الكلمة الافتتاحية لـ "تيدروس أدحانوم غيبريسوس"، المدير العام لمنظمة الصحة العالمية أمام الدورة الاستثنائية الثانية لجمعية المنظمة - القلم 3000

اَخر المشاركات

القلم 3000

مدونة القلم 3000، متخصصة في قضايا الفكر والشأن العام وفن العيش.

الأربعاء، 15 ديسمبر 2021

الكلمة الافتتاحية لـ "تيدروس أدحانوم غيبريسوس"، المدير العام لمنظمة الصحة العالمية أمام الدورة الاستثنائية الثانية لجمعية المنظمة

 



سعادة السيد نائب رئيس الجمعية، البروفيسور بنجامين هونكباتين، سعادة الدكتورة حنان الكواري، الوزراء الموقرون، أصحاب السعادة، الزملاء والأصدقاء الأعزاء، أشكر فخامة الرئيس توكاييف على مشاركته وكلمته هذا الصباح، وأشكر كل ضيف من ضيوفنا الموقرين على كلماتهم: المستشار الاتحادي آلان بيرسيه من سويسرا؛ والمستشارة ميركل من ألمانيا؛ والرئيس بينيرا من شيلي؛ وصاحب السمو الملكي الأمير سلمان بن حمد من البحرين؛  والرئيس أنجيميا من ناورو؛ والرئيس ميشيل من المجلس الأوروبي؛ والرئيسة فون دير لاين من المفوضية الأوروبية؛ والدكتور هاتشيت من الائتلاف المعني بابتكارات التأهب لمواجهة الأوبئة، والدكتور فيشر من الشبكة العالمية للإنذار بحدوث الفاشيات والاستجابة لها.

يقول الكاتب الفرنسي، ألبير كامو، في روايته الرائعة "الطاعون" التي صدرت في عام 1947 "الأوبئة في الواقع هي أمر شائع الحدوث... لقد شهد العالم كثيراً من الأوبئة بعدد الحروب التي مرّ بها، ومع ذلك فإن الطواعين والحروب تأخذ الناس دوماً على غرّة". وها هي الشواهد تثبت صدق النبوءة المشؤومة لكلماته بعد أربعة وسبعين عاماً.

والفاشيات والأوبئة والجوائح هي من عوادي الطبيعة، وسمة متواترة في التاريخ المحفوظ، من طاعون أثينا في عام 430 قبل الميلاد، إلى الموت الأسود، ثم جائحة الأنفلونزا في عام 1918، ثم الآن مرض فيروس كورونا (كوفيد-19). بيد أن هذا لا يعني أننا عاجزون عن الوقاية منها أو التأهب لها أو التخفيف من تأثيرها. فلسنا حبيسي القدر المحتوم أو الطبيعة.

ونحن أقدر من كل الأجيال السابقة على توقع الجوائح، والتأهب لها، وفكّ جينات العوامل المُمرضة، والكشف عنها في مراحلها المبكرة، ومنع تحولها إلى كوارث عالمية، والاستجابة لها عند وقوعها. ومع ذلك، ها نحن ندخل السنة الثالثة من أشد أزمة صحية يشهدها العالم منذ قرن من الزمن، ومازال في قبضتها. 

ولاتزال هذه الجائحة، التي يمكننا الوقاية منها وكشفها وعلاجها، تلقي بظلالها القاتمة على العالم. وبدلاً من أن نجتمع للإيذان بانتهاء الجائحة، ها نحن نجتمع في غمرة موجة جديدة من حالات الإصابة والوفيات تجتاح أوروبا، واستمرار حصد أرواح لا حصر لها في جميع أنحاء العالم. وعلى الرغم من أن الأقاليم الأخرى تشهد تراجعاً أو استقراراً في اتجاهات الانتشار، فهناك شيء واحد تعلمناه، وهو أن لا إقليم ولا بلد ولا مجتمع ولا فرد سيكون آمناً حتى نكون جميعاً في مأمن.

ويؤكد ظهور متحور أوميكرون الشديد التحوّر مدى خطورة وهشاشة الوضع الذي نعيشه. وينبغي أن تُشكر جنوب أفريقيا على كشف هذا المتحور وتحليل تسلسله الجيني والإبلاغ عنه، بدلاً من أن تعاقب. والواقع أن أوميكرون يبرهن بالضبط على سبب حاجة العالم إلى اتفاق جديد بشأن الجوائح: فنظامنا الحالي يثبط البلدان عن تحذير البلدان الأخرى من التهديدات التي ستطرق أبوابها حتما.

لا نعرف حتى الآن إن كان أوميكرون سيؤدي إلى زيادة انتشار الفيروس، أو أمراض أكثر وخامة، أو زيادة احتمال الإصابة مجدداً بالعدوى، أو زيادة احتمال إفلاته من اللقاحات. ويعمل العلماء في منظمة الصحة العالمية وفي جميع أنحاء العالم على وجه السرعة للإجابة على هذه الأسئلة.

لسنا في حاجة إلى دق ناقوس الخطر مرة أخرى؛ بل ينبغي أن نكون جميعاً يقظين تماماً إزاء تهديد هذا الفيروس. ولكن ظهور أوميكرون بحد ذاته يذكرنا مرة أخرى بأن كوفيد-19 الذي يظن الكثيرون منا أننا طوينا صفحته مازال باقياً معنا. نحن نعيش في حلقة من الهلع والإهمال. وقد تنسف في لمح البصر كل المكاسب التي تحققت بشق الأنفس. ولذلك، فإن مهمتنا الأكثر إلحاحاً هي إنهاء هذا الجائحة.

والواقع أن قدرتنا على إنهاء هذه الجائحة هي اختبار لقدرتنا الجماعية على الوقاية من جوائح المستقبل والاستجابة لها بفعالية، لأن المبادئ نفسها تنطبق: التحلي بروح القيادة الشجاعة والرحيمة؛ والتمسك بالعلم؛ والسخاء في تبادل ثمار البحث؛ والالتزام الراسخ بالإنصاف والتضامن. وإذا لم نتمكن من تطبيق تلك المبادئ الآن لتذليل جائحة كوفيد-19، فكيف لنا أن نأمل في ألا يكرر التاريخ نفسه؟

لا يمكننا أن ننهي هذه الجائحة ما لم نحل أزمة اللقاحات. ففي أقل من عام، أعطيت نحو 8 مليارات جرعات من اللقاحات في جميع أنحاء العالم- وهذه أكبر حملة تطعيم شهدها التاريخ. ومنذ أكثر من عام، وقبل الموافقة على اللقاحات الأولى، أنشأت منظمة الصحة العالمية وشركاؤها مبادرة تسريع إتاحة أدوات مكافحة كوفيد-19 (مسرّع الإتاحة)، ومرفق إتاحة لقاحات كوفيد-19 (مرفق كوفاكس)، ومجمع إتاحة تكنولوجيات مكافحة كوفيد-19 (مجمع الإتاحة) لتيسير الإتاحة المنصفة للقاحات والاختبارات والعلاجات ومعدات الحماية الشخصية.

وقد أثبتنا نجاعة هذه الآليات. فقد شحن مرفق كوفاكس حتى الآن أكثر من 550 مليون جرعة لقاح، منها نحو 250 مليون جرعة في الشهرين الماضيين، أي أكثر مما شحنه في الأشهر السبعة الأولى من هذا العام. وفي الأسبوع الماضي، أنجز مجمع الإتاحة ومجمع براءات الأدوية الصيغة النهائية من أول اتفاق ترخيص مع المجلس الوطني الأسباني للبحوث لإتاحة ترخيص شفاف عالمي غير حصري لاختبار مصلي للأجسام المضادة. وأتوجه بالشكر إلى رئيس حكومة أسبانيا، بيدرو سانشيز، وإلى فخامة رئيس كوستاريكا كارلوس ألفارادو كيسادا على دوره القيادي في إطلاق مجمع الإتاحة.

وفي وقت سابق هذا العام، أنشأنا أيضاً مركزاً لنقل تكنولوجيا لقاح الرنا المرسال في جنوب أفريقيا، لتيسير الإنتاج المحلي والاعتماد على القدرات الذاتية الإقليمية. ولكننا قبل عام، عندما بدأنا نرى بعض البلدان تبرم صفقات ثنائية مع المصنعين، حذرنا من أن أفقر الناس وأكثرهم ضعفاً سيدفعون ثمن التدافع العالمي على اللقاحات. وهذا بالضبط ما حدث. فقد استأثرت بلدان مجموعة العشرين بأكثر من 80% من اللقاحات المتاحة في العالم؛ ولم تتلق البلدان المنخفضة الدخل، ومعظمها في أفريقيا، سوى 6,0% من جميع اللقاحات.

نحن نتفهم وندعم مسؤولية كل حكومة في حماية شعبها. وهذا أمر طبيعي. بيد أن الإتاحة المنصفة للقاحات ليست عملاً خيرياً، وإنما تصب في مصلحة كل بلد.

ولا يمكن لأي بلد أن يخرج من الجائحة بمفرده عن طريق التطعيم. فما دام انعدام الإنصاف في إتاحة اللقاحات قائماً، ستزداد فرص انتشار هذا الفيروس وتطوره بطرق لا يمكننا التنبؤ بها أو الوقاية منها. وجميعنا في هذا الهم سواء.

لذلك ندعو كل دولة عضو إلى دعم الغايتين المتمثلتين في تطعيم 40% من سكان كل بلد بحلول نهاية هذا العام، وتطعيم 70% بحلول منتصف العام المقبل. وهناك 103 بلدان لم تحقق غاية 40% بعد؛ ويحتمل أن يخفق أكثر من نصف هذه البلدان في بلوغ هذه الغاية بحلول نهاية العام، ويعزى ذلك أساساً إلى تعذر حصولها على اللقاحات التي تحتاجها، ومعظم هذه البلدان توجد في أفريقيا.

وحتى في هذا الوقت الذي بدأت فيه بعض البلدان بتطعيم أقل الفئات عرضة للإصابة بأمراض وخيمة، أو إعطاء جرعات معززة للبالغين الأصحاء، لم يحصل على التطعيم سوى ربع العاملين الصحيين في أفريقيا. وهذا أمر غير مقبول. ومع ظهور أدلة على تراجع مناعة اللقاح ضد العدوى، من الواضح أن البلدان ستحتاج في المستقبل إلى استراتيجيات معززة مكيفة حسب احتياجاتها. ولاتزال منظمة الصحة العالمية على موقفها الداعي إلى ضرورة تطعيم العاملين الصحيين وكبار السن وغيرهم من الفئات المعرضة للخطر أولاً في جميع البلدان قبل الشروع في تطعيم الأشخاص الأقل عرضة للإصابة بأمراض خطيرة، وقبل إعطاء الجرعات المعززة للبالغين الأصحاء الذين سبق تطعيمهم.

ولا شك أن اللقاحات أنقذت أرواحاً كثيرة وساعدت على كبح جماح الجائحة في العديد من البلدان. وقد تمكنت البلدان التي حققت أعلى معدلات التطعيم الآن من فك التلازم بين حالات الإصابة والوفيات. بيد أن الوضع يختلف في كثير من البلدان والمجتمعات المحلية، حيث تحول وميض اللقاحات المشرق أيضاً إلى ضوء طاغ يحجب رؤية الحاجة المستمرة إلى أدوات أخرى لوقف انتشار هذا الفيروس، ووقف إنهاكه لنُظمنا الصحية، ووقف حصاده للأرواح.

اللقاحات تنقذ الأرواح، ولكنها لا تقي من الإصابة بالعدوى أو انتقالها وقاية كاملة. وإلى أن نصل إلى مستويات عالية من التطعيم في كل بلد، يظل كبح انتقال العدوى أمراً ضرورياً. وهذا لا يعني فرض قيود الإغلاق، التي ينبغي أن تكون الملاذ الأخير في الظروف الأشد خطورة. بل يعني اتخاذ حزمة من التدابير المكيفة والشاملة التي توازن بين حماية حقوق الأفراد وحرياتهم وسُبل عيشهم، وحماية صحة وسلامة أضعف أفراد المجتمعات المحلية. إن إنهاء هذا الجائحة ليس مسألة "لقاحات أو..."، بل هو مسألة "لقاحات مع...".

لقد قتل كوفيد-19 حتى الآن أكثر من 5 ملايين شخص. وهي ليست سوى أعداد الوفيات المبلّغ عنها. أما الوفيات الإضافية الناجمة عن الفيروس وعن انقطاع الخدمات الصحية الأساسية، فهي أعلى من ذلك بكثير. وهناك عدد غير معروف من الأشخاص الذين يعانون من حالة ما بعد كوفيد-19، أو مرض كوفيد الطويل الأمد، الذي بدأنا للتو نفهمه.

ولاتزال النُظم الصحية مرهقة حد الإجهاد. ولم يحصل الملايين من الأفراد على ما يحتاجونه من خدمات صحية أساسية منقذة للأرواح لعلاج أمراض غير سارية ولا على خدمات الصحة النفسية. وتعثر أو تقهقر التقدم المحرز في مكافحة فيروس نقص المناعة البشرية والسل والملاريا والعديد من الأمراض الأخرى. ولم يحصل ملايين الأطفال على التطعيمات ضد أمراض أخرى تهدد حياتهم، وتخلفوا عن التعليم أشهراً من الزمن. وفقد ملايين الأشخاص وظائفهم، أو وقعوا في براثن الفقر. ولا يزال الاقتصاد العالمي يخطو متعثراً للخروج من حالة الركود. وقد ازدادت هوة الانقسامات السياسية على الصعيدين الوطني والعالمي. واتسعت أوجه عدم المساواة. وتقوضت مكاسب العلوم. وعمّت المعلومات المغلوطة. وسيتكرر هذا الوضع ما لم تجتمعوا، أنتم دول العالم، على كلمة سواء وتنادوا بصوت واحد: لن نسمح لهذا بأن يتكرر أبداً.

إن الجائحة في جوهرها هي أزمة تضامن ومشاطرة. وقد أعاق عدم تبادل المعلومات والبيانات من العديد من البلدان في الأيام الأولى من الجائحة قدرتنا الجماعية على الحصول على صورة واضحة عن خصائص الجائحة ومسارها. وأعاق عدم تبادل العينات البيولوجية قدرتنا الجماعية على فهم كيفية تطور الفيروس. وأعاق عدم تبادل معدات الحماية الشخصية والاختبارات واللقاحات والتكنولوجيا والدراية والملكية الفكرية وغيرها من الأدوات قدرتنا الجماعية على الوقاية من العدوى وإنقاذ الأرواح. وأدى غياب نهج عالمي متسق ومتماسك إلى استجابة متشرذمة ومفككة، وفرت أرضية خصبة لسوء الفهم والمعلومات المضللة وانعدام الثقة. وتمزق بذلك نسيج العمل المتعدد الأطراف.

لقد فضحت جائحة كوفيد-19 مكامن الضعف الأساسية في الهيكل العالمي للتأهب والاستجابة للجوائح وفاقمتها، وهي: الحوكمة المعقدة والمجزأة؛ وعدم كفاية التمويل؛ وعدم كفاية النُظم والأدوات.

ولم تحل الآليات الطوعية هذه التحديات. وأفضل الطرق التي يمكننا أن نتصدى بها لهذه التحديات هو التوصل إلى اتفاق ملزم قانوناً بين الدول؛ اتفاق نابع من اعترافنا بأن مستقبلنا لن يكون إلا مشتركاً. وتكاتف الدول لإيجاد أرضية مشتركة هو السبيل الوحيد لإحراز تقدم مستدام في مواجهة التهديدات المشتركة. لن يكون في منتهى الكمال، ولا هو حل سحري. بل سيتطلب تنازلات – لا أحد يحصل على كل ما يريد – ولكنه أفضل من حرمان الكثيرين مما يحتاجون إليه.

في عام 2005، دخلت الاتفاقية الإطارية للمنظمة بشأن مكافحة التبغ حيز النفاذ، وهي أول معاهدة دولية يتفاوض عليها في إطار منظمة الصحة العالمية. وقد خلص تقييم مستقل لأثر هذه الاتفاقية في عام 2016 أنها ساهمت في إحراز تقدم كبير وسريع في حماية الناس من التعرض لدخان التبغ؛ من حيث تنظيم تغليف وتوسيم منتجات التبغ؛ والتثقيف والاتصال والتدريب وتوعية الجمهور؛ وحظر مبيعات التبغ التي تستهدف القاصرين بيعاً أو شراءً؛ وتقديم التقارير وتبادل المعلومات.

وهذه الاتفاقية الإطارية للمنظمة هي الأساس القانوني لمكافحة التبغ، وتستخدمها البلدان لتنفيذ تدابير جديدة والدفاع عن تلك التدابير أمام التحديات القانونية. وخلاصة القول هي أن تنفيذ الاتفاقية قد ساعد في إنقاذ أرواح أكثر من 37 مليون شخص وسينقذ المزيد من الأرواح، حيث انخفض معدل الانتشار العالمي لتعاطي التبغ من حوالي 33% في عام 2000 إلى 22% اليوم.

وخلص تقييم الأثر إلى أنه لولا هذه الاتفاقية الإطارية، لكان من المستبعد أن تتخذ جميع تدابير مكافحة التبغ هذه على هذا النحو الشامل والمنسق والفعال.

شامل. منسق. فعال.

هذه النعوت الثلاثة لن يذكرها التاريخ لوصف الاستجابة العالمية لجائحة كوفيد-19.

إذا استطاعت البلدان أن تتحد للتفاوض على معاهدة لمكافحة تهديد التبغ الذي هو من صنع الإنسان؛ وأخرى ضد الإمكانات التدميرية للأسلحة النووية والكيميائية والبيولوجية؛ وثالثة ضد التهديد الوجودي لتغير المناخ؛ ورابعة ضد العديد من التهديدات الأخرى لأمننا المشترك ورفاهنا؛ فمن المؤكد – بل من المؤكد حتما – أنه آن للبلدان أن تتفق على نهج مشترك وملزم لمواجهة تهديد مشترك لا يمكننا السيطرة عليه أو الوقاية منه على نحو كامل - وهو تهديد نابع من علاقتنا مع الطبيعة نفسها.

أشكر وأهنئ جميع الدول الأعضاء على ما أبدته من روح تضامن وعلى مشاركتها في العملية الشاملة التي انبثق عنها النص المتفق عليه للمقرر الإجرائي المعروض عليكم في هذه الجمعية. وأشكر إندونيسيا والولايات المتحدة الأمريكية على قيادتهما للفريق العامل المعني بتعزيز تأهب المنظمة واستجابتها للطوارئ الصحية، وكذلك أعضاء هيئة المكتب الآخرين: بوتسوانا وفرنسا والعراق وسنغافورة. وأشكر أيضاً أستراليا وشيلي على دورهما القيادي في إعداد المقرر الإجرائي الذي ستنظرون فيه خلال هذه الجمعية. وأشكر رئيس المجلس الأوروبي شارل ميشيل على اقتراحه فكرة وضع اتفاق ملزم بشأن الجوائح، وعلى دوره القيادي ومناصرته الدؤوبة. شكراً لك صديقي.

هذه لحظة تاريخية. لكنها مجرد نهاية البداية. فلايزال أمامنا شوط طويل نقطعه معاً. وسيتطلب الوصول إلى مقصدنا التفاوض وتقديم التنازلات وبذل الوقت. إنها مهمة عاجلة، ولكنها تتطلب أيضاً الصبر. الرهانات كبيرة، وكذلك هي المكاسب.

ولن تحل الاتفاقية أو الاتفاق أو أي صك دولي آخر جميع المشاكل. ولكن هذا الصك سيوفر الإطار الشامل لتعزيز المزيد من التعاون الدولي، وسيوفر منبرا لتعزيز الأمن الصحي العالمي في أربعة مجالات رئيسية.

أولاً، تحسين الحوكمة. فحكومة الأمن الصحي العالمي عملية معقدة ومجزأة، وقد فشلت في ضمان العمل الجماعي الفعال وإتاحة اللقاحات وغيرها من الأدوات على نحو منصف.

وتقتضي التهديدات الرفيعة المستوى مشاركة سياسية رفيعة المستوى، ولذلك نؤيد فكرة إنشاء مجلس رؤساء الدول، الذي اقترحه فريق المنظمة المستقل المعني بالتأهب والاستجابة للجائحة، لتوفير قيادة سياسية رفيعة المستوى لاتخاذ إجراءات سريعة ومنسقة. ويمكن أن تدعم هذا المجلس لجنة وزارية دائمة تابعة للمجلس التنفيذي، وقد اقتُرح إنشاؤها بالفعل ويؤمل أن يحظى ذلك بالموافقة خلال الدورة القادمة للمجلس.

ثانياً، تحسين التمويل. فقد أفرزت دوامات الهلع والإهمال نظاماً إيكولوجياً تمويلياً للأمن الصحي العالمي يتسم بعدم الاستقرار وصعوبة التنبؤ به.

ويتطلب تعزيز دفاعات العالم تمويلاً يكون حقاً إضافياً، ويمكن التنبؤ به، ومنصفاً، ومتوائماً مع الأولويات الوطنية والإقليمية والعالمية. أما الاعتماد على آلية تقتصر في تمويلها على المساعدات الإنمائية الطوعية، فلن يزيد إلا من التنافس على الموارد الشحيحة أصلاً. وتؤيد المنظمة فكرة إنشاء صندوق للوساطة المالية تدعمه أمانة تتخذ مقرها في المنظمة، ويستضيفه البنك الدولي، وتموّله البلدان والمنظمات الإقليمية على أساس تقاسم الأعباء.

ثالثاً، نحتاج إلى نُظم وأدوات محسنة للتنبؤ بالفاشيات التي يحتمل أن تتحول إلى أوبئة وجوائح والوقاية منها وكشفها والاستجابة السريعة لها.

وقد اتخذت الأمانة بالفعل خطوات للبدء في بناء بعض هذه النُظم والأدوات. ففي أيلول/ سبتمبر، افتتحنا في برلين مركز المنظمة للمعلومات عن الأوبئة والجوائح، وهو مركز جديد مصمم لتعزيز الترصد العالمي من خلال تسخير قوة الذكاء التعاوني والذكاء الاصطناعي وغيرها من التكنولوجيات المتطورة.

وهناك مبادرات أخرى قيد الإعداد، ومنها نظام المجمع البيولوجي للمنظمة، الذي يتوخى توفير آلية موثوقة ومأمونة ويمكن التنبؤ بها وشفافة لفائدة البلدان من أجل تبادل المواد البيولوجية المستجدة. وتعكف عدة دول أعضاء الآن على تجربة الاستعراض الشامل للصحة والتأهب، وهو آلية لاستعراض الأقران لتعزيز التأهب على المستوى الوطني، على غرار الاستعراض الدوري الشامل الذي يستخدمه مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة. وقد اقترح هذه الفكرة صديقي السفير سامبو من جمهورية أفريقيا الوسطى. شكراً لك، سعادة السفير سامبو؛ الأمور تسير على ما يرام.

وفي الأسبوع الماضي، عقد الفريق الاستشاري العلمي المعني بمنشأ المُمْرضات المستجدة اجتماعه الأول - وهو هيئة دائمة جديدة ترمي إلى إرساء أسلوب أكثر منهجية لتحديد منشأ الفاشيات الجديدة. وفي الوقت نفسه، يجب علينا أيضاً أن نستخدم ونعزز الأدوات المتاحة لنا، ومنها الشبكة العالمية للإنذار بحدوث الفاشيات والاستجابة لها، المعروفة بالمختصر GOARN، والشبكة العالمية لترصد الأنفلونزا والتصدي لها (GISRS)، وإطار التأهب للأنفلونزا الجائحة.

رابعاً، العالم بحاجة إلى أن تكون منظمتنا معززة وممكنة وممولة تمويلاً مستداماً، وأن تكون في قلب الهيكل الصحي العالمي.

وتحظى منظمتنا التي تضم في عضويتها 194 دولة ولديها 152 مكتباً قُطرياً بخبرة فريدة وولاية عالمية فريدة وإشعاع عالمي فريد وشرعية عالمية فريدة. بيد أن الضعف قد تسرب إليها تدريجياً على مدى عدة عقود من الزمن بسبب اختلال التوازن المنهك بين الاشتراكات المقدّرة والمساهمات الطوعية المخصصة، مما يشوه ميزانيتنا ويحدّ من قدرتنا على تحقيق ما تتوقعونه منا أنتم دولنا الأعضاء.

لقد بات اتساع الشرخ بين التوقعات من المنظمة ومواردها معروفاً حق المعرفة. ويجب أن تكون جائحة كوفيد-19 محفزاً لتقويمه. وإن لم نفعل هذا الآن، فمتى؟ أطلب إلى جميع الدول الأعضاء أن تؤيد المقترحات الواردة في مسوّدة تقرير الفريق العامل المعني بالتمويل المستدام، عندما يجتمع مرة أخرى في غضون أسبوعين. وأشكر بيورن كرومل، رئيس الفريق العامل، على دوره القيادي.

وتتجلى أكبر المخاطر التي تهدد الأمن الصحي العالمي الآن في زيادة إضعاف المنظمة أو زيادة تجزؤ الهيكل الصحي العالمي. وفي جائحة كوفيد-19 خير دليل على أن الصحة ليست ترفاً، بل حق من حقوق الإنسان؛ ولا هي تكلفة، بل استثمار؛ ولا هي مجرد نتيجة للتنمية، بل أساس الاستقرار والأمن الاجتماعي والاقتصادي والسياسي.

وفي الأشهر والسنوات القادمة، ستتطلب الأزمات الأخرى منا اهتماماً، وقد تصرفنا عن اتخاذ إجراءات عاجلة الآن. لقد آن الأوان لكي تختار جميع البلدان الاستثمار في مستقبل أوفر صحة وأكثر أماناً وعدلاً.

والأمن الصحي العالمي هو من الأهمية بمكان بحيث لا يمكن أن يُترك للصدفة، أو النوايا الحسنة، أو التيارات الجيوسياسية المتغيرة، أو المصالح الخاصة للشركات والمساهمين. وهذا يعني التزاماً مستمراً بالتغطية الصحية الشاملة يستند إلى الرعاية الصحية الأولية. وأشكر مرة أخرى الرئيس توكاييف وحكومة كازاخستان على الدور القيادي الذي بذله ذلك البلد في مجال الرعاية الصحية الأولية، من ألما - آتا في عام 1978 إلى أستانا في عام 2018.

لقد نشر ألبير كامو روايته في عام 1947، أي قبل عام من دخول دستور المنظمة حيز النفاذ. ويشكّل دستور المنظمة في حد ذاته، بطبيعة الحال، معاهدة: فهو اتفاق ملزم بين الأمم؛ ورؤية تقرّ بأن التمتع بأعلى مستوى من الصحة يمكن بلوغه هو حق من الحقوق الأساسية لكل إنسان. والأهم من ذلك أنه يؤكد أن صحة جميع الشعوب أمر أساسي لتحقيق السلم والأمن، وهي تعتمد على التعاون على أكمل وجه للأفراد والدول.

وقال كامو إن "ما يصدق على كل الشرور في هذا العالم يصدق على الطاعون أيضاً. فهو يساعد الرجال (والنساء) على السمو بأنفسهم".

وفي أعقاب الحرب العالمية الثانية، سما أسلافنا بأنفسهم لتأسيس الأمم المتحدة ومنظمة الصحة العالمية هذه. وقد آن الأوان لنا أن نسمو فوق هذا الجائحة؛ أن نترفع عن دوافع الانعزالية؛ أن نترفع عن التنافس والشك وعدم الثقة؛ أن نترفع عن النظرة القاصرة للدورات الانتخابية والدورات الإعلامية. أن نستثمر الإرث الذي استفدنا منه جميعاً؛ وأن نترك إرثاً جديداً للأجيال المقبلة.

فلندع من سيأتون بعدنا، بعد عقود من الآن عندما نصبح مجرد صور وذكريات، يقولون عنا إننا تركنا العالم مكاناً أكثر صحة وأماناً وعدلاً مما وجدناه.

شكراً لكم.

 

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق