق الحرية والكرامة والعدالة الإجتماعية للشعب المغربي.
و لم يشفع طول الانتظار و سوء تدبير الموارد الجماهيرية في المراحل الأولى للانطلاقة و عدم الاحترافية في إدارة لعبة الضغط وغياب تحديد أهداف مرحلية واضحة للنضال في ظل تشتت قرار الحركة - و التي انضافت إليها موجة تعليق الأنشطة و الاستقالات المذكورة آنفا – إلى الدفع في اتجاه مراجعة جذرية لمسار الحركة. فكان ما هو جارٍ واقعا في اليومي حاجبا لما هو ممكن في الأفق !
و في الواقع، كثيرا ما كان الملاحِظ أو الناشط يشعر أن الأمور في الحركة تمشي بلا عَـلم هداية و لا قَـبس من نور.
لقد مثَّـلت اجتماعات مجلس الدعم الدورية، منذ البداية، مجرد محطات لجرد التطورات و الحشد و إدانة خروقات النظام أكثر منه محطات لصياغة أوراق مرجعية تُـلم كل مُشـتَّـت و تقترح  و تقدم رؤية نضالية واضحة يمكن أن توجه النضال و تـزرع الثقة بين مكونات الحركة و توجه عملهم الجماعي نحو أهادف واضحة.
فقد كان لتشبث الحركة بمبدئها / معتقدها التنظيمي «لا قيادة للحركة» نصيبا في تكريس العمل التنظيمي غير المنظم !.  و في الواقع، كان هذا المبدأ التنظيمي يترجم حالة من عدم الثقة فيما بين المكونات السياسية من جهة، و فيما بين الناشطين من جهة أخرى، أكثر مما كان يترجم مجرد الرغبة في حفظ استقلالية الحركة: فأن تكون للحركة قيادة موحدة لا يعني بالضرورة أنها ستفقد استقلاليتها آليا. لقد آمنت أغلب التنسيقيات بهذا المبدأ، فكانت بذلك تدوس على أَلِف بَاءِ سوسيولوجية التنظيمات. و هو أن وحدة القيادة من وحدة الهدف، ولا تنظيم بلا قيادة محددة، وطنيا و محليا. لقد نجح المبدأ، بشعبويته الجذابة، في استقطاب كثيرين في البدء، لكن سرعان ما تحول إلى مصدر لإصباغ ضبابية على الحركة، و بالتالي على عدم انسجام خطابها.
و يبدو أن بعض الإيديولوجيات الجذرية داخل الحركة استساغت هذا الوضع، ما دام يضمن لها الحد الأدنى لصعود سفينة المغامرة في اتجاه أهدافها الإيديولوجية بلا التزامات سابقة مقيدة لأفعالها.
و لك أن تتأمل في حركة رفضت الحوار مع حكومة عرضت ذلك في أكثر من مناسبة على لسان رئيسها (بغض النظر عن الموقف من الرجل)، كما لو أن كفة ميزان القوى مائلة بما يجعل النظام يركع تحت قدميها. لقد رُفض الحوار، حتى قبل أن يطرح للنقاش داخل بعض التنسيقيات (هنا، سُـمح للبعض أن يتحدث باسم البعض الآخر !). و من الواضح أن المزايدات الإيديولوجية و السياسية تحكمت في موقف الرفض هذا.
يتذكر الجميع يوم عَـرض المناضل المحترم و اليساري الراشد نجييب شوقي رأيه في الموضوع، مبديا قبوله المبدئي بالحوار على أرضية شروط تحددها الحركة، فما أن كان من سهام النقد العدمي إلا أن توجهت إليه من كل حدب و صوب، كما لو أنه نطق بما لا يجب أو تكلم فيما لا يعرف. انهالت عليه سهام النقد و التجريح، و كذلك نصيب من السب و القدح و التخوين، ما دفعه - مرغما و ربما خائفا- إلى التراجع عن وجهة نظره تلك في أكثر من توضيح على حسابه الفايسبوكي.
لقد أدان الفبرايريون الإستبداد، ثم فجأة استبد بهم الروتين، ثم تحول هذا الأخير إلى عقم في الخطاب و التحليل و الإبداع.
منذ البدء، كانت الخشية أن تـُهدر اللحظة التاريخية التي طالما انتظرها الشعب المغربي لنيل الديمقراطية و الكرامة (كانت الخشية، دائما، قائمة من خطاب يقف فيه واحد من آل النظام ليقول: فَاتــَكم الڭِـطار !). ففي الواقع، وراء المطالب الأساسية النبيلة والمشروعة للحركة و المجهود النضالي الكبير الذي بـذل، و لازال، من قبل مناضلين شرفاء و مُضحيين بالغالي و النفيس يكمن فكر جماعي لا يقيس المعطيات بعناية و لا يستثمر الفرص المتاحة التي من شأنها أن تفتح أفقا جديدا للنضال و إحراز مكاسب كبرى جديدة. لقد تمكن منطق «كل شيء أو لا شيء» من العقل الجماعي للحركة، لكنه في لحظة وجد أن «كل شيء» ذاك ليس بقريب.
لقد عاش العقل المذكور مزهوا بالحرية الممارسة في شوارع المدن و المراكز القروية كتعبير أقصى لإدانة الوضع القائم. و مع مرور الوقت، اختلط الهدف بالوسيلة: تحولت المسيرات إلى هدف، و تراجع الهدف الحقيقي وراء ضباب المزايدات و التعنت السياسيين. استمر الوضع على هذا الوقع إلى أن استفاق من استفاق على أن الواقع لا يرتفع، مهما تجاهلنا معطياته.
كرد فعل على هذا النفق شبه المسدود الذي اتخذه مسار النضال، و على ضوء التجارب العربية المقارنة، وصلت عدمية بعضهم - و هم قلة لحسن الحظ - إلى تفضيلهم الاستمرار على هذا الحال (لا توقف و لا ثورة إلى يوم غير معلوم)، بدل الانخراط في عملية نقد شاملة لإعادة النظر في المسار المذكور بما يخدم تطلع الشعب المغربي إلى الديمقراطية و الكرامة. و ذلك بدعوى أنه إذا كان من شأن انتصار الثورة – أو حتى الديمقراطية - بالمغرب تسليم مقاليد الحكم للإسلاميين – على غرار مصر، تونس و ليبيا و دول أخرى في الطريق- فالأفضل أن لا تتحقق لا الثورة و لا غيرها،  و من ثم ليبقى الحال كما هو إلى إشعار آخر!. لا أقول أن هذا موقف غالب، ولكن على الأقل هو حاضر في لاوعي فئة واسعة من الفبرايريين. و هو  يـُـنبأ – إذا ما ساد و غلب - عن انسداد كبير في التجربة المغربية زمن الربيع العربي!
و يبدو اليوم مشروعا و مطلوبا أيضا، و إن كان متأخرا، أن يتساءل المرء بشكل ممزوج بالخشية: أَقَـدَرنا أن لا نعيش ديمقراطية حقيقية و كاملة بعد أن فشلنا في تحقيق ثورة حَـلمنا بها و لو لمجرد الحلم ليس إلا؟
عموما يمكن عرض بعض الحجج التي تدفع إلى القول بوقوع انتكاسة في مسار و تطلعات الحركة من خلال ثلاث مؤشرات رئيسية:
1-                   ضعف التفاف الجماهير حول الحركة رغم مناخ الحرية النسبية في العمل التي تمتعت به هذه الأخيرة. وأكثر من هذا، كثيرا ما شهدنا مواقف "متطرفة" من قبل الجماهير المفترضَة اتجاه الحركة تَـعتبر أن كل تضامن لهذه الأخيرة معها هو محاولة ركوب على مطالبها الإجتماعية لأغراضها الخاصة. لا بل هناك احتجاجات شعبية عفوية لساكنة بعض الأحياء الهامشية ساوت بين الأحزاب السياسية و حركة 20 فبراير في تحميلهم مسؤولية استمرار التهميش المسلط عليهم (احتجاجات ساكنة حي جمايكا المهمش بالخميسات[6])، مع أن الحركة رائدة على أكثر من مستوى في دعم نضالات الجماهير الشعبية و مطالبها الإجتماعية تحديدا. هنا يكون النهج الإعلامي للحركة في موقع المساءلة. و عموما، يمكن تفسير سوء الفهم الكبير هذا بفكرتين  تبدوان متكاملتين:
الأولى، هي أن رد فعل الناس، ذاك، يعكس تأخر الحركة في فتح ملفات اجتماعية مرتبطة بالحاجات المحلية للساكنة،و
الثانية، تتمثل في إيلاء الحركة الأهمية الأكبر للملف السياسي (الدستور، الملك، البرلمان، الأحزاب، ...) على صعيد الشعارات و العمل التعبوي بدرجة أساسية. فإذا استرجعنا أهم فترات نضال الحركة حرارة وجدناها تتمحور حول محطات سياسية بدرجة أساسية (الخروج الأول تزامنا مع سيادة الجو الثوري في المنطقة العربية، تعديل الدستور، الانتخابات التشريعية، ...)،

2-                   انسحاب جماعة العدل و الإحسان، هو الآخر كان له تأثير كبير على نفس الصعيد (كما سيتم ذكره بتفصيل)،
3-                   تحول الحركة من أداة طليعية في نضال الشعب المغربي ضد الفساد و الإستبداد - كحركة مبادرة، مُربكة، منشأة للحدث ومؤثرة في الرأي العام- إلى حركة متفاعلة مع ما يجري هنا و هناك من انتفاضات طلابية أو سكانية. فسرعان ما تحولت أخبار هذه الأحداث و امتداداتها إلى مادة اشتعال لنضال الحركة و بعث روح الحياة فيها، و ليس العكس. بل كثيرا ما علقت عليها هذه الأخيرة آمالا على صعيد إرباك حسابات المخزن و خروج الأمور عن سيطرته و بالتالي تحقيق انتفاضات عارمة من شأنها التحول إلى "ثورة" تهز الأركان و تقلب الوضع رأسا على عقب!
لقد كانت هذه الانتفاضات إعلانا عفويا و ضمنيا عن انفصالها التنظيمي عن حركة 20 فبراير حتى و إن وجد في صفوفها أو اعتقل خلالها بعض الفبرايريين. مثلا، في زاوية الشيخ خرجت انتفاضات عفوية ذات مطالب اجتماعية بقيادة تنظيم سمى نفسه بـ «شباب زاوية الشيخ لمحاربة الفساد». مثال ثاني من مدينة بني بوعياش، حيث تشكلت لجنة شبابية سمت نفسها بـ «اللجنة المؤقتة لمتابعة أحداث بني بوعياش» على أثر الأحداث الأمنية التي وقعت بنفس المدينة مطلع شهر مارس الماضي؛ دورها متابعة التطورات والتفاوض مع السلطات. كما  أن التداول و التقرير في البرامج النضالية أثناء الأحداث الأمنية ببني بوعياش كان يتم في حلقيات نقاش عامة في الشارع و ليس في الجموع العامة لحركة 20 فبراير (على سبيل المثال، الحلقية المنظمة زوال الخميس 15 مارس 2012 بالقرب من إعدادية عقبة بن نافع للتداول في الخطوات التي يمكن اللجوء إليها مستقبلا على المستوى الاحتجاجي للتنديد بالتدخل الأمني المذكور). و هناك مدن أخرى تشهد على انتهاء قيادة حركة 20 فبراير للعمل الاحتجاجي الشعبي (إيمزورن، تيزي وسلي، بوكيدارن، الحسيمة وتازة).
و إذا كانت هذه الأشكال تمثل، مؤكدا، امتدادا نضاليا لحركة 20 فبراير (الشق الاجتماعي للنضال)، فإنها في الوقت نفسه تمثل تراجعا – بل و إرباكا - في النقاش السياسي الذي دشنته دينامية الحركة: أصبح الأمر أمر خبز و عيش أكثر منه مسألة حرية و توزيع سلط و تكريس مبدأ المحاسبة و محاكمة الجلادين و المفسدين و ناهبي المال العام.
و كما لا يخفى، فإنه على هذا المستوى الثاني من النضال (الشق الاجتماعي الصرف) - المنفصل تنظيميا عن الحركة إلى حد بعيد- نجد أن النظام يتدخل بعنف أكبر لكن بتوتر أقل. و عندما تفشَل العصا، تصير الجزرة حلا لكل العقد: فَـضَخ المال يكفي هنا لإخماد الإحتجاج منح بقع أرضية أو فرص استثمارية للمعطلين أو تشغيلهم، زيادة عدد الأطر الطبية في مركز صحي أو مستشفى، إخلاء حي للدعارة، غلق خمارة، تسهيلات في استخلاص فواتير الماء و الكهرباء أو تخفيض قيمها، و غيرها من أساليب "تبريد الطرح" و تجميد امتداداته عند تَخْم التَّماس مع المطالب السياسية. بل و في حالات، يكون مجرد الوعد بالاستجابة لمطالب المتظاهرين، في اجتماعات يُجيد رجال السلطة إدارتها، كافيا لإرجاع آلاف أو مئات المتظاهرين لبيوتهم " مُطمئنين ".[7]
...
لقد بدت حركة 20 فبراير مكشوفة أمام مفارقات متعددة، يمكن ذكر من بينها التالي:
-                        من المفارقات الغريبة في مسار نضال حركة 20 فبراير، نجد أن ارتفاع سقف الشعارات كثيرا ما سار بشكل طَردي مع قوة الحركة، بل و تزامن مع أوج احتدام النقاش حول هذا السقف في حد ذاته. لم ترفع الحركة مثلا شعار إسقاط النظام في عز الربيع العربي، و لا حين كانت أقوى جماهيريا، بل وقع عكس ذلك تماما. و اللافت أيضا على هذا الصعيد، أن هكذا شعار/مطلب لم يكن وليد إجماع أو اتفاق مسبق داخل التنسيقيات المحلية  التي أعلنته، بل جاء نتيجة مبادرات أفراد (حدث ذلك، على سبيل المثال، في مدن طنجة، الدار البيضاء، و الخميسات). لا شك في إخلاص و شجاعة أصحاب تلك المبادرات، ولكنهم كانوا بالتأكيد على خطأ، و قد دفعهم إلى ذلك إما أجواء الحماس النضالي أو اليأس من ثورة تُـطل برأسها دون أن تكشف عن نفسها كاملة. و لعل أكبر دليل على خطأ هذا التوجه، هو أن المسيرات و الأشكال النضالية الجماهيرية للتنسيقيات التي رفع فيها هذا الشعار/المطلب يمكن عدها على رؤوس أصابع اليد الواحدة!
-                        مفارقة ثانية: لقد دعم ناشطون من الحركة بعض النزعات الراديكالية (مثلا، المطالبة باستقلال شمال البلاد)، كما أنهم، من شدة احتفائهم بالثورة، رفعوا أعلاما لدولة ما بعد الثورة، وقد حصل هذا قبل أخذ النضال الجماهيري شكل الثورة العارمة المهددة لاستقرار النظام. لا بل أكثر من ذلك، فقد شرع بعضهم في ترديد – عبر الشبكات الافتراضية – ما أسماه النشيد الوطني الجديد للبلاد، و ووقع حظر – شبه تام- على وجود العلم الوطني في الأشكال الإحتجاجية للحركة. هذا في الوقت الذي نجد أن جميع الثورات العربية- و باستثناء ليبيا- رفعت الأعلام و الشعارات الوطنية و احتفت بها باعتبارها رمزا للشعب لا للدولة.  لقد استغرق بعض النشطاء الكثير من الجهد في حرصهم على الشكليات و تناسوا الجوهريات.
و هكذا، يبدو أن جيل التكنولوجيا – و خاصة المواقع الإجتماعية الافتراضية – كانوا أوائل ضحايا رسائلها الحماسية بإفراط. فبالقدر الذي مكنت هذه القنوات الافتراضية الناشطين و المتعاطفين مع الحركة من ترويج أفكارهم الثورية والراديكالية ومن كشف ما تخفيه القنوات الإعلامية الرسمية من تظاهرات و قمع، بالقدر نفسه الذي ضخَّمت الذات والأحداث معا في عيونهم و عقولهم!
-                        مفارقة ثالثة: في الوقت الذي تؤكد الحركة على بعدها الوطني؛ كحركة مدنية احتجاجية غايتها، عبر نضال وطني عام، تحقيق تغيير سياسي جذري في البلاد؛ نجدها قد عاكست/أهملت كل المبادرات التي ابتغت إبداع أشكال نضالية مركزية يكون من شأنها تكريس الطابع الوطني العام للحركة و لمطالبها (مثلا، عن طريق تنظيم مسيرة وطنية في إحدى المدن الكبرى– كما سبق أن اقترحها المناضل المحترم و الإسلامي الراشد سعيد بنجبلي، و الذي تعرض لحملة تطهير مبكرة! -  أو عن طريق تنظيم مسيرات جهوية -  أربع مسيرات جهوية مثلا كما اقترح أحد الناشطين من الدار البيضاء)!
-                        مفارقة رابعة: على صعيد ملف الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، يلاحظ، مثلا، أنه في الوقت الذي ركَّـز فيه، و بشدة، مناضلو الحركة (تنسيقية الرباط على وجه التحديد) في أوائل انطلاق ديناميتها على المطالبة بإغلاق معتقل تمارة السري ومحاسبة المسؤولين على الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان التي تُـرتكب بداخله، نجدهم لا يحركون ساكنا في اتجاه دعم مبادرة أحد الفرق البرلمانية المعارضة آنذاك (فريق العدالة و التنمية) إلى تقديم مشروع تشكيل لجنة تقصي حقائق برلمانية في الموضوع. لقد كان الوقوف من أجل مطالب عامة/مجردة شكلا عاديا و روتينيا لكن لا شيء حصل في هذه النازلة من أجل دعم مبادرة شجاعة جاءت في الوقت المناسب و تصب في نفس الأهداف التي أعلنها هؤلاء المناضلون أنفسهم، بل وتعرضوا بسببها إلى تدخل عنيف لقوى الأمن فيما بات يعرف بأحداث نزهة تمارة بتاريخ 15 ماي 2011. هنا يُـجهِض المناضل أحلامه بيده عندما لا يستثمر جميع الأوراق المتاحة أمامه لبلوغ مراده. و جدير بالذكر، أن هذا الموقف جاء مجاراة ومراعاة لحسابات سياسية و إيديولوجية ضيقة لا غير. و النتيجة، أُجهض مشروع اللجنة من قبل حلفاء الرجعية المخزنية وقوى سياسية أخرى داخل قبة البرلمان، و أُجهض معه أمل الناشطين الفبرايريين في كشف الحقيقة و محاسبة الجلادين. وبذلك توقفت معركة سياسية كان سيكون لها الأثر الكبير في تاريخ البلد الحقوقي و النضالي. هل هكذا تدار المعارك السياسية.؟!
و نفس الشيء يمكن قوله عن "معركة أجر غيريتس" – مدرب الفريق الوطني- التي انحصرت التعبئة النضالية من أجلها في فئات قليلة – أغلبها إعلامية. لم تتعاط الحركة بالمستوى المطلوب من أجل تحويل القضية إلى قضية تبذير للمال العام، من شأنها خلخلة العديد من الخروقات داخل جامعة كرة القدم و من تم المساهمة في توقيف الكثير من السلوكات العبثية و العفِنة التي تمارس باسم الشعب، مع أنها تبذير غير محدود لثرواته.
و نفس الشيء أيضا يمكن قوله بخصوص تقارير المجلس الأعلى للحسابات، إذ نذكر جميعا إغفال الحركة القيام بدورها في "تسخين" النقاش حول تقرير المجلس الذي نشر سنة 2011 (التقرير السنوي لسنة 2008)، و في الدفع بتفعيل ما جاء فيه عبر مختلف الأشكال النضالية الممكنة.
*    *    *    *    *

العدل و الإحسان و ضرورة البحث عن هوية بديلة !
لقد ترجلت جماعة العدل و الإنسان عن سفينة حركة 20 فبراير في وضع لا يحسد عليه. فلا هي حققت مكتسبات سياسية في مقابل النظام السياسي و لا هي عَبَرت إلى القومة (= الثورة من منظور الجماعة)  كما عبرت الجماهير الإيرانية بإرشاد من الإمام الخميني إلى الثورة الإسلامية، و لا هي وصلت إلى السلطة، عبر صناديق الاقتراع على غرار بعض التنظيمات الإسلامية في الدول العربية التي عايشت نصيبها من مخاض الربيع العربي (تونس، مصر، ليبيا و قريبا اليمن و ربما سوريا و البحرين كذلك).
قد لا يبالغ من يقول أو قال: إنها هي الخاسر الأكبر من كل ما جرى حتى الآن. فقد ظلت الجماعة، حوالي ثلاثة عقود، تعمل داخل تنظيمها على التعبئة و التربية ليوم تتجمع فيه ظروف الخروج ضد الحكم العاض – كما تصفه أدبياتها- و عندما جاء أفضل ظرف ممكن - و ربما سيبقى الأفضل لسنوات أو عقود مقبلة على الأقل بالنظر إلى السياق العام التي مرت به المنطقة - خرجت الجماعة محتجة مناضلة لفترة ثم عادت بدون المراد. بل هناك من يقول أن كل ما فعلته الجماعة هو أنها كشفت نفسها لا غير. و لسائل أن يتساءل: كيف بعد اليوم يمكن إقناع المجتمع و النظام السياسي أن العدل و الإحسان قوة يجب أن يضرب لها ألف حساب و حساب؟. فمؤكد، حتى الآن، أن الحقيقة السياسية الكبرى بشأن الجماعة هي أنها فاعل سياسي كباقي الفاعلين الآخرين، و لا تتميز عنه إلا بقوة سياسية نسبية و التي لا تعني أكثر من كونها كذلك. أو قل: لا قومة في الأفق؛ كحدث تاريخي ينتج عن ساعد فاعل وحيد باستطاعته قلب الطاولة على النظام القائم.
فلا يجب بأي حال من الأحوال أن تحجب الخرجات الاحتجاجية - التي تنظمها الجماعة اليوم بعد توقيفها لنشاطها بالحركة- حقيقةً على قدر كبير من الأهمية، و هي أن الجماعة دخلت في طور جديد من وجودها السياسي، ينطلق من تدشين نقد ذاتي - إن لم نقل جلدا للذات – و سينتهي، حتما، إلى البحث عن هوية جديدة للجماعة بعيدا عن مثاليات الايديولوجية و الخطاب و الممارسة. فهذه الخرجات، و إن كانت تعبر في شق كبير منها عن التزام الجماعة بقضايا الأمة الاسلامية – و على رأسها قضية فلسطين المقدسة- وقضايا الشعب المغربي، فإنها تستبطن كذلك رغبة في ترميم – و الأصح قول: مداراة - جرح عميق في ذات الجماعة !
شاءت أم أبدت، حان وقت المراجعة الجذرية لمنهج الجماعة – فكرا و تنظيما و زحفا.
لقد نزلت العدل و الإحسان عن سفينة حركة 20 فبراير، و نثرت بيانا يقول و لا يقول: كُتب ليبرر فجاء على شاكلة قرينة إدانة. لكن تعالوا نستكشف معا، ما رآه كاتب السطور، الأسباب الحقيقية لتوقيف نشاطها، فما كان باستطاعة البيان أو الجماعة - عن طريق المتحدثين باسم هياكلها- ذكرها صراحة.
لنخرج من رقعتنا، و لنرى ماذا جرى على طول الجغرافيا السياسية العربية خلال السنة الأخيرة: في كل التجارب الثورية و النضالية التي جرت بالدول العربية أخذت هذه التجارب طابعا دينيا مهما و بارزا. لقد شاهدنا جميعا الثوار و هم يرفعون شعارات دينية (مصر، اليمن، سوريا، ...)، يُـصلون في الساحات ( اليمن، مصر، ...)، يعلنون الجهاد (ليبيا)، يَصلون، عبر التنظيمات الإسلامية التي تمثلهم، إلى الحكم (تونس، مصر، ليبيا، و قريبا جدا اليمن)، بل و يعلنوا أن مصدر قوانينهم الرئيسي سيكون الشريعة الإسلامية (ليبيا، و ربما كذلك في مصر و اليمن). كل هذا يحدث في الجوار، و الجماعة تجد نفسها، في أكثر من مناسبة، "مقموعة" حتى من قراءة الفاتحة جهرا على الشهداء، بل حتى على شهيدها هي (كمال العماري). كل هذا جعل الجماعة تحس كما لو أنها تنجر إلى منطق علماني طالما عادته في أدبياتها، بل أكثر من هذا جعل الجماعة تعيد مراجعة تاريخ طويل من التربية و الدعوة الدينيتين و كيف تحولتا إلى بخار في الشارع: فلا فرق بين دياني وعلماني في الشارع الفبرايري: فقط شعارات عارية عن كل ميل إيديولوجي على العموم، و هو ما لم تتحمله الجماعة طويلا، و لن تتحمله على الدوام. و قد جاءت أحداث سوريا و القمع الدموي الذي ووجه به مدنيون عزل (ولا أتحدث هنا عن أولئك الذين حملوا السلاح و اصطادوا في الماء العكر لفائدة إسرائيل و الولايات المتحدة الأمريكية و بعض قيادات و دول الخليج) فردوا بإعلانهم التوكل على الله، في مواجهة النظام، و حب الشهادة في سبيله، و تحلقوا حول المساجد مُصرين منذ البداية على إبراز إيمانهم ووعيهم الديني وقيادته لهم (كان هذا أكثر بروزا قبل أن يختلط الحابل بالنابل في المشهد السوري)، نعم جاءت هذه الأحداث لتضع مِلحا جديدا على جُرح الجماعة، التي رأت أن مجالس التربية و دروس البطولة التي أَنشأَت عليها أبنائها لم تصنع منها حركة طليعية ثورية تقدم شهداء في سبيل المبادئ و الأهداف الثورية/القَوْماتية.
 لقد تصرف النظام ببرودة أعصاب كبيرة فأربك الجماعة و خلط أوراقها.
 و مع ذلك، فإن جريان الأمور على هذا النحو ستكون له بعض "الحسنات" على الجماعة أيضا، من حيث أنه سيدفع قياداتها إلى التفكير في إجراء مراجعة ما للفكر و التنظيم و الممارسة. و في الواقع، شرعت الجماعة في إعادة قراءة المشهد المغربي و ذاتها على السواء، و نحتاج – كما هي أيضا - بعض الوقت لنفهم حدود المراجعة تلك، و ما إذا كانت جذرية أم سطحية أم غير ذلك.
و في الواقع، بدأت المراجعة داخل الجماعة منذ اليوم الذي تحسست فيه موطأ قدمها في الحراك الفبرايري؛ إذ طالعت فنجان مآلاته، فاستقر رأيها- بعد تردد دام أشهر عديدة- على ضرورة الانسحاب بأقل الخسائر الممكنة، قناعة منها على أن لا أفق للقومة هنا، و لا للثورة بمعناها العام كذلك. لم تقل الجماعة أن قرارها ركوب السفينة كان خطأ - و لا هو كذلك -  و لكن تيقنت أن رهانها ذاك كان خاطئا، أو على الأقل خطـَّـأته الوقائع و التطورات التي ساهمت هي نفسها في نسج جزء كبير من تفاصيلها. فعدم وقوع لا القومة و لا الثورة ، يعني أن الجماعة لم "تُـهيأ" بعد أسباب الأولى (و هنا السؤال: متى إذن؟)، و عدم وقوع الثورة كذلك يعني أن الجماعة لم تستطع، مع استعداد كبير لدى بعض حلفائها بالشارع، تحقيقها (و هنا السؤال: هل فعلا حجم و قدرة الجماعة الحقيقية أقل بكثير مما تتصوره هي نفسها عن نفسها، بله ما حاولت تصديره للنظام و للمهتمين بالشأن العام و للناس عموما ؟).
الجماعة في امتحان و محنة !
*    *    *    *    *

اليسار  الجذري و ضرورة البحث عن ذات و خطاب جديدين
لقد كشفت وقائع الربيع العربي عن عجز كبير في كيان اليسار العربي، و خاصة الجذري منه. فعلى طول الخريطة الثورية والمحطات الانتخابية انتكست أعلام اليسار لصالح الإسلاميين. و هو يتحمل مسؤولية ما وصل إليه. ففي المغرب تحديدا (حيث اختلط بعض اليسار باليمين و بالمخزن على حد سواء، و ما عاد يمثل اليسار، إلى حد كبير، سوى جناحه الجذري)، لا زال اليسار الجذري يبدو هو هو لم يتغير فكرا و ممارسة: حتى أسلوبه التعبوي و النضالي لا زال هو هو، بل و خطابه أيضا لا زال يجتر نفس الأسطوانة: فتراه يضع خصومه (أو قل أعدائه) في نفس السلة مع المخزن، تحت عنوان: المخزنيين. فلا زال خطاب الطهرانية السياسية والنضالية يسيطر على الضمير الجمعي لهذا المكون - الذي سمحت له الظرفية السياسية الخروج للتعبير جهرا عن مكنونه – كما سمحت بنفس القدر للجذريين الإسلاميين. إنك لا زلت ترى و تسمع اليسار – أو أغلب مكوناته، و خاصة المناضلة اليوم في صفوف حركة 20 فبراير - ينعت حتى أولئك الذين تمرنوا و خَـبروا العمل الديمقراطي و أبانوا عن حس و تطلع ديمقراطيين بـيِّنين في تجربة سياسية نضالية بالرجعيين أو بالظلاميين لمجرد أنهم إسلاميون (الخطاب المعلن حينا و غير المعلن حينا آخر لدى الكثير من اليساريين - و بشكل أشد عنفا لدى الجذريين- في حق العدالة و التنمية مثلا). كما لو أن الاستئصالي ليس بظلامي، أو كما لو أن من يَعتبر مرجعيته، التي تنهل من أدبيات مر عليها قرنان من الزمن، تخرجه من زمرة الرجعيين. فلا زال الكثير من الرفاق اليساريين يحللون بنفس أدوات ماركس و أنجلز وينتهون إلى نفس نتائجهم، و حتى إذا تقدموا خطوة أخرى زيادة، توقفوا عند كتابات لينين. و يخفى عليهم أن الجميع في هذا الهوى سواء : التقليد و أزمة التأويل، أو قل أزمة الإبداع و أزمة فهم الواقع و التعاطي معه بإيجابية!.
لقد دفعت النرجسية النضالية و تضخيم الذات إلى حجب الكثير من المتغيرات هنا، و أصبحت الأيديولوجية أكبر عائق للتعاطي مع الواقع بدل أن تكون أهم أداة لتغييره. و من هنا محنة اليسار المغربي!
فلقد وصلت المحنة السياسية ببعض مكونات اليسار أن يعلنوها ثورة بُـعيد انتصار الثورة (ما يجري في تونس حتى كتابة هذه السطور، مثلا). و لَعمري، هذا هو الإفلاس المبين! فبدل الانخراط في دينامية ما بعد الثورة التي توافق أغلب التونسيون – إسلاميين و غير إسلاميين- و بشكل ديمقراطي على تدبيرها من خلال آلية صناديق الاقتراع و على أساس اجتماع سياسي ينطلق من مركزية حقوق الانسان التونسي، نجد أن بعض مكونات اليسار هناك ترفع اليوم مطلب إسقاط النظام في تظاهرات يشارك فيها، هنا وهناك، بعض المئات في مدينة سيدي بوزي  و غيرها! أمر غير مفهوم !
خلال نشاط ثقافي نظمته الجمعية المغربية لحقوق الإنسان (مدينة بوزنيقة، بتاريخ 30 يناير الماضي)، تضمن درشة تفاعلية مفتوحة بين طلبة حقوقيين و الصحفي البارز – صاحب الميول اليسارية – خالد الجامعي، حيث عرض هذا الأخير وجهات نظره حول آخر التطورات في المنطقة السياسية في المنطقة العربية و مستقبل الديمقراطية بالمغرب على وجه الخصوص. و أثناء تعليقه على مسار تدبير الواقع السياسي بعد انتصار الثورة التونسية المجيدة، أبدى امتعاضا من هذا الواقع معتبرا إياه تراجعا عن مكتسبات الثورة، وذلك "بالتأكيد" لأن مآلات الأمور دفعت بالإسلاميين هناك إلى المقدمة!. سأل كاتب السطور الصحفي المذكور، بعد تعليقه ذاك بما مضمونه: ... لكن أيها السيد، اسمحوا لي بالقول إن كلامكم يكاد ينفجر ذاتيا بسبب تناقضاته الداخلية الكبيرة، ففي الوقت الذي تحتفي بالديمقراطية و تقيس الأمور على ضوء معاييرها، نجك في الوقت ذاته تسحب كل الشرعية الثورية و الديمقراطية عن التجربة التونسية الجارية اليوم بقيادة إسلاميين و قوميين. أيها السيد، هلا قلتم لنا، ما هو الوضع الذي تريدونه في تونس حتى تعتبرونه ديمقراطيا ؟!! ". رد الرجل، لكن في "تْشْقْـلِـيبة" بهلوانية، كأنه ليس هو. فقد باشر خالد الجامعي – الديبلوماسي و ليس الصحفي هذه المرة! -  خطابا جديدا باعثا بأحر متمنيات النجاح للتجربة الديمقراطية التونسية الجارية!. العجب!
 كم هو قبيح فعل التمسرح عندما يصعد خشبة الفكر.
 كانت هذه تناقضات رجل غير جذري، فافهم!.
...
و على صعيد آخر، تحولت العلمانية في خطاب أغلب مكونات اليسار إلى دواء لكل أدواء المنطقة العربية؛ إذ أصبح شعارا يعلوا على كل تطلعات الشعوب المعبر عنها حقيقة، و ليس بالوكالة. إذ لم نسمع و لم نر و لا حتى ألفا من المتظاهرين خرجوا للمطالبة بالعلمانية. بالتأكيد، ليست العلمانية في معناها و مبناها أمرا من شأنه تهديد دين كالإسلام، ولا غيره من الأديان السماوية، لكن طريقة التعاطي معها و جعلها معركة المعارك يُـفقد اليسار ذاته الكثير من الواقعية، خاصة عندما يعلن تنكره جملة للإرث الثقافي و الحضاري للمنطقة وللدول القـُـطرية كل على حدى. فـ"علمنة التدين" و "تديين العلمنة" أمر لا مفر منه: وهذا ما لا يريد الكثيرون فهمه، مستمرين في محاربة طواحين الهواء و السباحة ضد تيار التاريخ !
إننا بتنا اليوم نستقبل هذا الهوس بالمطالبة بتطبيق العلمانية – كما هي مطبقة بفرنسا مثلا- في بلدان المنطقة العربية والإسلامية، بنفس الاستقبال الذي نستقبل به دعوة بعض السلفيين تصدير تطبيق الشريعة – كما هي مطبقة بالسعودية – إلى بلدان أوروبا الغربية. مطالب غير واقعية لأناس غير واقعيين !
يبدو أن سياسيينا يزايدون في موضوع لا يحتمل "خربشات" الأطفال. خاصة إذا اطلعنا على مسألة عميقة و حقيقية في النفس والسلوك البشريين، و هي أن الجميع ينزع إلى خلق مثالياته/دينه: فالتنكر مثلا للدين السماوي لا يعني التنكر لكل دين: و إنما هي عملية هروب من دين إلى دين آخر. و على هذه الفكرة أكد الوحي حينما قال: "لكم دينكم و لي ديني".
ففي هذه المسألة يتساوى البشر: كلهم متدينون، و لا مجال للمزايدة، فيكون الجميع مدعوا إلى البحث عن أسس للتعايش، بل و للعمل المشترك - في السياسة كما في الثقافة و الاجتماع و غيرها – بدل الجدال العقيم.
*    *    *    *    *

العدالة و التنمية ..  عمل سياسي على إيقاع المغامرة !
منذ اليوم الأول، أخذ حزب العدالة و التنمية مسافة حذر بينه و بين الحركة، متحملا مسؤوليته التاريخية في اصطفافه مع المحافظين السياسيين. وبلا شك، عبر الحزب عن موقفه ذاك بشكل أكثر وضوحا و صراحة و شجاعة من هؤلاء جميعا. و في الأخير، كان هو أكبر المستفيدين من الحراك الفبرايري، ليس من منظور أن الحركة سجلت أهدافا لمصلحته – فالحركة لم تكن غبية لتفعل ذلك- و لكن لأن خيارات المناورة تقلصت أمام النظام فعزفت العدالة و التنمية على الوتر الحساس: إما و إما. هي السياسة، و بذكاء مارسوها.
أغلب المتتبعين كانوا يعلمون أن حزب العدالة و التنمية سيحصد نسبة كبيرة من الأصوات بالنظر إلى تطوره التدريجي، انطلاقا من انتخابات 1997 التشريعية، من جهة و توجه الرأي العام إلى تبني خيار التصويت العقابي ضد أحزاب الكتلة - وخاصة الإتحاد الإشتراكي (إذ يبدو أن حزب الاستقلال يفلت منها دائما: إنه طائر فينيق سياسي!)- بعد أزيد من 10 سنوات من قيادتهم العمل الحكومي من جهة ثانية، و بسبب نجاحه في تدبير العديد من الجماعات المحلية التي ترأسها و قادها (القنيطرة، تمارة، ...). لكن الذي لم يكن معلوما هو تقلده قيادة الحكومة من موقع قوة – عبر الانتخابات، و ليس التوافق مع القصر، و بهامش كبير من القوة السياسية يوفرها الدستور الجديد و السياق السياسي أيضا. فما كانت دينامية حركة 20 فبراير- و التي قاس الحزب المذكور بشكل جيد- لتسمح للنظام بتكرار تكتيكات المخزن البالية و المتطلعة دائما إلى التحكم في الخريطة السياسية و موارد المشروعية. هنا، دقت الساعة على غير موعدها بالنسبة للقصر، فاختار الخضوع، بدل المقاومة السلبية، لتغيير بات ضروريا و لا يقبل التأجيل.
لقد سمحت دينامية الحركة من أن يتقدم العدالة و التنمية في جو من الثقة في الذات و في الموازين السياسية الجديدة. و لذا كان يتمنى أن تحافظ الحركة على قوتها النسبية دون زيادة، فتتحول إلى ثورة، أو نقصانٍ من شأنه خلخلة الموازين لصالح القصر.
لكن هذا الجو المريح يبدو أنه لم يدم لفترة طويلة ...
مع الوقت، انطلقت الرياح في اتجاه لا يشتهيه شراع العدالة و التنمية: ضعفت الحركة جماهيريا و خفت وهجها الاحتجاجي. وهكذا، سرعان ما استأنفت حليمة (المخزن) جهودها من أجل العودة إلى عادتها القديمة: أ ُحدثت حكومة ظل داخل القصر، أعيد تقريب الهمة من الملك، ازداد عنف الدولة في الشارع و حوكم شباب باسم المس بالمقدسات (الملك) و غيرها من مظاهر محاولة تغول الدولة، مجددا، على المجتمع. و كأن لسان حالها: انتهى شهر العسل!.
 و هكذا تحول ما كان أوراق قوة سياسية لمصلحة حزب العدالة و التنمية قبل الانتخابات إلى ملفات اجتماعية ثقيلة بعد توليه قيادة الحكومة (أكثر من ذلك، هي ملفات متفجرة في شكل انتفاضات في أكثر من مدينة: تازة، الحسيمة، مراكش، تازة، ...).
و على الرغم من انه الآن مزهو بقيادة الحكومة، إلا أنه أكثر من يستشعر اليوم موقفه الذي لا يحسد عليه أمام ناخبيه – والمواطنين عموما - في ظل تقلص هامش مناوراته السياسية (أصبح الحزب اليوم في مواجهة الجميع: القصر، الساكنة الفقيرة و المهمشة و المعارضة - بما فيها العدل و الإحسان و المكونات السياسية الناقمة عليه داخل حركة 20 فبراير، و ربما قريبا سيكون في مواجهة بعض "حلفائه" ضمن الأغلبية) و صعوبة ظروف قيادته للإدارة العمومية ( موسم فلاحي ، أزمة مالية دولية، انتفاضات، إضرابات الموظفين، واحتجاجات المعطلين).
هل أخطأ الحزب عندما تخلف عن سفينة حركة 20 فبراير إذا؟. بفعل كاريزما رئيسه – الغريبة حتما - و نتيجة لتردد قياداته – مع استثناءات قليلة -  استقر الحزب على فكرة وضع كل بيضه في سلة واحد: صندوق الاقتراع. كان خياره ذاك موقفا يحتفي بالديموقراطية – كآلية تداول سلمي للسلطة - لكن مؤكدا أنه كان موقفا خارج السياق السياسي العام للمنطقة. لم يضطر أحد الحزب للانخراط في الإحتجاجات، و لكنه عندما اختار موقفه بدا محافظا أكثر مما كان ينبغي له. فأن تنتظر الديمقراطية  لتأتيك، عبر صناديق الاقتراع في بنية سياسية ملغومة، شيء و أن تسعى إلى تحقيقها شيء آخر. ففي بلد كالمغرب، لا يمكن قياس الديمقراطية بمجرد شفافية و نزاهة الانتخابات، بل كذلك بمدى ما تمنح نتائجها من سلطة للمنخَبين الفائزين. فالمشكل يكمن أساسا في سوء توزيع السلطة بين الفاعلين المنتخَبين من قبل الشعب و أولئك غير المنتخبين (الملك و مستشاريه و مسؤولي الادارة الكبار)، و ليس في لعبة الانتخابات - التي يمكن إرباك قواعدها السليمة بنقرة زر ممن يديرون السلطة الفعلية بالبلد.
و بتحفظه ذاك، يكون الحزب قد ناقض أطروحته المتبناة في مؤتمره الوطني السادس: أطروحة النضال الديمقراطي: "طـْـلَع تاكْل لْـكَـرموس، نْـزل شْكون ڭالْها لـيك"!
لقد وعى الحزب أهمية دور حركة 20  فبراير على صعيد إيجاد توازن نسبي بينه و بين القصر. و هنا فقط شرع في التأكيد، تصريحا و تلميحا، على أهمية بقاء الحركة. لكن اكتشافه للأمر جاء متأخرا. و عندما سمح – ضمنيا – لبعض شبابه (مناضلو منظمة التجديد الطلابي وغيرهم) بالنزول للشارع كتفا إلى كتف إلى جانب الفبرايريين لدعم الحركة بقصد ضمان استمرارها – بعد أن كان قد وبخهم و حذرهم من أي مغامرات شبابية غير محسوبة في المراحل الأولى للحركة- كان قراره ذاك صائبا و لكن بعد فوات الأوان – نسبيا. و لذا، حينما نزل بعض شبابه إلى الشارع الفبرايري وجدوا أنفسهم يحتجون ضد الفساد و الإستبداد في وقت قل فيه الزخم الاحتجاجي، ثم إن مشاركتهم كانت من باب المشاركة و ليس الشراكة مع شباب الحركة؛ و لذا سرعان ما رجعوا من حيث جاءوا.
لقد كان الحزب احترافيا، في أدائه السياسي، و براݞماتيا، في تطلعاته، بامتياز في تعاطيه مع دينامية الحركة، تارة لخدمته هو – كحزب يطمح إلى كسب قوة سياسية في مقابل القصر و حاشيته- و تارة لخدمة الديمقراطية في البلد. هذا أمر لا ريب فيه. لكن على الأقل كان، في توجهه هذا، أكثر وضوحا مقارنة بكثيرين، و الذين إما لجئوا إلى الصمت أو الغموض في تحديد موقفهم من الحركة، و ربما حتى إلى الاختباء ورائها.
*    *    *    *    *

حقائق سياسية تستدعي الانتباه .. و العمل !
لقد طرأت على الساحة السياسية المغربية مستجدات كبيرة خلال العقد الأخير و خلال السنة الماضية: لم تعد العدمية السياسية و لا القراءات المبتسرة و لا الطموحات الغامضة و لا الأطروحات غير الواقعية و لا المواقف الاقصائية و لا الممارسات المتعصبة لها مكان في ساحتنا السياسية. أصبح أكثر وضوحا اليوم أن هكذا نزوعات هي واحدة من الأسباب الرئيسية التي تعطل مسار الديمقراطية بالبلد. فاستغراق القوى السياسية، الحقوقية و المدنية طاقاتها في تجاذبات على هامش أسئلة الناس – بدعوى الدفاع عن مصالحهم - هو أكبر مصدر للإضرار بمصالح هؤلاء !
هذا من جهة، و من جهة ثانية، و بناء على أساس مقولة: حبل السياسوية قصير (على وزن: حبل الكذب قصير)، يبدو أن البلد على شفى حفرة و لم يعد مسموحا تأجيل انخراط البلد الكامل بنادي الديمقراطية و الإنماء. لم تكن السنوات الإحدى عشر من حكم محمد السادس سنوات عهد جديد حقيقة. إذ استمرت الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، توطَّن التخلف الاقتصادي والاجتماعي وتكرس مشهد سياسي مأزوم و غير سليم و بعيد عن الأجواء  الديمقراطية. خلال هذه الفترة لم يكن متقلد منصب قيادة الحكومة هو نفسه من يقود البلاد، و لا من يملك القرار يتحمل تبعاته و لا من يفسد يلقى عقابه.
هذه بالتحديد هي المؤشرات الرئيسية التي تجعل من البلد برميل بارود لا يمكن التنبأ بمآلاته. فالضامن الحقيقي لاستقرار البلد ليس هو القَـصر و لا هي الجماهير الصامتة، بل هي الديمقراطية و احترام كرامة المغاربة.
و إذا كانت حركة 20 فبراير قد أطلقت صرخة قوية من أجل كرامة الإنسان المغربي، فإنه جاء الأوان أن تبدي صرخة مماثلة من أجل الديمقراطية بالبلد، بعيدا عن كل ثوروية متطلعة لثورة لم تينع بعد شروطها. فالثورة لا تنطلق بصفارة جهة معينة و لا تتوقف على وجود نيات صادقة تنوي السهر عليها، بل ترتبط بشروط تاريخية تعتمل في داخل بنية الدولة و المجتمع على السواء.
لا أدري هل الوقت مناسب لإعادة طرح مقترح سابق لكاتب السطور: ربما حان الوقت الذي أن تنتظم الحركة في إطار الجمعية المغربية لحقوق الإنسان، على أساس ميثاق – تنظيمي و فكري – يجعل منها فضاء عمل مفتوح للجميع، و يقيها كل تدليج فج قد يدفعها سريعا إلى خانة الحسابات الضيقة و الزوايا المظلمة، على أن تكون مهمتها واضحة: دعم و تكريس مسار الديمقراطية بالبلد بهدف تحقيق كرامة المواطن المغربي و ذلك بكل الأشكال النضالية الممكنة.
يجمع أغلب المتتبعين على أن الذي بقي اليوم هو فكرة 20 فبراير و ليس حركة 20 فبراير: فكرة صحيحة نسبيا. و هي فكرة عبرت عنها المناضلة الكبيرة السيدة خديجة الرياضي عندما قالت: اليوم، حركة 20 فبراير هي أقوى و لكن بشكل مختلف (و هي تقصد بذلك تصاعد وثيرة الإحتجاجات ذات المطالب الإجتماعية الصرفة غير المؤطرة من قبل حركة 20 فبراير).

نعم، لقد عرفت الجغرافية المغربية انتفاضات شعبية هنا و هناك – كما سبق ذكره آنفا- و هي إشارة يتعين التقاطها جيدا من قبل آل النظام. فلا زالت كل أسباب الربيع المغربي قائمة. فضعف القدرة التوزيعية للدولة – كما جاء في مقالة للأكاديمي د. عبد الرحيم منار أسليمي – "بدا واضحا في سنة 2011 ، وهي قريبة من مرحلة الدولة "الرخوة"،  دولة تَـحْـتضر فيها الطبقة الوسطى بين المغربي القادر على اقتناء معطف الشتاء من مجمع « موروكومول » بالدار البيضاء ب 150 ألف درهم والمغربي الذي تقف مقدرته الشرائية لمعطف الشتاء في حدود 50 درهم من «جوطية سيدي ميمون» بمراكش. فالمبررات النفسية للاحتجاج الاجتماعي والاقتصادي لم تنته"[8].

...

و على المستوى السياسي تحديدا، التحدي أمام حركة 20 فبراير ليس سهلا على الإطلاق في مقابل آل النظام الذين لن يترددوا في الإصرار على إنجاح ردة سياسية ترجع بهم إلى عهد القبضة على الوضع. فعهدنا بالمخزن أنه يُدمن ادخال إصلاحات بطريقة الجرعات، ويكره أن تمشي الأمور على غير دقات ساعته.
كما تحتاج الحركة كذلك إلى معرفة مجال اشتغالها بعناية. فهو صعب بالتأكيد و لا مجال لإنكار أن هناك مسائل تندرج تحت عنوان: مغربي. لم نقبل "حَدُّوتة" الاستثناء المغربي كرواية تنزع قابلية وقوع الثورة في المغرب و حق الشعب المغربي في ذلك إذا ما رغب فيه، لكن لا يمكننا أن ننكر أهمية الخصوصية في التعاطي مع الشعب المغربي بكل فئاته، إمكاناته و تطلعاته و تطلعات أفراده وآمانيهم ومخاوفهم كذلك.
سأل كاتب السطور صديقة و أديبة مغربية عن وجهة نظرها في مستقبل حركة 20 فبراير. و مع أنها لم تتردد يوما في الإشادة - عبر صفحتها الفايسبوكية - بالثوار في أكثر من دولة – على رأسها ثوار مصر – و في الاحتفاء بالثورات كمصدر للحرية و الكرامة، فإنها أجابته باختصار شديد: " أعتذر عن عدم الإجابة، لأني أكره السياسة" !.
...
لقد تبدلت أشياء كثيرة في مشهدنا العام اليوم، و لا يمكن إنكار هذا إلا من قبل كل ساذج أو عنيد. لم يعد يُـسعف أحدا – إسلاميا كان أو يساريا أو يمينيا أو مَخزنيا - الاستعانة بالقاموس السياسي للأربعة أو للثلاثة عقود الأخيرة، أو قاموس ما سمي تواهما بالعهد الجديد، بل لم يعد يسعفه حتى ذاك لما قبيل 20 فبراير من العام الماضي. و ليس من المبالغة القول، أنه حتى قاموس ما قبل 20 فبراير 2012  لم يعد، إلى حد بعيد، صالحا!



[1] - هل سيكون من العلمية أكثر أن ننتظر قبل أن ينطق أحدنا هكذا حُـكم؟! ربما !
[2] - المقال تحت عنوان:  في الحاجة إلى 20 فبراير جديدة ، الجريدة الإلكترونية هسبريس، 23 فبراير 2012.
[3] - المقال تحت عنوان: البيان الختامي لحركة 20 فبراير، الجريدة الإلكترونية الخبر بابرازي، 22 فبراير 2012.
[4] - عنوان المقال: ماتت حركة 20 فبراير و نجح حزب العدالة و التنمية، فهل تخطئ الدولة؟، هسبريس، 29 فبراير 2012.
[5] - فبالتأكيد، نـنـزه الكثير من الشرفاء من هكذا تهمة، و على رأسهم من انسحبوا في صمت عندما ضعفت قناعتهم بدينامية الحركة و مسارها.
[6] - "تصريحات شباب حي جمايكا المهمش بالخميسات لبنكيران"، تقرير للصحفي عبد الله أمحزون، صفحة المرصد الجهوي على الفايسبوك، 26 مارس 2012.     http://www.facebook.com/almarsadealjihawi#!/almarsadealjihawi
[7] - و كذلك لا يمكن أن ننسى الأساليب الأخرى التي تمارسها السلطات اتجاه المندفعين في اتجاه دعم الحركة: مثلا، إخضاع الملياردير كريم التازي للمراجعة الضريبية على أرباحه. أنظر بهذا الخصوص: التازي يخضع لمراجعة ضريبية، موقع لكم، 24 ماي 2011.
[8] - 2011 عام "هروب" المغرب أمام ربيع الشعوب العربية، هسبريس، 27-12-2012.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق