«نص وفاء لِذِكراهْ»
مصادفةً، تذكرت أني لم أرْثِه بكلمة تليق بسيرته وبذلك الشيء
الصغير الذي كان بيننا. شَغَلني عن ذلك انكِبابي، رفقة مجموعة من المتطوعين، بإعادة
ترتيب ذاكرتِه (ما خلَّف خلفه من كُتب). نـــبَّــهتني إلى ذلك ملاحظة وجيزة كنت سَجلتُـها
على الصفحة الأولى من كتاب: اقتنيت هذا
الكتاب «بتاريخ 6 ديسمبر 2012، شارع شوفوني، برفقة محماد...».
تعرفت عليه في الستينيات من عمره. كنا ظِــلَّــــيْن لبعضنا،
ثم صرنا، بصعوبة، صديقَـيْـن في صداقة حال الموت بينها وبين أن تكبر. جمعَنا
المكان أولا: كان يأخذ زاوية ليقرأ، بينما آخذُ، على بعد 3 أمتار منه، زاوية لأُعِدَّ
بحثا جامعيا. مع توالي الأيام والشهور والسنوات، قرَّبَنا المكان وصار وجود كل
واحد منا بالنسبة للآخر طيفه الضروري في مكان ما لوقت ما. نتجاور في المكان، يُدفِئ
وجود أحدنا وجود الآخر. نتحرَّك في القاعة بإحساس عميق بوجودنا جنبا إلى جنب، لكن دون
أن يكون هذا التجاور متجاوِزا للدور الذي يريده كل واحد منا من الآخر : كان هَدَفَيْنَا
واضحَيْن. إِقرأْ أنت هناك. أكتب أنا هنا. الخمس عشرة (15) دقيقة التي كنا نقضيها
في طريق العودة كل يوم تقريبا هي ما جعل منا صديقين قريبين بعيدين. وكان لابد لتلك
الـ 15 دقيقة أن تُستَثمر من جانبَــيْـنَا بصورة دقيقة وذكية: كان لا بد أن يسأل
كِلانا، بحذر شديد، الأسئلة المناسبة ويرُد بالطريقة المناسبة. لأن أي كلمة في غير
محلها كان من شأنها أن تُفَجر مزاج رجل حادٍ ما عاد يُطيق لَقْلقات الشباب. هكذا، كانت
الأحاديث معها كأنها مشياً على حقل ألغام.
لكن كلما طالت المدة
إلا وأزداد ألفة وإعجابا بهذا الكائن الغريب، الغامض، الهادئ، الحامل لاحتمالات
الانفجار. وألِفْتُ أكثر عاداتَه وطقوسه
المكرورة في القراءة وشغفه بالكتاب والثقافة وكذلك طريقته الهادئة في فتح باب
المكتبة وإغلاقه.
كانت حياته كلها تدور حيثما دار الكتاب، فكرا وإبداعا. عمل كمحافظ
مكتبة عمومية لأزيد من 30 سنة. قضاها في خدمة الكتاب والقراءة وجمع الكتب والحديث
عن الكتب والبحث في الكتب والتفكير مع
الكتب. ولهذا وضع لحياته برنامجا صارما: يبدأ يومه في موعد دقيق، هو وقت الدوام
الرسمي كما حددته الوزارة، بلا زيادة أو نقصان: من 10h إلى 12h :30 صباحا، ومن 16h إلى 19h :30 مساء. يقضيها كاملة، تحت سقف من صمت
تام، في قراءة كتاب فكري، ثم متابعة عجولة، بقليل من الاهتمام، لأخبار مرة عن بلد
مُر-حلو. يعود للبيت، يتناول وجبة الغذاء، يستلقي قليلا، ثم يقرأ صفحات على عجل في
انتظار توقيت العمل المسائي. بينما يخصص الليل لقراءة الرواية. يبدأ يومه بما يَشغَل
العقل من أسئلة وإشكالات وقضايا، ويُـنهيه بما يَـسُر الروح ويُلبــي حاجتها
للجمال والابداع ولمعنىً أكثر كثافة مما يعرضه العقل من منطق وعلقلانية وموضوعية.
لماذا لا تتزَّوج؟، أسألُ. فيرد، باختصار شديد: «فاتَ الأوان!» أكتفي
بهذا الرد المختصر كبرقية فراق، ولا أُتبعه بسؤال: «فات الأوان على ماذا تحديدا؟»؛
لأني كنت أعرف الجواب: «فات الأوان على القِران بمخَاطَبَةٍ لن تبقى صامتة ككتاب
جليس. لماذا أتزوج الآن امرأةً تُجادلني، في هذه المرحلة من العُمر، في كل صغيرة
وكبيرة، وربما ستُحاول إعادة تربيتي من جديد!». فقد كان يكره كثرة الكلام؛ لأن هذا
الأخير يسرق من حصته اليومية في ممارسة الحب مع الكتاب. كان يجد معناه في القراءة
الحرة غير المقيدة إلا بذوق المزاج بعيدا عن التزامات الامتحانات أو مشاريع الكتابة
أو مواعيد إلقاء محاضرات. وكان يكره مساءلة – سواء من لدنه هو أو من لدن غيره -
يقينياته وروتينه البسيط: أكلٌ، قراءةٌ، نومٌ. أكل، قراءة، نوم. أكل، قراءة، نوم...
نعم، كان يحب السفر مع الكتاب وفي الكتاب. كان الكتاب هويَّته
ومبرِّر وجوده. قد يبخل على نفسه بأي شيء إلا على كتاب. يزور الرباط خصيصا لشراء
الكتب والدوريات الفكرية. يدخل معرض الدار البيضاء ويخرج محمَّلا بحقيبة أو حقِيبتَـيْ
سفر ممتَلئتين بالكتب النفيسة.
لهذا، حينما غادر الحياة، ترك وراءه إرثا ثقافيا بامتياز: حوالي
4000 كتاب و1000 مجلة في كل مجالات المعرفة [فلسفة، علوم اجتماعية، تاريخ، دين، أدب،
نقد،...]. جميعها تم اقتناؤها بعناية تامة، على يد خبير بشواغل الفكر البشري
والإبداع الثقافي. تجتمع عنده كل الأسماء البارزة في سماء الفكر والثقافة، حتى
المتناقضة منها.
أشكرك لأنك أوجدت لي مساحة في قلبك الذي لم يسع إلا أصدقاء يُعَدُّون
على أصابع اليد الواحدة... ولأنك شاركتني، في أوقات زُهدِك النادر في الوقت، بعض
طقوسي الخاصَّة في المشي ليلا، لما كنا نتقاسم لحظات الصمت بعدالة وأسئلة بسيطة لا
تُثير الغُبار. لحظاتٌ عادية بين شخصين عاديَين.
أعتذر منك عن شَغَـبِي
الصغير - على قِلَّتهِ - الذي تَـوَّجْته
بضحكاتك الشحيحة...
وداعا .. وداعا.. أيها المُخْلص الكبير لعاداته الصغيرة...
وداعا .. وداعا.. أيها الحاد الطِّباع والصريح في الموقف والصديق
غير الحقود...
وداعا .. وداعا يا من كَـتب سيرتَه رِفقة الكتاب-السَّفرْ،
الكتاب-الصديقْ، الكتاب-الزوجَهْ، الكتاب-العالَمْ،...
وداعا .. وداعا.. أيها المواطن البعيد .. في الجزيرة البعيدة ..
البعيدة عن الوطن البعيد...
ولنلتقي غدا في مكانك الجديد-القديم حيث ترقد روحك القلِقة بسؤال
المعرفة والوجود وحيث يتكرر طقسُك في غَـيْرِكْ... في مكتبة تحمل اسمك الغريب عنكْ...
في كتب مُوقَّعة تحمل اسمك لأنها لكْ!
جانب مما تَـرَك من كتب. قدَّمتها أسرته هبة لمركز فضاء خدمات الشباب. وتم تجديد المكتبة هناك بالمركز بمبادرة من مجموعة من المتطوعين وأطلق على القاعة التي تضمها اسم قاعة محماد أكرام.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق