جولة سياحية بقراءة سياسية
- دفاع عن الهوية والذاكرة -
فؤاد بلحسن
belahcenfouad@gmail.com
حتى هذه اللحظة لا أستطيع حل رموز الإيقاع
الذي تولد بداخلي و أنا أطوف مدينة مكناس في جولة سياحية هي الثانية من نوعها في نفس
السنة، أو لأقل في نفس الشهر. و أتسائل: كيف
لمشاعر من قبيل الإعجاب والفرح من جهة و
الحزن و التذمر من جهة أخرى أن تجتمع في نفس اللحظة و الحين وأنا أقف توسط هذا
المعلم أو ذاك، هذه الساحة أو تلك، من معالم و ساحات مدينة مكناس التاريخية؟
لا شك أن جميع شعوب العالم تهزه
مشاهد من حضارته المرتبطة بتاريخ ما من حياته، بشكل يثير في داخله إحساسا بالمجد و
ثقة في الذات إلى حدود الغرور.
نفس الشيء حدث معي و أنا أحط قدمي
بـ "قبة السفراء" التي شيدها السلطان إسماعيل بن محمد العلوي (1645-1727م)،
أو " المدرسة البوعنانية" التي شيدها أبو الحسن علي المريني، الذي حَـكم
بين سنتي 1331-1351م، أو ضريح السلطان إسماعيل بن محمد، الذي يضم إلى جانبه قبر
بعض أفراد أسرته و أحفاده، أو و أنا أزور متحف مدينة مكناس، أو أنظر إلى مساجد
المدينة التي تفوح روحية و تقف شامخة كأنها تبعث برسائل ثقة و اطمئنان، أو و أنا
أنظر إلى أسوار المدينة العالية والأعمدة الضخمة، المرصعة بالنقوش و الأبواب و النوافذ
العصية على الوصف، أو .. أو ...
لكن إحساسي، أعتقد، يختلف عن
معظمهم - إن لم أقل جميعهم!!
لأنه تولد في أجواء من سحاب أسود خيّم
عليه إلى الحد الذي عكر صفوه و أثار رهبة من حوله.
قرأت على جدارية أن معالم مدينة
مكناس التاريخية دخلت سجل التراث العالمي بحسب تصنيف منظمة اليونسكو العالمية. ثم
أعدت القراءة، ليس مكذبا لما قرأت و لكن متعجبا مما أرى من حولي في مختلف أرجاء
المدينة و زواياها، مناقضا لكل ما أقرأ...
أتذكر أني بحثت في كل أرجاء
المدينة بحثا عن خريطة سياحية للمدينة علّها تسعفني في التعرف و الإرشاد إلى أهم
الأماكن التي يتعين على سائح زيارتها و تأملها، لكن دون جدوى!!
هذا في دولة برنامج "العشر
مليون سائح" في أفق...!!
في أفق ... !!
...
أتذكر أني و أنا أشاهد هذا الموقع
التاريخي- السياحي أو ذاك أتلفت بين
الفينة والأخرى يمينا و يسارا عـلّني أجد ورقة على احد الجدران عليها تأريخا
للموقع الذي أنا فيه أو نبذة/موجز عن الإطار المجتمعي الذي ينتمي إليه أو السياق الحضاري
الذي شيد فيه أو النمط المعماري و الخصائص المعمارية التي يتميز بها عن غيرها أو
أي معلومة اغني بها ذاكرتي و أحفظ بها ذاكرة المكان، لكن دون جدوى.
و كأن معالم مدينة مكناس- و هو
كذلك الأمر بالمدن التاريخية و السياحية المغربية الأخرى- بُنيت من قِبل عفاريت في
حقبة زمنية لم يكن للإنسان فيها وجود بعد.
عفوا ألا يذكر الآخرون حتى الحقب
التي لم يكن للإنسان فيها يد أو قدم ، بالتاريخ
وربما بالصورة أيضا.
لا أفهم- و لن أستطيع- هل أمر استرجاع بعضا من المعلومات المتعلقة
بمكان تاريخي ما عصية إلى هذا الحد على المسؤولين بوزارة الثقافة و وزارة السياحة
و باقي الهيئات
المعنية، أم أن هذه الجهات ترى أنه من الأفضل- من الموضة!- أن تعطي لعيون الزائر حرية القراءة على صفحة
المعالم التاريخية دون أن تضغط عليه بمُوَجِّه ما ينحرف بقراءته إلى زاوية بعينها
قد تحاصر هذه الحرية؟
قد نقبل إجابة من هذا القبيل من
فنان تجريدي يثقل لوحاته بأبعاد ذاتية ، فيعطي لمشاهدي أعماله حرية اكبر في قراءة
ذاتية مقابلة حتى لا تموت اللوحة في ذات صاحبها.
لكن أن يكون هذا هو مسلك جهات تَدّعي
السهر على المحافظة على تراث وطن بعينه و التعريف به، بوصفه يمثل صورة عن الذات و
موضوع تأمل و مقارنة بالنسبة للخارج عنها.
هنا أتذكر ذاك الفرنسي، الوافد من
باريس، الذي سألني ، و نحن بقاعة الصلاة بـ"المدرسة البوعنانية"- لمّا
لم يجد و لا أسطر قليلة تسد فضوله المتعطش للمعرفة بالآخر الحضاري- عما تمثله هذه
المدرسة – تاريخا و حضارةً .
هل أن الوزارات المعنية و غيرها من
الهيئات تتوقع- يقينا- أن جميع السياح يملكون
كتيبات بأيديهم حول الأماكن التي يزورونها؟ على الأقل، أستطيع أن أسقط هذا اليقين،
الساذج، لمّا حدث معي ما حدث مع الفرنسي
السائل. ولما أستشهد بالسائح الفرنسي، إذ أنا نفسي لم يكن بين يديّ مكتوب في الموضوع، يرُد على : ما...؟ و متى ...؟ و
لماذا ...؟ و كيف ...؟ التي انهمرت على الذهن وبقَت معلقة.
تَكرر هذا كذلك وأنا في
متحف مكناس، حيث يُفترض أن يكون حضور المعلومة كبيرا و وازنا. لكن غير المتوقع كان
نفسه ما هو واقع فِعلا. حيث كثافة القطع والأعمال المعروضة يقابله جفاف شبه مطلق
على صعيد التأريخ (الرقمي و المجتمعي)!!
لن يكون المجهود كبيرا و لا
الخسائر بالحجم الذي يبعث على التردد من قبل الجهات المعنية إذا تّم و سُجلت
على كل معلمة تاريخية أيا كانت ( مسجد، مدرسة، قصر، ساحة، قلعة،...) بعض المعطيات المرتبطة بها - تاريخية أو سياسية أو
عمرانية أو اجتماعية أو غيرها...
...
أتذكر أنه كلما راودتني فكرة الانتقال
من الموقع الذي أتواجد فيه إلى غيره إلا و كان لزاما علي أن أستعد لسلسلة من
المعانات- من بينها دوار الرأس- في سبيل
الوصول إلى المكان المرغوب فيه. وأنا أتنقل من موقع إلى آخر كنت أجد نفسي مضطرا
إلى إيقاف المارة أو مفاجأة التجار لسؤالهم عن الطريق التي يمكن أن تحملني رياحها إلى
هذا الموقع التاريخي أو ذاك، إذ لم أكن أجد مأطورة (صفيحة معدنية) ترشدني إلى
الموقع الذي أرغب في زيارته، و في أحسن الأحوال أجدها شاخصة أمامي عندما أكون على
بعد بضعة أمتار من مقصدي(!)، الذي كان للمارة وللباعة معظم الفضل في العثور عليه، و
بعض الفضل بالتأكيد للساني الذي كان لزاما عليه أن لا يمل السؤال لألاّ تتوقف
الخطى في منتصف الطريق، فتضيع مجهودات قدَماي بخاراً في الهواء .
المأطورات التي كان من
المفترض أن تكون منتشرة في جميع أرجاء
المدينة، مذكرة و مرشدة، غائبة كل الغياب. و مرة أخرى، فإذا المفترض الوجود بمقتضى
الحال هو نفسه الأبعد عن الواقع- لا أعرف بأي مقتضى، و بأي اعتبار!!
...
و أتذكر غياب أي مرشد سياحي مستعد أن
يحدثك عن المعلمة التاريخية التي تقف أمامك ، كجزء من عمله يقوم به مسرورا، بدل الاكتفاء
بالجلوس على أبواب المعالم، للحراسة، و قتل الوقت بأرشفة أكواب الشاي أو تدخين
السيجارة أو تجاذب أطراف الحديث مع رفيق،
و في أحسن الأحوال، الجري وراء السياح الأجانب سعيا وراء بعض الدراهم، لا قياماً
بواجب التعريف بأوجه من مقومات تاريخ المغرب الحضاري و الثقافي.
...
و أتذكر الألم الذي كان ينخر داخلي في كل الاتجاهات، عندما كنت أرى
أجزاء من بعض المعالم تتآكل بفعل الزمن دون أن أجد ما أقوم به إلا العض على أصابعي
غيظاً و حسرةً، على هوية مستباحة و ذاكرة تلتهم ذاتها. ذاك حال "قبة السفراء" و أطراف من
"أسوار المدينة" و ردهة "المدرسة البوعنانية" و دعامات و
جدران " حبس قارى" و ... و ...
لا أستطيع الاحتفاظ بقدر معقول من الاطمئنان
على وطن يرفع يده- عن إهمال- عن تاريخه ...
فعلا لا أستطيع، و بيننا على طول
المعمور أمم و أوطان تعتبر مطبخها الوطني أو القومي – نعم مطبخها- جزءا أصيلا و أساسيا من تراثها الثقافي و
الحضاري الغير القابل للتنازل و الإهمال، و يتعين الحفاظ عليه و التعريف به و
التشهير لفائدته، باعتباره مكونا للهوية و جزءً
من الذاكرة.
...
و أتذكر أني أحسست بالألم الكبير وأنا أرى ساحة
الهديم تتحول – وعن قصد – إلى نسخة مكررة لـ "ساحة جامع الفنا".
لم أكن أتصور أن الهيئات المعنية-
و خاصة وزارتي السياحة و الثقافة - تملك
أفقا مسدودا وفقرا على صعيد الإبداع إلى هذا الحد، بالشكل الذي يجعلها ترتمي على
خصوصيات بعينها لتكررها في هذا المكان أو ذاك.
لا أحد يجادل في الأهمية التاريخية
و السياحية لساحة جامع الفنا بمراكش، لكن لا أحد- أيضا- يستطيع أن يتنكر إلى الخصوصية الكبيرة و الجميلة التي تتميز بها ساحة الهديم. ساحة
تجمع بين اللون المُلفت و الأفق المفتوح و شساعة المجال و إيقاع حركة المارة و ...
و
كل هذا يراد منه أن يمشي مع الريح وراء رغبة مُقلدة تفتقر إلى حس إبداعي واعي
بمعنى الخصوصية و معنى جماليتها.
و هنا أتسائل : ماذا سيصبح اسم "ساحة
الهديم" إذا تحولت عما كانت عليه و لم تعد هي نفسها؟ لا شك سيتغير مع الزمن .
عندها هل يبقى لساحة الهديم وجود أصلا.
تمّت من يدوس أوجه الجمال و سطور
التاريخ من دون أن يكلف نفسه تحمل عناء الإلتفات إلى الوراء و لو للحظة، أو يعيد
السؤال...
...
و أتذكر أن "المدرسة
البوعنانية" أثارت في داخلي كل مشاعر الجمال بشكل لم يسبق له مثيل، إلى حد
بدأت أبحث في جنباتي عمن أحدثه عما تراه عيناي من سحر المكان و جلال معناه، و أفيض
عليه بعضا من مشاعري التي كادت تفجر قلبي من شدة الخفقان إعجابا و انبهارا.
في هذا الجو المشحون مشاعر جميلة معجونة
بأريج من مَبخَرة جمالية الفن و أصالة
الإبداع و هيبة التاريخ ، متجسدة جميعها
على جدران الجص المنقوشة، وعلى السور
الخشبي المزخرف المحيط بالردهة، الذي يستقبل قاعة الصلاة المُطلة بأقواسها المنحنية
النصف دائرية و عقودها المنكسرة، و على الأحرف البارزة على الجدران وكأنها قلادات على الصدور ، و على
الأشكال التي للأبواب و النوافذ الدقيقة
الشكل، الرفيعة الذوق ، وعلى هندسة غرف طلبة
المدرسة، و... و
في هذا الجو كان لزاما عليّ – إلى جانب ذلك - و هنا
المفارقة- أن أتحمل مظاهر إهمال ظاهرة على هذه الجدران و الأقواس و الأبواب و
الغرف، بل ووجود أزبال و بقايا حيوانات( قِطط) بادية إلى حد الاستفزاز، و ربما إلى
حد يبعث على الغثيان.
وأتساءل، فيما إذا كان لهذا معنى،
إذا افترضنا أن هناك من يجيب؟ هل هذه الصورة مرضية عن مدينة دخلت بتراثها المعماري
ضمن التراث العالمي الأَوْلى بالرعاية؟ وهَلاّ سَدّ الكَذَبَة و الببّغاوات – من
الرسميين- أفواههم عن الكلام وهم أمام
عيون الكاميرات على شاشات التلفزيون أو وهم وراء ميكروفونات المذياع متحدثين عن
السياحة و عن التراث الوطني و غيرهما؟
و هنا لا أستثني باقي المعالم
التاريخية- السياحية، حبس قارا مثلا، تصدق عليه هذه القاعدة الغريبة التي تمزج بين
الفن و التاريخ و الجمال وبين العبث و الإهمال و الأزبال!!
...
و أتذكر ... و أتذكر...
و لكن أهم ما أتذكر مما تداعى إلى
ذهني و أنا أقف بين مختلف المواقع التاريخية – السياحية أو و أنا أقف متأملا
إحداها أو و أنا أخطو – حائرا مفكرا –
بداخلها هو قلقي على تراث بلد يملك على خارطة ترابه الوطني مكناس و غير مكناس لكن
لا يعلم قيمة ما يملك.
لا شك أن الحديث بقدر ما هو ذو
شجون، هو كذلك حديث شجن و شجا.
لكن الحياة غلابة، وهي أقوى من
الموت و من صانعيه الذين لا يتورعون – عن قصد أحيانا و عن لامبالاة و تهور أحيانا
أخرى- عن طعن قلب الجمال و قلب القيم و قلب
المعنى، لفائدة كل ما هو ضدها.
أقول ما أقول انتصارا للهوية وللذاكرة ضد الجهل وأهله، داخل مؤسسة الدولة وخارجها
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق