السوشال ميديا (شبكات التواصل الاجتماعي)
والاكتئاب .. موضوع طويل ومتشعّب ويمكنُني أن أتحدّث فيه لساعات بلا توقّف ..
السوشال ميديا ليست ممّا لا يفيد في الاكتئاب ويمكنُ أن يزيدَه سوءاً فحسب، بل هي
مصدرٌ كبيرٌ وغير محدود ومتنوّعُ الآثار لكثيرٍ ممّا يُسبّب الأذى للصّحّة
النفسيّة، سواءٌ عند من يعانون من الاكتئاب أو من يُعانون من صعوباتِ الحياة
الطبيعيّة ..
لماذا؟ الأسباب
تفوق الحصر، ومنها:
1- السوشال ميديا
لا تُعطي صورةً صادقة عن حياة أيّ إنسان. هذه العبارة كليشيه مٌبتذَل غاية
الابتذال، ولكنّها تظلُّ مع ذلك صحيحة. المشكلة أنّ الجميع مقتنعون بصحَّتِها
عقليّا، لكنّ هذه القناعة العقليّة لا تصمدُ أمام سيلٍ جارفٍ من المنشورات والصّور
التي تُثير انفعالاتٍ قويّة. حتّى من يعرفُ الشخصُ تفاصيلَ حياتِهم المليئة
بالتّحدّيات والمشاكل وحتى الكآبة، تكادُ تخدعُه الصّورُ البرّاقة والمنشورات
الحالمة التي ينشرونَها في السوشال ميديا ..
2- نتيجة لما سبق،
يجدُ كثيرون أنفسَهم ضائعين بين أن ينساقوا وراء هذا الشّلالِ من منشورات الأحلام
والطّموح والأمل والصّور الزّاهية السعيدة، وبين أن يُذكّروا أنفسَهم أنّ الحياة
في الواقع ليست هكذا .. الخيار الأوّل يُدخلُهم في سباق الكذب الجماعيّ، والخيار
الثّاني يُشعرُهم أنّهم لؤماء أو لا يُحبّون الخيرَ للنّاس لأنّهم يُقنِعون
أنفسَهم أنّ كلّ هذه المظاهر لا يمكنُ أن تكونَ حقيقيّة .. الشّعوران مزعجان ويؤثِّران
سلبا على صحّة الشّخصِ النفسيّة ..
3- من ينساقُ وراء
إغراء الصورة المصطَنَعة والمُدَّعاة على السوشال ميديا ستظلُّ الفجوةُ تتسعُ بين
صورتِه عن نفسِه، تلكَ التي يراها كثيرونَ ويُصدّقونَها، وبين حقيقتِه التي
يعرفُها هو وحدَه وقليلون حولَه .. كلّما اتّسعت هذه الفجوة، ازدادت تعاستُه،
وصارث التراجعُ عن الصّورة أصعبَ .. وأخيرا، بدلَ أن تكونَ صورتُه على السوشال
ميديا رافدا لحياتِه وجزءاً منها، يتحوّل إلى الاقتطاعِ من حياتِه الحقيقية ونهشِ
لحمِها كي يُطعمَ الصّورةَ التي تتضخمُ كالوحش ولا تشبع .. قد يصلُ المرء إلى درجة
تفضيل الغرباء الذين لا يعرفون إلا صورتَه الزّائفة على القريبين الذين يعرفون
واقعَه غيرَ المِثاليّ والمُعقَّد والذي يختلطُ فيه الجيّد بالسيّء ..
4- كثيرا ما يقعُ المكتئبون
ومن يواجهونَ ظروفا صعبة من غير المكتئبين في خطأ كبير، ألا وهو توهّمُ أنّ كتابة
أشياء سعيدة وجميلة عن أنفسهم على السوشال ميديا وهم في ظرفِ صعب ستُساعدُهم
وسترفعُ معنويّاتِهم، أي أنّها نوعٌ من التّحفيز الذّاتي، وأنّ التعليقات
المُشجِّعة والمُعجَبة ستمدُّهم بالطّاقة .. ما يحدثُ غالبا هو العكس .. يكتبُ
المكتئبُ أو الواقعُ في مشكلة شيئا جميلا عن نفسِه، فيُقابلُه الناسُ بالإعجاب
والمديح والثّناء، وبعد دفقة "دوبامين" سريعة يتذكّرُ أنّ حقيقة
أحوالِه ليست كذلك، فيتعاظمُ شعورُه بخداعِ نفسِه، والتعليقات التي تمتدحُه تُصبحُ
عبئا عليه لأنّها تذكرُ أشياء جميلةً عنه لا يشعُرُ هو نفسُه بها، فتزداد تعاستُه،
ويزدادُ شعورُه بأنّ الناس لا يفهمونَه ولا يُحسّون بمعاناتِه، وأنّ صورتَه عندَهم
ورديّة، مع أنّه مُساهمٌ رئيسيّ في تصديرِ هذه الصّورة!
5- تُشكِّلُ
السوشال ميديا مجالا واسِعا لممارسة الحيلِ الدّفاعيّة النفسيّة، ولكن بطريقةٍ
أكثرَ خطَرا وضرَراً .. خذ مثَلا الموظَّفَ الذي قصّرَ في أداء وظيفتِه، وحصلت مُشادّة
بينَه وبينَ مُديرِه ولم يكنْ عندَه ما يُدافعُ به عن نفسِه .. هذا الشّخص قد
يكتبُ على الفيسبوك في المساء: "الوظيفة هي عبوديّة العصر الحديث" .. هو
في الحقيقة يقول: "أنا لم أستطع اليوم أن أدافعَ عن نفسي، ولا أريدُ
الاعترافَ بخطئي وتقصيري .. المشكلة ليست عندي، المُشكلة في نظام الوظيفة .. هيا
يا أصدقائي، أخبروني أنّني على حقّ" .. بطبيعة الحال، أكثرُ أصدقائه لا
يعرفونَ خلفيّة العبارة، ويُبدونَ إعجابَهم بها، فيستخدمُ هو إعجابَهم لإقناع
نفسِه بأنّه ليس مُخطِئا، وبدلَ أن يتعلّمَ شيئا من الموقف الذي حصل، يستخدمُ
أصدقاءَه وإعجابَهم الغافل في تعزيز صفاتِه وسلوكيّاتِه غير المُفيدة بالضّرورة ..
وخذ مثَلا
المرأة التي تدخلُ في خلاف مع زوجِها، وفي نهاية اليوم تنشرُ صورةً لها مع "ميك
أب" في منتهَى الإتقان، وبعد فلترة خمسين صورة من زوايا مُختلِفة واستشارة
صديقتين أو ثلاث في أيّ الصّور أجمل .. ما الذي تُريدُ أن تقولَه من خلال الصّورة؟
هي تقول: "زوجي لا يُقدّرني بما يكفي .. هيّا يا أصدقائي وأيُّها المُعجَبون،
أخبروني كم أنا جميلة ومرغوبة، وأخبروا زوجي كم هو مُخطئ" .. وبطبيعة الحال فهي تفهمُ
الإعجابات والتعليقات هكذا، مهما كانت نيّة المُعجَبين والمُعلّقين مختلِفة ..
قلِ الشيء
نفسَه عن الشابّ السيّئ الذي تتركُه خطيبتُه فيكتب "يمكنُ أن أتسامحَ مع كلّ
شيء إلا الخيانة" أو من يختلفُ خلافا مُحدّدا مع والدِه فينشرُ مقالا عن
المجتمَعات الأبويّة، أو من لا يُريد أن يفهمَ أبناءه واختلافَ جيلِهم عنه فينشرُ مقطَعا
عن برّ الوالدَين، وهكذا ..
6- ما سبقَ قد
يُؤدّي إلى انسلاخٍ تدريجيّ من جميعِ العلاقات المُركّبة والمُعقّدة والتي تمنحُ الإنسانَ
الإشباعَ العاطفيّ والاجتماعيّ والروحيّ الحقيقيّ، وتمنحُه الشعورَ بالجدوى
والقيمة والإنجاز والتحقُّق .. هذه العلاقات مُعقَّدة بطبيعتِها، ولذا فهي الأكثر
قدرة على منح الجدوى والمعنى والإشباع، وهي كذلك سببٌ طبيعيّ للمشكلات بسبب
تعقيدِها .. قد ينسلخُ الشّخصُ منها بالتدريج إلى علاقات السوشال ميديا البسيطة
والسطحيّة وغير المُشبِعة والأقلّ إشكاليّة والأقلّ حاجة لبذل الجهد والوقت
والمشاعر من أجل تعميقِها وتطويرِها والحفاظ عليها .. مع الوقت يزدادُ شعورٌ
بالخواء وبأنّه ما من شيءٍ حقيقي ومُشبِع ومُرضٍ في مُحيطِ الشخص، فهو تملّصَ من
والدَيه بسبب خلافاتٍ كان يمكنُ الحدُّ منها أو إدارتُها على الأقلّ، وابتعدَ عن
أصدقائه الذين يمكنُ أن يراهم ويسمعَهم ويرى ابتساماتِهم ودموعَهم لأنّه يتوهّمُ أن
هذه العلاقات صارت عبئا عليه، وحصرَ علاقتَه بمن معَه في العمل -وهم من يقضي معهم
الإنسان ثلث إلى نصف وقته في زمننا- في حدودٍ ضيّقة جدّا لأنّه لا يُريد بذلَ جهد
عاطفيّ واجتماعي في التّواصل معهم .. هؤلاء الذين ينسلخُ جيلُ السوشال ميديا عنهم
هم "المجتمع" الذي يُصبحُ الجميع يتساءلون عن دورِه وأين كان حين أصيب
فلان بالاكتئاب أو أقدم فلان على الانتحار .. هناك تخريبٌ منهجيّ للعلاقات ذاتِ
المعنى في حياةِ الإنسان، ثمّ تساؤلٌ ساذج عن غيابِها حين يحصلُ الاكتئاب
والانتحار! .. حاول أن تراقبَ كم مقالا ومنشورا في اليوم يأتي أمامك ممّا يُهاجمُ
فكرةَ الزواج والارتباط، وفكرة الإنجاب، وفكرة الارتباط بمجتمَع صغيرٍ أو كبير
وتقديم التنازلات من أجلِه، وفكرة العمل ضمنَ مؤسّسة أو شركة أو مجموعة .. ما الذي
سيُحقّقُ الإشباعَ العاطفيّ والاجتماعيّ لإنسانٍ يُريدُ التملّصَ من هذا كلِّه؟
7- هذا الوضع
السيّء الذي خلقته السوشال ميديا يُشبُه حالة من "الانتحار النفسيّ الجماعيّ"
.. الجميع يكذبُ على الجميع، ويُصدِّرُ صورةً خادعةً للجميع، والجميعُ ينخرِطونَ
في لعبةٍ عبثيّة تؤذيهم وتؤذي غيرَهم .. شيءٌ يُشبهُ قارِبا يتّجُه إلى الهاوية
وينظرُ كلُّ من فيه إلى سرعة الآخرين في التجذيف نحو الهاوية ويُحاولُ أن يجذّفَ
أسرعَ منهم! ..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق