أطرح هذه الأسئلة للنقاش:
* كيف نختلف بشأن شؤون داخلية، ولا نختلف بشأن شؤون خارجية، ما دام الداخل والخارج يتداخلان فيما بينهما ولا ينفصلان البتة؟
* هل من حق المثقف أن ينتقد سياسة بلده الخارجية إذا تعارضت مع قيم كبرى؟
* هل من واجب المثقف أن يصمت أمام تحول سياسات البلاد الخارجية إلى مصدر توتر ديبلوماسي مستمر أو متجدد مع الجيران وباقي دول المنطقة؟
* أليس من حق المثقف أن يدُق ناقوس الخطر ويُثير الانتباه إلى إرهاصات الحرب أو، في الحد الأدنى، يُدين خطاب الحرب تفاديا لها أو تحذيرا منها؟
* لماذا تستفز آراء المثقف الحر الذباب الإلكتروني؟
***
في محاولة للالتفاف على الحقيقة والحق، معا، يُصِر البعض، مِمَّن يستثمر في القضايا العامة لأغراض خاصة، على تجنب طرح الأسئلة الجوهرية وتهريب النقاش إلى عناوين فاقِعة. إنها حكاية إثارة الضجيج والعواطف والمواقف المسبقة حول قضايا تتطلب الحكمة وتقليب النظر، كقضايا السياسة الخارجية للبلد ودلالات المصلحة الوطنية. هذا هو حال بعض الأقلام غير المستقلة، اليوم، وهي تسعى إلى تسخير العامة في معارك سياسية غير مُجدية، مُردِّدة تعابير ركيكة وأسطوانات مشروخة حول "المصلحة الوطنية" و"الوطن" و"السيادة"، فيما يبدو فِرارا من استحقاقات التفكير الجاد والأسئلة المحرجة بشأن أداء الديبلوماسية المغربية.
***
في البدء، أقول، يكون المثقف مستقلا في تفكيره، حرا في حكمه، أو لا يكون. فهذا شرط كينونته. لا أحد يُملي على المثقف قناعاته إلا ضميره اليقظ وتوجهه النزيه وموقفه الزاهد وعقله المنشغل بالدفاع عن المصلحة العامة. خوفُ المثقف الكبير هو ألا يكون نَفسه، أن يكون مجرد رقم في حسابات غيره، أو تابعا في علاقة مع سيد، أيا كان هذا السيد. ومن هنا قدرة آراءه المستقلة على استفزاز الذباب الإلكتروني الرخيص والمُكْلف على السواء.
لما طبَّع المغرب الرسمي مع إسرائيل، أريد من الجَميع أن يُوقع مَعصوب العينين وبلا تعقيب. كأننا بصدد عَقْد بلا شرط، عقد إذعانٍ عام. وأريد من المثقف أن يكون في صف جوقة "منطق المصلحة"، بعيدا عن أي التزام أخلاقي أو إنساني أو شرعي، أو حتى منطقي تجاه شعبٍ مضطهد تحت أسوء احتلال في العصر الحديث. وحين دخلت الأزمة الأخيرة مع إسبانيا هذا النفق الجديد، أراد البعض أن يحمل عصا "الوطنية" – كما يفهمها هو- ليدفع الجميع إلى صف القبول والتسليم للموقف الرسمي، في مصادرة مكشوفة لحق الناس في الاختلاف مع السياسة الخارجية الرسمية، أيًّا كان من يقف وراءها.
خلال الأسابيع الثلاثة الماضية، وضعَتنا الديبلوماسية المغربية، مرفَقة ومدعومة من الإعلام العمومي وبعض الجرائد الإخبارية، في قلب عاصفة إعلامية دِعائية أقرب ما تكون إلى التعبئة العامة في زمن الحروب ضد ما اعتُبِر مَّسا إسبانيا بمقتضيات الشراكة وحُسنَ الجوار مع المغرب لما استضافت على ترابها زعيم حركة البوليساريو الانفصالية. وفي أقل من أسبوع، انكبت الديبلوماسية على وجهها، منتقلة من موقع الدفاع عن مصلحة البلاد (تنبيه إسبانيا إلى إضرارها بمصالح البلاد) إلى اقتراف الفضيحة (التوظيف السياسي وغير الإنساني لمهاجرين سريين على الحدود مع سبتة، بعضهم قاصرين)، ثم الدخول في إسهال من التصريحات والبيانات والبلاغات التبريرية الصادرة عن وزارة الخارجية.
ولم يترك هذا الإعلام أي نافذة يطل منها صوت مختلف في تقييم ما يجري.
حتى أن بعض الصحفيين المحسوبين على أركان الدولة العميقة وخياراتها، دفعوا في اتجاه وقف أي طرح لأداء الديبلوماسية المغربية على طاولة النقاش العمومي، تارة بدعوى أن الديبلوماسية الرسمية، ولا شيء غيرها، يمثل المصلحة الوطنية، وتارة بدعوى أن قرارات وزير الخارجية، بوريطة، هي في الأصل قرارات الملك.
ومحاولة هؤلاء الصحفيين في الواقع يائسة وبئيسة من عدة أوجه.
أولا: تكريسها لاحتكار تمثيل "المصلحة الوطنية" من لدن الجهاز الديبلوماسي، وهي محاولة ترقى إلى تقديس القرار الديبلوماسي في ذاته. وهذا لا يستقيم، ما دام هذا القرار لا يملكك أي طُهرانية أصلية أو مشروعية إسكات من يَدَّعي أنه يمثل مصلحتهم (أي المواطنون عموما، والمهتمين والمثقفين خصوصا)، فهؤلاء، مجتمعين، أولى بالتعبير عما يُمثل مصلحتهم، داخليا وخارجيا. وثانيا: إن نقد القرار العمومي يمثل حقا دستوريا وقانونيا، لا يمكن حَدُّه ببعض العبارات الإنشائية التي تستقوي بالسلطة أو بِهرميتها أو بوظيفيتها؛ فنقد (أو انتقاد) القرار العمومي، هو نقد للأفعال والأداء وليس للأشخاص، أيا كانوا، وزراء أو رؤساء أو أمراء أو ملوكا. لا فرق!
وثالثا: لا شيء يمنع من انحراف قرارات ومواقف وسلوكيات الجهاز الديبلوماسي عن جادة الصواب، بسبب سوء تقدير الموقف، أو المبالغة في تقدير القوة الجيوسياسية، أو خطأ في توقع العواقب، أو سوء تحديد المصلحة. ولنا في التاريخ أكثر من دليل عن القرارات السياسية الخارجية التي أودت إلى خسائر كبيرة في الأرواح والثروات (قرارات قوى التحالف ما بعد الحرب العامية الثانية تجاه ألمانيا / قرارات حكومة فيشي في فرنسا في الحرب العالمية الثانية/ وغيرها).
إن هذا الخلط (والمتعمد أحيانا) بين واجب الدفاع عن مصلحة الوطن من جانب، والتصفيق المتهور لمنهج توتير علاقات البلاد مع محيطها بما في ذلك من إضرار بمصالح المواطنين من جانب آخر، هو ما يجب أن يرفضه المثقف؛ بناء على عديد من المنطلقات:
* أولا: أهمية التمييز بين ما يُعد مصلحة فعلية عاجلة وآجلة، وما يُعد تضررا بَيِّنا في الحال أو في المآل؛ باعتبار هذا التمييز هو أساس التمييز بين ديبلوماسية المصالح المتبادلة وديبلوماسية التهور المثير لمزيد من المشاكل.
* ثانيا، إن الخلط بين الأمرين (أي الدفاع عن مصلحة البلاد وتوتير علاقاته مع محيطه)، يُجعل من العمل الديبلوماسي مصدرا لشحن عقول المواطنين بالكراهية وإرادة العنف اتجاه الآخر، ولا يُسهم في تربية مواطنين متحمسين للدفاع عن مصلحة البلاد من منظور عقلاني يُقدر مصلحة بلادهم في محيطها الجيوسياسي. تُنتج الدعاية الفجة التعصب، بينما تحتاج المصلحة الوطنية إلى أيديولوجيا وطنية متوافقٌ عليها ومقبولة من منظور ذوق العصر (من هنا نفهم لماذا لم يقبل العالم ديبلوماسية ترامب ذات الأفق الضيق في تقدير المصلحة الوطنية!).
***
من حق/واجب المثقف أن يُذكر المسؤولين عن الشؤون الخارجية حاجة الديبلوماسية المغربية إلى ذوق ديبلوماسي، يُجنب البلاد تقويض الثقة التي وضعها فيه شركاءه الأوروبيين والأفارقة. كما أنه من حقه/واجبه أن يُذكر السلطة بأهمية احترام حقول الانسان حتى وهي تدافع عن مصالح البلاد في الخارج. ومن حقه/واجبه أيضا أن يُذَكِّر الدولة بضرورة التقدير الجيد لخريطة القوة الجيوسياسية في البحر الأبيض المتوسط وأهمية التواصل والدفاع الديبلوماسي على المصالح، بعيدا عن توتير الأوضاع وتفجير التناقضات، خاصة في ظل مشاكل المنطقة والعالم المتراكمة التي تحتاج إلى مزيدِ العمل والتعاون المشترك (الإرهاب، كورونا، البطالة، الركود الاقتصادي، الهجرة،...).
ومن حق/واجب المثقف أن يُذكر السلطة أننا لا نريد ديبلوماسية تجعل من بلد عزَلته الجغرافيا (حدود بحرية في الشمال والغرب والجنوب الغربي، وجار في خصومة معه في الشرق، وصحراء واسعة في الجنوب)، أن تزيده الديبلوماسية الخاطئة عزلة جديدة؛ تُكثر من الخصوم وتُولِّد النزاعات. إذ يمكن للملاحظ أن يُسجل كيف أمست قائمة خصوم وأعداء المغرب طويلة جدا، بالإضافة إلى تراجع العلاقات المتينة أو الودية مع دول أخرى: الجزائر، إسبانيا، ألمانيا، إيران، تركيا، السعودية، جنوب إفريقيا، اليمن (كنا شركاء في تحالف عربي خاض حربا قاسية وغير إنسانية ضد أهم فصيل سياسي هناك، يسيطر على العاصمة صنعاء[الحوثيون]، إلخ)، هذا بالإضافة إلى افتقار البلد إلى اتفاقات استراتيجية عميقة وطويلة الأمد مع قوى دولية وإقليمية كبرى أخرى (الصين، روسيا، البرازيل، كندا،...).
يمكن للأوروبيين أن يثق في المغرب الذي يفاوض بحكمة من أجل مصالحه (الصيد البحري، الفلاحة، تصدير منتجات منطقة الصحراء، الهجرة، مغاربة العالم، إلخ)، ويحقق نتائج تُرضيه عن طريق ذلك، بينما لن يقبلوا، وهم الذين يفاوضوننا تحت علم 27 دولة، أن يفاوضه تحت منطق التأزيم أو التهديد بنشر مزيد من الفوضى في البحر الأبيض المتوسط في ظرف أزمة عالمية صعبة. فهذه المبالغة في تقدير قوة المغرب الجيوسياسية تُسائل جهازنا الديبلوماسي، بشأن قدرته على التمييز بين ما فيه مصلحة البلاد وما يُعد انتحارا ديبلوماسيا. إذ كيف لبلاد متخلفة وفق مؤشرات التنمية البشرية، وتعرف مشاكل بنيوية سياسية واقتصادية واجتماعية، ولا تملك استراتيجية مقاومة واضحة، أن تُربك حسابات خصومها دون أن تتعرض هي نفسها إلى خسائر فادحة؟
وإذا كانت الديبلوماسية المغربية تعتقد أنه بقدر ما يَرْبَح المغرب في إفريقيا، تخسر الجزائر، فإنه يفوتها أنه الانتباه أنه بقدر ما يخسر المغرب في البحر الأبيض المتوسط تربح الجزائر (أنظر مثلا كيف تربح الجزائر في علاقتها بتركيا بينما يحصد المغرب خيبات علاقة غير عميقة وغير استراتيجية مع تركيا). وهذا ما يستدعي تغيير زاوية النظر ليس في علاقة المغرب مع دول البحر الأبيض المتوسط البعيدة فقط، بل مع خصمه القريب أيضا (الجزائر)، وذلك بناء على منطق رابح-رابح. لأن منطق القمار (رابح/خاسر)، يُضِر بمصالح الطرفين في أكثر من ملف اقتصادي وسياسي وأمني وعسكري من جهة، ومن جهة أخرى يفسح المجال لأطراف ثالثة لتَتَربح من فوائد هذا القمار الذي يعتقد طرفاه، بالخطأ، أنه ثنائي محض. وهنا تحتاج الديبلوماسية إلى تثوير منظورها اتجاه الجزائر، من خلال إنضاج ديبلوماسية الصبر الاستراتيجي والبحث عن مداخل للحوار الإيجابي، مع الانفتاح على التسويات الأليمة إذا لزم الأمر. فما لا يُدرَك كله، لا يُترَك كله.
***
ومهمة المثقف ألا يترك عقل المواطن العادي رهنا للدعاية السياسية، سواء في زمن السلم أو الحرب. فطرح الأسئلة والتنبيه إلى المخاطر وكشف المناورات وطرح البدائل هي من صميم واجب المثقف ومسؤولياته تجاه العموم. فما عساه تكون الشمولية إن لم تكن ترك السيطرة على الفضاء العام والعقل العقل العام للسلطة؟ فمن صميم مسؤوليات المثقف أن يخلخل كل العلاقات غير السوية التي تنال من الحريات والحقوق، الفردية والعامة، وخاصة الحق في الرأي والحق في معرفة الحقائق والحق في سياسات عمومية ناجعة.
فحين يستولي المتخصصون في نشر الفكر والتحليل المغشوشين على مواقع التفكير تنطلق لعبة قلب الحقائق، فتضيع الحقيقة والحكمة، في آن.
وأعتقد أن هذا الصمت الذي يَلُف مواقف ومواقع المثقفين المغاربة، اليوم، يكلفنا غاليا. وسيكلفنا المزيد في المستقبل. وهذا ما يجب تجنبه في هذه المرحلة الدقيقة والخطيرة من تاريخ البلاد.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق