فؤاد بلحسن
belahcenfouad@gmail.com
لا بد لبحث مفهوم الحداثة من تحديد اٍلى ماذا
نشير عندما نتحدث أو نناقش هذا المفهوم،
هل إلى الحداثة بوصفها حقيقة تاريخية حضارية- مادية("عمرانية" بحسب
تعبير ابن خلدون ) أم بوصفها حقيقة تاريخية ثقافية (نظرية) أم اٍليهما معا؛أي
بوصفها حقيقة تاريخية وجودية تتضمن الثقافي والحضاري.
لماذا
هذا التمييز؟
لأنه عندما
نقصد الحديث عن الحداثة كمعطى ثقافي فإننا نستحضر في أذهاننا الخصائص التالية:
- الاتكاء
على قدرات العلم و العقل الاٍنساني بهدف مقاربة القضايا الاجتماعية.
- التأكيد
على مفاهيم معينة من قبيل التقدم، و الطبيعة والتجربة المباشرة.
- أصالة الإنسان،
وبالتالي أنسنة المجتمع و القطع مع الميتافيزيقا (أنسنة الطبيعة)؛ أو بمعنى آخر
نزع الروح الدينية عن العالم .
- الاتكال
بشكل أساسي على المنهج التجريبي و الحسي قبال المنهج القياسي و الفلسفي ، فالحداثة
هنا تمثل" الوضعية" البنية المنهجية لديناميتها.
بينما عندما نقصد الحداثة كمعطى حضاري فإننا
نستحضر الخصائص التالية:
- في المجال
السياسي ، كان هناك الدفاع عن الحقوق الطبيعية الاٍنسانية بواسطة حكومة القانون و
نظام الحيلولة دون الانحراف نحو الاستبداد- عن طريق منح السلطة للشعب، والديمقراطية،
و شرعنة التعدد الفكري و السياسي.
ولما كانت
الحداثة وليدة تاريخ ما بعد سلطة الكنيسة- أو هي ذاك التاريخ- تكون العلمانية ، باعتبارها
أهم إفرازات هذا التاريخ، واحدة من أهم خصائص الحداثة كمعطى حضاري. من هذه الزاوية،
الدين اٍن كان له وجود فلابد من أن يكون مرجعه أمرا شخصيا- مؤطرا في اٍطار
العبادات و الأحكام الفردية - لا حاجة اجتماعية.
- في مجال الاجتماع ، تم الإعلان عن ولادة
المجتمع الصناعي على أنقاض المجتمع الإقطاعي .
بهذا التمييز نكون قد ابتعدنا عن القراءات
الاختزالية التي كثيرا ما عرفت الحداثة بالعقلانية – و كأن خارجها يفتقر اٍلى
التعقل – أو بالفردانية – رغم أن هذه الأخيرة مجرد مبدأ من مبادئ التطبيق على حد
تعبير الفيلسوف طه عبد الرحمان - أو بالديمقراطية- وهي ليست إلا مطلبا أساسيا من
مطالب الحداثة- أو بالعلمانية- رغم أنها
لا تمثل سوى خاصية من خصائصها الواقعية - أو بالقطع مع الثرات - و كأن الحداثة
ولدت من العدم وهي التي نزعت نزعة سلفية بامتياز بالنسبة للثرات اليوناني في عملية
وصال حميمية- وغيرها من التعريفات.
بعد هذا
التمييز ، يأتي السؤال عن علاقة التحديث بالحداثة.
لا شك أن التحديث يمثل مطلبا و حاجة دائمتين لكل
الكيانات الثقافية المتخلفة؛ وعلى طول التاريخ؛ على اعتبار أنه المدخل الوحيد
للتواجد الكريم في أي عصر. و اٍذا كانت الحداثة الثقافية تحديثا على مستوى النظر
بلحاظ الفكر القروسطوي ، و الحداثة الحضارية تحديثا على مستوى الواقع نسبة اٍلى المجتمع الاٍقطاعي في أبعاده السياسية
و الاقتصادية و الاجتماعية؛ هل يصح القول أن مرحلة ما بعد الحداثة تمثل تحديثا ما
بعد حداثي؟
ما
دامت السماوات و الأرض ، من يضمن استمرار عصر الحداثة اٍلى ما لانهاية؟ سؤال يطرحه – و عن حق- كل من يريد أن يقول كلمته في استقلال عن اختيار
الحداثة. هو سؤال "الثرات و الحداثة و التحديث".
اٍلى
أي مدى يجب أن يأخدنا هذا السؤال الأخير. ما لا يمكن اٍغفاله هو أن الحداثة
الحضارية- اليوم - هي سيدة الارض. و قديما قيل لا يمكنك أن تكون في مستوى خصمك أو
أن تكون في مستوى أعلى منه إلا إذا ملكت قدْر ما لديه او أكثر من ذلك . هنا قد لا
نجانب الصواب إذا قلنا لا مجال لمن يسعى اٍلى قول كلمته الحرة و تأصيل فعله
الحضاري إلا أن يقتبس من الحداثة- كما فعلت هي مع غيرها من قبل. فليست الحداثة
ملكا خاصا أو مجالا منغلقا على نفسه ، و إنما هي نفسها تراثا مشتركا و مجالا
مفتوحا- يقبل الأخذ و الرد؛ و الاقباس والاٍقتباس. و تبدو قولة أحد المفكرين العرب
و المسلمين في هذا الصدد سديدة- و إن بدت
من غريب الكلم - جاء فيها "بدون الحداثة يستحيل العرب أعرابا والمسلمين
كفارا".
فالموقف
السلبي من الحداثة لن يمضي بعيدا ولن يكون ذو أثر كبير إذا انبنى على النقد
الأخلاقي لها فحسب - و إن كان هو من أول الأولويات - ما دامت الحداثة لا تتنصل عن
الأخلاقية كلية من جانب ، و ما دامت الحداثة هي التعبير الآخر عن حضارة العصر، أي موقع القوة و
السلطة من جانب ثاني. فسؤال الأخلاق في تداول الحداثة يتعين ان لا يأخذ أكثر مما
يستحق ، فما كانت للحداثة الحضارية أن تقوم لها قائمة بعيدا عن الأخلاق .
بيد أن هذا
لا يحجب حقيقة أن العولمة باتت تطرح هذا السؤال بقوة في ظل اجتياح قيم السوق . فاٍعلان
استقلال" الدولة" بمعنويات (أخلاقيات) خاصة – متميزة عن تلك التي
يعتنقها الأفراد- من قبل ماكيافيلي مثـّل إعـلانا مبكرا باستقلالات مبكرة ستجد لها
موعدا مع التاريخ لاحقا . و بالفعل ،ها نحن أمام استقلال جديد من هذا النوع:
معنويات السوق .
سؤال أخير: الى أي حد الطريق اٍلى الحداثة أو اٍلى ما
بعدها يمر عبر بوابة الغرب؟
لنسمع ما يقوله درس فلسفة التاريخ في هذا المقام :
أما الحداثة – ثقافية
كانت أم حضارية- فلا شك أن السعي اٍلى
تمثلها في مجال تداولي لكيان ثقافي أو حضاري غير الذي نشأت فيه يمثل عملية استنساخ
لن يكون مصيرها بأحسن من مصير النعجة " دُولي". فلا أعتقد أن التاريخ
سيختار يوما أن يعود بنفسه إلى الوراء. لن يفلح في هذا المسعى لا السلفوي المتدين
و لا الحداثوي المتعلمن، باعتبار أن كليهما يمثلان حالة رجعية بامتياز. فالأول
يسعى جاهدا اٍلى العودة الى الخلف حيث حضارته التاريخية مستدبرا لتحديات الحداثة، و
الثاني يسعى إلى الاحتضار داخل الحداثة معتقدا أنه يحتضنها أو يعض عليها، ضاربا
بعرض الحائط خصوصيات مجتمعه. إذ لم يطلعنا
التاريخ، القديم و الحديث، و إلى اليوم على تطابق مسارين- و بالأحرى أكثر- من
مسارات التحديث (سواء في مجال الثقافة أو
الحضارة)، و إنما هو يشهد بتواصل بينها تارة لفائدة هذا و تارة لفائدة ذاك.
و
أما ما بعد الحداثة فهي بالتأكيد المرحلة التي ستأتي حتما حينما تصبح الحداثة تلي
أفعال الماضي في تركيبة الجُمل. مرحلة ستقوم على أكتاف النهضوي - إسلاميا كان أم
اشتراكيا أم قوميا - لا الغوغائي من هذا
الفريق أو ذاك اللذان يمثلان طَرفَا التطرف بعيدا عن توسّط الحكمة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق