كم هو قبيح أن يُسجل التاريخ سطرا كهذا: كان بوتين رئيسا قويا جدا، إلى درجة أنه ما عاد يرى نقاط ضُعفه.
دعك من تحليلات عبد الباري عطوان لأزة زحف منظمة «فاغنر» في اتجاه موسكو. هذا صحفي نُحبه، ولا نُجاريه. الأزمة أعمق! والآراء التي تتشَقلب، بين ليلة وضحاها، لا يُعوَّل عليها. فإذا ركزنا على بعض الخطاب العقلائي الآتي من روسيا نفسها، نعرف أن الأمر ما عاد يحتاج إلى خطاب تأويلي أو سفسطائي يجعل من الأحمر أخضر. وحين يقول بوتين، بعد هذه الأزمة، أنه ماض نحو بلوغ الأهداف التي وضعها للحرب على أوكرانيا، فإن ما يقوله حقيقة، إذا ما تجاوزنا ظاهر الألفاظ، هو أنه سيُعيد النظر في استراتيجيته المعمول بها حتى الآن- حتى لو ظلت الأهداف هي هي. وهذا في حد ذاته اعتراف ضمني بوجود خطء كبير ما في ما يجري. غير أن العيوب التي تبدَّت على مستوى المنظومة العسكرية والأمنية، مع هذا التمرد بقيادة يفغيني بريغوجين، ليلة الجمعة 23 يونيو، كشفت عن خلل في البناء الأمني الروسي لمابعد دخول الأراضي الأوكرانية. والقوة التي يجري تفجيرها على أرض "العدو"، ما عادت تستطع إخفاء الضعف في أرض "الوطن" (روسيا). ولا أحد يجرأ على عرض الخسائر الحقيقية والكاملة. وهل من خسارة أكبر على الأوطان من الفوضى المسلحة التي عاينها العالم على المباشر، وعلى بعد مئات الأمتار فقط من العاصمة موسكو؟. الرئيس بوتين التقط الإشارة جيدا حين ربط بين ما جرى واستقرار الدولة، دولته. بيد أنه لم يجرأ على الحديث عمن يتحمل المسؤولية السياسية؟!. سمعت محللين روس كُثر يضعون أيديهم على مظاهر الخلل، لكن لا أحد يجرأ على ذكر اسم بوتين. بالضبط، كما فعل بوتين نفسه حين لم يذكر بريغوجين بالاسم وهو يحلل أزمة الزحف. هذا الأسلوب في التلميح على الطريقة الروسية يقول الكثير، بل إنه أحد حقائق الأزمة السياسية للبلاد.
· نعم، بويتين.. مَن غيره؟!
إن الخيط الذي يفصل بين الطموح السياسي المتطلع نحو العظمة وسِجِل التاريخ من جهة والأخطاء السياسية القاتلة التي تقذف بهذا الطموح نحو المنحدر الدراماتيكي للأحداث من جهة أخرى، هو نفسه الخيط الذي يفصل بين صوت الحكمة والعماء.
من الأيام الأولى للحرب الروسية على أوكرانيا، كان واضحا أن بوتين يحط رجليه على تربة متحركة. ضدا على القانون الدولي والمصلحة بعيدة المدى للروس، صفَّق أصحاب الأفكار القصيرة للخطوة، واعتبروها قرارا استراتيجيا حكيما أو قرار ضرورة تفتَّق عن عقل سياسي مُخضرَم. وحينها كان هناك رأي آخر يقول أن رجل المخابرات الذكي يرتكب أغبى حماقاته تجاه نفسه وبلاده. ثم جاءت أزمة التمرد، لتَسْحب ورقة التوت عن عورة بوتين نهائيا. وفي أقل من سنة ونصف (16 شهرا بالتحديد) من العبث والتدمير والعَنجَهِية والأخطاء وسياسة الأرض المحروقة، أمسى بوتين مُهددا لسلامة أمتين عريقتين يمتد تاريخهما لعشرات القرون؛ أمته هو، الأمة الروسية، التي جعلها زاد من تأزيم وضعها السياسي والأمني، وأمة جارة سَمح لنفسه بأن يدمرها بطريقة همجية. إنه تأثيرُ فائضِ القوة حين تُمسي هذه الأخيرة بديلا عن الديبلوماسية ومنطق الربــح المتبادل.
في الزاوية المعتمَة للسلطة، تتقدم القوة معتقدة أنها تحمل شرعيتها في ذاتها. وحين تتقدم، ترى في الخسائر المترامية على يمينها ويسارها، مجرد خسائر جانبية متوقعة أو مقبولة، مادامت تُقربنا من تحقق الغايات. بَيْد أن منطق القوة، لا يلتفت إلى أن الإشكال ينطلق من التحديد الفردي للغايات ومدى إمكان تبريرها قانونيا وسياسيا وحتى أخلاقيا، قبل أن يتعلق الأمر بوضع الخطط وحشد الوسائل واختيار أسلوب التفعيل.
عمليا، كانت الدروس قائمة تحت أعين بويتن، لكنه تجاهلها: أولا، لا يمكنك أن تخوض حربا خارجية (لكن على حدودك) وبلادك منقسمة في الداخل كما أن الحريات العامة لديك غير مضمونة بما يكفي. ثانيا: في عصر تقوده التكنولوجيا العابرة للحدود والعقول، وتُراب وطني مفتوح جغرافيا على غيرك، أنت لا تستطيع هزيمة قوة صغيرة (جماعة أو دولة) بدون خسائر فادحة ما دامت خزائنها العسكرية والمالية تتغذى على أعدائك. ثالثا، كيف تُفكر في إشعال حرب على حدودك وأنت تعلم أن هذا بالضبط ما يريده أعداؤك بما أنه سيجعلهم قريبين منك أكثر ومتدخلين في توجيه شؤون أمنك القومي وترتيبات حدودك.
كانت الحرب الأهلية السورية والحرب السعودية على اليمن والأزمة السودانية بين الجنرالات تُقدم لبوتين عشرات الدروس بهذا الشأن، لكنه تجاهل كل هذا. واكتفى بركوب موجة القوة العسكرية والسلطوية السياسية. معتقدا أن الأُولى تكفي لتبرير قرارات الحرب في الخارج، بينما ستشرعن الثانية قرارات السلطة في الداخل. أخطأ الحسابات، ولسوء حظه، ظهرت قبضته مرتخية ذابلة بعد أن فقد جزءا من السيطرة على الأرض!
· درس أساسي: السلطويات حيثما أتت أحدثت الشروخ وربما الخراب
كل الحروب التي تابـعــتُها على امتداد 22 عشرين سنة الأخيرة، أو تلك التي طالعت فصولها في الكتب، أوقفتني عند درس أساسي في شؤون الجغرافية السياسية والحرب، وهي أنه حين تقرر الانخراط في ملفات كبرى خارج حدود بلادك يكون من شأنِها قَلب موازين القوى الإقليمية أو الدولية، لا بد وأن تكون قد هيأت جبهة داخلية قوية في الداخل. لماذا؟. لأن العدو أو الخصم الذي ستَمُس تدخلاتك بعض مصالحه أو تنتهك جغرافية نفوذه، سوف لن يكتفي بفعل الشيء ذاته، بل قد يقلب المعركة من خارخ حدودك إلى داخلها. فهو قد لا يكتفي بمقاومة نقاط قوتك في الخارج، بل سيستثمر نقاط ضعفك في الداخل ليدفعك إلى الانشغال بفوضى الداخل ليُلزمك بالتخلي عن طموحك في الخارج. وإن الأنظمة السلطوية المتدخلة في ملفات الخارج تُعطي لخصومها أفضل الفرص ليُدمروها من الداخل.
وفق هذا المنظور: يكون الخطر الأكبر بالنسبة لروسيا الآن، ليس فقط المقاومة الأوكرانية، وإنما الانقسام الداخلي حول سلطة بوتين غير المحدودة وحول جدوى الحرب وتداعياتها على الأمن والحقوق والحريات. وهي كلها انقسامات خطيرة بالنسبة للأمن القومي الروسي الداخلي. وإن تلك الزوايا المعتمة التي يُهملها بويتن، هي بالضبط ما يجب أن يُسلط عليه الضوء. فمن الناحية السياسية، لا يمكنك، إذا كنت ترى في نفسك رجل دولة كبير أو تسعى إلى تكونه، لا يمكنك أن تُبقي بلدك منقسما على نفسه، وتُمعن في قمع أو تجاهل الأصوات المغايرة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق