ادريس هاني - هل يوجد دواء للحقد أو علاج للحاقد؟ - مساهمة في التحليل النفسي للحقد والحاقد - القلم 3000

اَخر المشاركات

القلم 3000

مدونة القلم 3000، متخصصة في قضايا الفكر والشأن العام وفن العيش.

الجمعة، 23 نوفمبر 2018

ادريس هاني - هل يوجد دواء للحقد أو علاج للحاقد؟ - مساهمة في التحليل النفسي للحقد والحاقد


ليس أمام إنسان مضطهد سوى أن يكون حدّيّا وإلاّ فهو ميلونكوليك.. وأن يُطلب من المعذّبين عدم التّأوّه فهذا مطلب الجلاّد في كل تاريخ العذاب وفي كلّ العصور.. قُل من يعزف على قيثارة الحقد على آلام المعذّبين؟
الحقد ضرب من الجَلد والحاقد جلاّد.. ولكنه مهما وضع من أقنعة فقد كانت خاصية الحاقد ولا تزال هي العجز عن إخفاء علامات الحقد. آلام المعذبين تهون تحت تعذيب جلاّد مهني، لكنها ليست كذلك تحت سياط حاقد فضولي.. تتجلّى مخرجات الحاقد في أساليبه الملتوية المتناقضة التي تتوسّل بكل أساليب المكر عبثا.. 

الحاقد يزايد على مَحقودِه في كلّ شيء حتى فيما يكون المحقود أبرع فيه من الحاقد، وهي الحالة البهلوانية التي يظهر عليها حال الحاقد وهو يوحي لنفسه بأنه مقنع جدّا وهو يمارس حقده ببرودة وجبن.. لا يقبل الحاقد من محقوده شيئا وإن كان المحقود لا يأبه بالمحقود، لن يقبل منه شيئا حتى ما كان يبدو بديهيّا.. الحاقد قبل أن يجلد محقوده هو يستغبي العالم لأنه يحاول أن يكون مقنعا بالتفاهة.. يتربّص الحاقد بمحقوده الدوائر كما لو أنّ ليس في العالم غيره.. الحاقد يتألّم من كل ما يصدر من محقوده. إنه يتألم ويتألّم بعد أن ارتضى لنفسه حياة الحقد والشّقاء. يستصعب حياة السعادة التي لا تكلف سوى اعترافا بحقيقة الأشياء، لكن أنّى للحاقد أن يدرك أن بينه وبين السعادة خطوة الانتصار على النّفس المريضة. إنّ التربية السيّئة والعقد المزمنة مانعة من هذه الخطوة.
يقحم الحاقد نفسه حتى فيما لا يعنيه ولا يفهمه. يمنح نفسه سلطة تقويم وتقييم محقوده وفق قواعد وأصول الحقد بأقنعة شتّى يفضحها اختلال تراتبية المقدمات والاستنتاجات. تستطيع الإطاحة بالحاقد من خلال إخضاعه لنسق رياضي وتحويل "طقّات حنكه" إلى رموز رياضية تضعك أمام شكل من الـ(absurdité) ثم بعد ذلك اركله ناحية الإكلينيك واجْرِ عليه أبسط تقنيات التحليل النفسي لتكتشف أنّه حاقد مقنّع ومصاب بالذّهان المزمن والهذيان الذي تفضحه اللغة...
الحاقد في العادة معجب بمحقوده، وربما تمثّل أسلوبه وتأثّر بذوقه وقد يحاول إبعاد الناظر عن ذلك التأثير الواضح بتقنيات افتعال الاختلاف إلى حدّ الحقد لكي لا يقف الناظر على هذا التقمّص المشهود.. وهذا النمط من الحقد هو الأسوأ والأبلد..  الحاقد يجعل من محقوده مثالا في السّر عدوّا في الظاهر. علم نفس الحاقد فرع واسع تُختزل فيه سائر أشكال التخلف والانحطاط النفسي..
يصعب الحديث مع حاقد لأنّ هلاوسه تسبق تفكيره. هو في حالة صراع وحشي مع محقوده وتأتي الحقائق الهشّة كأقنعة ليس إلاّ. النقاش حين يفترض مع حاقد يصبح مستحيلا. فالحاقد لا يطلب الحقيقة لأنه أصلا يحرّفها.. لا يريد الواقع لأنه يجتهد بالليل والنهار لرفضه، فكيف ستعيده للحقيقة والواقع بينما كل حقده يدور على مطلب إخفائهما. فأي نقاش مع الحاقد هو عبث حيث واقع حاله أنه ركز بين السّلة والذلة.. إنّ الحاقد في تجارب الأمم أخطر من كل صنوف الأعداء. لا تنظر إلى أي تجغرف للحاقد فقد يكون قريبا، ولكنه بحقده يزداد بعدا. الحاقد لا يؤمن بشيء تحت تأثير الحقد، فالأفكار ثانوية بالنسبة إليه بينما مشكلة الحاقد هي مع نفسه وعجزه عن القبول بالواقع واحترام الحقيقة. يريد الحاقد أن يقنع العالم بالكف عن الحقيقة بشروطها الواقعية ليفرض عليهم حقائق من وحي أمراضه وعقده، ويكون الأمر غاية في المفارقة والسخف. ولأنّ الحاقد يدرك أنّ العالم يرفض الباطل فهو يتوسل بأساليب مقبولة للعالم ويضمنها مضمون حقده، فنكون عادة أمام حالة من الحقد المحمول بلغة تنتمي إلى راموز تواصلي مختلف، شَكلٌ من القرصنة لأدوات التواصل الخلاّق تُسثمر في رسائل حاقدة.  يلفّ الحاقد سمومه في سيلوفان لغة ابتكرها العقلاء لتحقيق تواصل أخلاقي خلاّق لكنه يجعل منها وسيلة لقتل محقوده رمزيّا أو النيل منه قدر الوسع أو التحرّش به لأسباب يعرفها الحاقد وحده ثم قد يعرفها المحقود حين يلتفت إلى محقوده ويدركها العالم حين تصبح عادة متكررة. الحاقد قاتل بطريقة أخرى...
الحاقد لم تهذبه الأديان لا السماوية ولا الأرضية ولا تعاليم بوذا وكونفوشيوس. فللحاقد دين خاص: اتخذ إلهَهُ هواه، وصلّى للحقد والحسد. نفوس مكدورة وأمزجة غلبت عليها المُرّة.. بقيّة الطّينة.. قلوب هواء وعقول تراخت حتى لم تعد تعقل شيئا. المشكلة هي أنّ التربية مسؤولة بدرجة كبيرة عن هذا الوباء. لم يتعلّم هؤلاء المرضى أنّ حلّ مشاكلهم لا يتمّ بالكراهية والحقد.. وبأنّ من القوّة أن يحاول الإنسان بلوغ أهدافه بأساليب عادلة وإنسانية. يستمر الحقد والاحتقار في البيت والمدرسة والمجتمع. المجتمعات المنحطّة يصعب عليها الاعتراف، والكائن الحاقد سليل هذا الوضع التربوي. هو مثل العقرب يحمل معه شوكته الجبانة ويبحث عن ضحية. إنّ المجتمع الذي تشتد فيه ظاهرة الحقد هو فضلا عن كونه مجتمعا مريضا لا يمكن أن يتطوّر إلاّ بثورة نفسية. لكن من سيقوم بهذه الثورة النفسية، هل الحاقد أم من؟ طبعا الحاقد في حالة مغالطة النفس يصعب أن يثور على نفسه، ويحتاج إلى المساعدة. على المجتمع أن يحمي نفسه من الحقد والحاقدين؛ بأن يعتبر أنّ الحقد مرض يتطلّب علاجا وأن الحاقد ليس سويّا. فالحاقد مثل كل مجرم في حالة سراح.  في مشهد التخلف تكثر حالات الحقد التي تجعل الحاقد يعلّق فشله على محقوده حتى لو كان من مكان بعيد أو من مدى وخبرة مختلفة. الحاقد هو أتفه بني البشر.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق