كلمة في المناضل والمعتقل السياسي معاد «الحاقْد» - القلم 3000

اَخر المشاركات

القلم 3000

مدونة القلم 3000، متخصصة في قضايا الفكر والشأن العام وفن العيش.

السبت، 24 نوفمبر 2012

كلمة في المناضل والمعتقل السياسي معاد «الحاقْد»

فؤاد بلحسنbelahcenfouad@gmail.com



هو شاب، عشريني – بالمعنى الزمني والنضالي. في العشرينيات من عمره حَمل في قلبه مأساة فئات واسعة من الشعب المغربي، فصرخ عاليا ضد الظلم والاستبداد من فوق منصات الغناء الشبابي الشعبي (الراب)، وصدع بكلمته، العارية من كل تنميق، ضد المؤسسات الدستورية غير الديمقراطية والتسلط وسرقة المال العام باسم خدمة الشعب وغيرها من العناوين السياسية التسويقية. تخندق في صفوف حركة 20 فبراير المجيدة مبكرا، وصعد في سلم النضالية بأسلوبه الخاص، فارتقى إلى مستوى الرمز بجرأته وتأديته الفعلية لضريبة ضرورية في دولة تجمع بين الشيء ونقيضه، بين الانفتاح والقمع، بين "الديمقراطية" والاستبداد، بين "التعددية" وتمركز السلطة. فكان نصيبه من القمع السجن لمدة 4 شهور في قضية أولى، ثم، في قضية ثانية، سنة إضافية.
*     *     *     *
هو معاد بلغوات، معاد «الحاقْدْ» كما يُعَــرف نفسه، «معاد، الحاقْــد على الوضعية» كما تقول كلمات أغنيته «المْغارْبَهْ عِـيقُـو». التقيته، بعد محنة السجن الأولى، مواسِيا ومُهنئا، ومستطلعا لشاب قدم الكثير للمسيرة النضالية لحركة 20 فبراير المجيدة؛ إذ كان حاضرا في أهم محطاتها مُعبئا، مُـنظما، مُغنيا، مُستنهِضا وصاحبَ موقفٍ. تطلَّـعت في وجهه، فأطرق رأسه تواضعا وخجَلا. دخلنا في حديث وجيز ثم افترقنا. في انتظار أن يصعد المنصة، أشحت بوجهي إلى وجهة أخرى، وتساءلت: كيف تجمع يا معاد بين وداعة الروح وقوة الإرادة، بين التبسم الخجول أمام الناس والتهجم الحاد على آل النظام، بين الحب اللامشروط للشعب والحقد الكبير على المخزن. هو تواضع الكبار، بلا شك، ما يعطيك القدرة على الجمع بين هذه الصفات.
رَافع ودَافع عن سكان دُور الصفيح، عن المعطلين، عن الشهداء المنسيين والمعتقلين السياسيين، عن مظلومية الشهيد المهدي بن بركة، عن الإسلام الأصيل غير الرسمي، وعن قضايا أخرى فتح ملفاتها، على رأسها اللاعدالة اجتماعية واللامساواة بين المواطنين (أغنية «عْطِيوْنِي حْقي») ...
كما رافع ضد تقديس الأشخاص والمؤسسات الدستورية، فأعلن رفضه المبكر، بشكل صريح غير متردد، لتقديس الملك. كما رفض الجمع بين السلطة والمال، وبين التدبير والبقاء خارج المساءلة، ورفض فكرة تجميع السلط في يد شخص واحد (أغنية «إذا الشعب يوما أراد الحياة»). في إحدى أغنياته المُعَنونة بـ "شْكُون هُومَا، شْكون حْنَايَا"/2011، يُصرح: "أ ُو إِلى كانْ عْزيزْ عْلِـيكومْ نْقصُو لِيه من تَمارَه. رَاهْ بْزَافْ عْلِـيهْ.هو يْعْيْنْ الوُزَرَا، هو يْدْشْنْ ، هو يْخْطـْبْ عْلى العْـبِـيد دْيالُو [...] ما حِيلْتُو يْحسَبْ فْـلُوسُو لي فْبْنُوك سْويسْرا، مَا حِـيلْـتُو يْبْنِي القْصُورْ، مَا حِـيلْتو يْحسْبْ الأرباح دْيالْ مْرْجَان أ ُو أ ُونَـا  أ ُو المشاريع كْـِتيرَه أو كُـولـْشِي دْيَالـُو. تْعَاوْنُو مْعَاهْ أ ُو نْصْحُوه إلى كَانْ عْزيزْ عْـليكُوم. أ ُو خَافو الله. أُو حْنا بدَمْنا غَادِي نْسْقِـيوْ هادْ الوَطنْ إن شاء الله"
استنهض الشعب، شبابَه على وجه الخصوص، مِن أجل رفض استحمار المخزن لعقله (أغنية «المغاربة عيقو»)، و دعاه إلى اليقظة الدائمة  (أغنية «عْلاش»)، وإلى تجاوز نكتة "المغرب استثناء" مقارنة بتونس أو مصر (أغنية «إذا الشعب يوما أراد الحياة»).
وهكذا كان، بصوته، مؤرخا لمرحلة و متفاعلا و مؤثرا في أهم قضايا الشأن العام الجارية (الحِراك الشعبي). فرض على الجميع، مَن معه ومن ضده، أن يُنصت إلى كلماته، انتقاداته، سُخريته، نداءاته ومواقفه. فـبصم بذلك أثرا موسيقيا في تاريخنا السياسي لما بعد 20 فبراير 2011.
و لم يتوقف عند هذا الحد، بل حاور حتى عقله، في أغنية «وَا عْقلي». وهو في الواقع حوار تأملي في الانسان المغربي؛ الذي لم يستوعب بعد مأساته. يحاور عقله (عقل الانسان المغربي) الذي يحمل في ذاته قيم الانسان الحر الكريم و"قيم" التَّمْخْزْنِيت. تدعوه هذه الأخيرة إلى التخلي عن القضية وتُغريه بما يمكن أن يـكسبه إذا ما اختار أن يبيع القضية العامة لفائدة المصلحة الشخصية. ترُد القيم الأولى، أي قيم الانسان الحر الكريم، في تحدي، متشبثة بالمبدأ الأصيل. تُعاود الثانية رسم أُفق بفراديس أرضية وتُحذر من التصلب في الموقف، فتتمسك القيم الأولى بالشهامة والبطولة والعض على الجمر بدل الخيانة. جدل و صراع، قلق وتحدي. فكانت الأغنية بمثابة دعوة للتمرد على الذات كشرط للتمرد على الواقع.
*     *     *     *
هل معاد قبلَ محنة السجن الثانية سيكون هو نفسه بعدها؟ نضاليا، لا شك. فالرجال تثبت وتعض على الجرح ولو في بلد الملح. ثم إن تجربة السجن الأولى أثبتت أنه من معدن نفيس، تزداد أصالته بعد الصهر والكي؛ فقد ثبت على موقفه حينها ولم يتزحزح قَـيْـد أ ُنْمُلة. لكن أقول أن معاد الآتي لن يكون بالتأكيد معاد السابق على مستويات أخرى عديدة. فجميع ذوي العقل والقضية، من المعتقلين السياسيين، يُعيدون قراءتهم للمشهد والأحداث كاملة، ويُعمقون تأملاتهم في الحياة والوجود والنفس وهم وراء القضبان. ولن يكون معاد الحاقد استثناء في ذلك؛ فقد أعطى إشاراته الأولى لما سيكون عليه في المستقبل: معاد الآن، وحسب ما نقله عنه أصدقائه المقربون ومنابر إعلامية، يقرأ نجيب محفوظ، دوستوفسكي، نعوم تشومسكي ...، يفكر في استئناف دراسته، يطالع بجدية متون القوانين والمساطر القضائية.
ينقل صديق له انطباعا عما شهد منه في بعض الزيارات: «يعرف معاد أن المخزن يريد أن يُكسره من خلال السجن، لكنه لم يسقط في الفخ. بالعكس، عرف كيف يستفيد من وضعه هناك».
معاد الآتي سيكون أكثر نضجا، أبهى وأكبر. سينطق أبلغ وسيرفع التحدي  مجددا.
هل أخطأ المخزن مرة أخرى؟ نعم، بالتأكيد.
فقد جعل من فنان شاب و بعيد عن الأضواء أيقونة نضالية للشباب المتطلع إلى العيش بحرية وكرامة؛ بعد أن ضخ رصيدا معنويا كبيرا في سجله النضالي؛ ثم إنه دفع معاد إلى إن يصطف نهائيا وبلا رجعة مع الشعب المغربي وآلامه وآماله. لقد كرس المخزن معادلة تناقضه مع الحاقد، وعمق أرقامها وأبعد طرفيها.
*     *     *     *
نعم، قد يعاتبنا معاد جميعا، ناشطين فبرايريين وحقوقيين ومثقفين وصحفيين وأدباء وسياسيين، عن التقصير في حقه وفي حق ذكراه القريبة، قد يَحشرُنا في خانة المحقود عليهم، قد يكون له الحق في أن يفعل ذلك، لكن عسى تفكيرنا الدائم فيه وفي محنته، تأملنا المستمر لروحه في كلماته التي يتردد صداها بيننا، مراجعتنا المستمرة للدروس النضالية في أغانيه وفي مسيرته التضحوية وراء القضبان، صراخنا المستمر، بعد اعتقاله، ضد الاستبداد والفساد والمخزن عموما، عسى كل ذلك يجعله مؤمنا بأنه كان دائما هنا، حاضرا بيننا.
*     *     *     *
معكَ يا معاد، وبصوت عالي: الله، الوطن، الحرية. فالحرية حق لشعبنا أيـًّا كان شكل النظام الذي يحكمه. فعندما يكون الاختيار بين الحرية وبين شكل النظام، يرتفع التردد ويُحسم الاختيار: الحرية، يا مخزن!




ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق