فؤاد بلحسن - وقفة مع معرض «لقاء الفنانين التشكيليين بالخميسات الأول» - القلم 3000

اَخر المشاركات

القلم 3000

مدونة القلم 3000، متخصصة في قضايا الفكر والشأن العام وفن العيش.

الجمعة، 7 يونيو 2019

فؤاد بلحسن - وقفة مع معرض «لقاء الفنانين التشكيليين بالخميسات الأول»




قبل ثلاثة أيام، اختتم المعرض التشكيلي «لقاء الفنانين التشكيليين بالخميسات الأول»، المنظم بمركز «فضاء خدمات الشباب - السلام» [بين 27 ماي و4 يونيو 2019]، تحت إشراف مباشر من لدن مدير المركز، السيد محمد موافق. وبلا مبالغة، أعتبر أن هذا المعرض شكل واحدة من أهم المحطات الثقافية بالمدينة خلال هذه السنة. إنه لعرس ثقافي بحق أن تجتمع نخبة من الفنانين التشكيليين بالمدينة في رقعة واحدة لعرض أعمال مهمة تكتنز تجربة تشكيلية طويلة، تدريسا وبحثا وممارسة. بل إنها لمعجزة صغيرة أن تجمع ما يعد مستحيلا جمعه في هذه المدينة، أقصد المثقفين والفنانين ذوي المشارب المختلفة. لقد عبَّر هذا اللقاء عن إرادة جماعية تجاوزت الذوات الضيقة لتعانق جمهورا في حاجة إلى مساحات للتواصل مع الفن والجمال. هكذا، سلط هذا المعرض - وهو مغامرة فنية بحق – الضوء على جانب خفي من هذه المدينة، متمثلا في منجزها التشكيلي على يد أبناءها من الفنانين. 
  
على امتداد أيام المعرض، أتيحت للساكنة فرصة الوقوف أمام أعمال لتشكيليين مميزين: محمد الشتوك، عمر بويسحاق، عبد الحميد الهردوز، محمد حوستي، بشرى العكوري، خليد الخطبي، الشرقاوي المفضل، إلهام البعبوشي، يزيد ألعطو، فؤاد بن ادريس، عبد السلام حرطان؛ حيث شكل هذا المعرض مساحة فنية دافئة لالتقاء عالمين كاملين، مستقلين ومتداخلين في آن: عالم الفنان وعالم المتلقي، ليشكلا معا نسقا ثقافيا تفاعليا في الاتجاهين، باعتبار أن الفن التشكيلي تصوير للعالم، الداخلي والخارجي، فنيا من خلال إبداع الجمال من لدن الفنان وعرضه على الذائقة البصرية وحس الجمال لدى المتلقين قصد إثراء الروح وتثوير قدرتها على السمو.

تعددت الخطابات البصرية في هذا المعرض، فكان هذا التعدد هو نفسه قوته الأساس. داخل فضاء المعرض الصغير نسبيا، برزت توجهات وتقنيات ومقاصد فنية عديدة حاكية تجارب مختلفة. وعلى حد تعبير  محمد حوستي في أحد حواراته بصدد الفنانين التشكيليين «نشتغل جميعا بنفس الأدوات إذا لم أقل بنفس التقنيات، ولكن الاختلاف يبقى في المبادرة والطريقة والإنجاز. نحن، التشكيليون، كجميع الحرفيين نكرر الاسم والمفهوم والعناصر التشكيلية ولا نكرر التركيب».
كشف هذا المعرض عن كثير  من العمق والغنى والدهشة والإثارة. وامتاز بخصائص عدة. حضور قوي للاشعور والذاكرة وتنكر واضح للواقع المرئي (الموضوع في مقابل الذات)، فالذات هنا تعيد تشكيل الواقع بناء على الخبرات الشخصية والقدرة على التأويل والكفاءة التقنية. الحقيقة هنا ليست معطى بسيطا مقذوفا على مرمى من الحواس، بل الحقيقة مركب ذاتي-موضوعي، يعاد تشكيلها فنيا عبر اللون والصورة والرمز والشكل الهندسي (خط، دائرة، مربع، نقطة،...) والتركيب والبنيات والدلالات وغيرها من عناصر الإبداع التشكيلي. لكن هذا الحضور المكثف للاشعور والذاتي لم تغب عنه رقابة الأكاديمي. فخبرة الفنانين المشاركين أعطت مساحة للتكوين الأكاديمي، أي للوعي، للرؤية الجمالية، للتقنيات لتُأثر وتتأثر وتتفاعل على سطح مساحات الضوء والظل واللون والفراغ والحركة والعلامة والشكل، إلى جانب اللاوعي والخيال والحركة التلقائية. وحتى حينما اختار بعضهم جعل الموضوع/الواقع محور الرؤية الجمالية، جعل من هذا الواقع موضوعا متحركا، لا ساكنا، يعيد تشكيل نفسه جماليا حين اتصاله بالمتلقي (أخص بالذكر هنا لوحة الشتوك الرائعة، قطعة من مدينة، 2011).
الرومانسية والانطباعية الموشومة بالذاتية، حيث يشع الحنين ويَتَكَوْثر الشعور بالأشياء وتتمدد الرقة والذاكرة اللذيذة لتتصل بشكل هادئ مع الواقع من خلال امتلاك قدرة نادرة على الانتقال بين العتمة والشفافية (بعض أعمال بويسحاق)، الواقعية، ممثلة بدرجة أساسية بلوحة استقطبت الكثير من الزوار، وهي لمقطع من مدينة في الشمال المغربي، ما إن عاينتها امرأة مسنة حتى نطقت بعفوية لذيذة بعبارة «تبارك الله» (بعض أعمال الشتوك)، السريالية والمستقبلية، حيث يطير الخيال المجنح من أقصاه إلى أقصاه، عابثا بتفاصيل الواقع المعاد تعريفها انطلاقا من عناصر اللاوعي والحدس المطل على المستقبل والممكن، في فضاء بصري يحتوي على أبعاد هندسية ذات عمق مبدع، هذا دون أن ننسى كثافة الرسالة السياسية التي يمكن أن يحملها النص التشكيلي عبر توظيف والانشغال بمفاهيم وقضايا كبرى تهم الإنسانية (بعض أعمال الشرقاوي)، التجريدية الزخرفية الـمُرَصعة بالرموز البسيطة شكلا والكثيفة بحمولتها التراثية، والتي رفعت من أفق توقع المتلقي حين أخرجته من «الصورة التقليدية» إلى الشكل الإبداعي الخالص الذي يستحث تأهيل القدرة على التلقي الجمالي، مع تطلع، استنادا إلى خلفية أكاديمية واضحة وضبط لمجموعة من التقنيات (الإيقاع، الرمز، الكتلة،...) نحو تجريب توجهات كبرى في التشكيل كالتكعيبية وغيرها (بعض أعمال العكوري)، التجريدية التي تعيد تشكيل الواقع بكثافة جمالية آسرة ومدهشة في آن باستعمال ألوان حارة وقدرات رهيبة على توظيف الخطوط والزخارف والحروف والرموز والأشكال، من خلال رؤية جمالية مقتدرة تجمع بين الجمالي والتعقيد، وتنهل من خلفية معرفية متعددة التخصصات ومراس طويل مع الفرشاة وإرادة حقيقية في التجريب وحذر يقظ ضد النمطية والتقليد، دون أن ننسى ذلك الاهتمام إلى حد الهوس بالتفاصيل وتدبير الفراغ، والتي تختزل بصورة لا تخطئها العين نضج التجربة التشكيلية (بعض أعمال حوستي)، قذْف  مجموعة من الأعمال الفنية الغنية بموضوعاتها وأشكالها ورؤاها الجمالية، مدعَّمة بتجربة حياتية غنية وممارسة فنية طويلة، أعمال يحضر فيها الإنسان، وهو موضوع الفن الأساس مهما تعددت المقاربات والقوالب الفنية- حضر بضعفه وألمه وإحساسه بالغربة في الوطن واغترابه في الكون ورغبته في الانعتاق من مصير يتهدد وجوده، ويحضر، أيضا، بإرادته في الوجود وخصوصيته بين الكائنات وقدرته على تحريك الجمالي في الحياة، هكذا تنهض اللوحة بكامل عدتها لتثير  لدى المتلقي من جديد أسئلة الوجود والمصير، الأنانيات والتراحم، القبح والجمال، الضعف والقوة، الإنسان والكون (بعض أعمال الهردوز)، إلخ.
 لقد استطاع هؤلاء الفنانين، وفي مقدمتهم الأستاذ الهردوز، بذوقهم الجمالي العميق ومشاعرهم الإنسانية العميقة وحساسيتهم المتيقظة اتجاه المتلقي كشريك، من خلال لوحاتهم، أن يُبَلغوا رسالة الفن في الحياة، تلك الرسالة التي تجعل من الأمل خط دفاع أخير متى سقطت كافة أسوار المقاومة الذاتية، الفردية والجماعية؛ حيث يُمسي الفن في ذاته فعل مقاومة من أجل غد أفضل قائم على الحوار  السلمي وحب الجمال وإقرار كرامة الإنسان.
لقد كان هذا اللقاء الفني الجماعي فرصة حقيقية يُرجى أن تستمر بشكل دوري. فالمعارض من هذا النوع تشكل شرط تكوين خبرة جمالية جماعية لدى الساكنة؛ فنحن في أمس الحاجة إلى تطوير الاستمتاع بالقيم الفنية التشكيلية وتطوير ملكات التذوق الجمالي وامتلاك عادات الفهم البصري.
فالناس عموما بفطرتهم، بما فيهم الأطفال، يحبون الفن. ومثل هذا المعرضِ يخلق ثقافة حب الفن. ولا بديل عن هذا إلا موت الذوق العام أو، ربما، النزوع إلى التوحش!!


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق