هناك نوع من القضايا لا يقدم القلم ولا يؤخر فيها شيء. لأنها أشبه بالقَـدَر المحتوم. وكذلك كانت محاكمة «مجموعة المتمرد» التي اعتُـقل أفرادها الخمسة يوم 27 أكتوبر الماضي.
لقد كتب الكثير من المتتبعين وعلقوا من داخل المغرب
وخارجه حول الحيثيات السياسية والحقوقية لهذه القضية علَّ المعنيين بالأمر
يُـحَـكِّـمون صوت العقل والضمير في دواخلهم. مع ذلك، اتجهت المحاكمة إلى وجهتها
المعلومة وجرت محاكمة المتهمين بإصدار أحكام متوقعة.
مع ذلك، وفي انتظار ما ستُفرزه
عملية الاستئناف لاحقا، أرى من الضروري أن لا يجف القلم في ساحة النزال ضد
السلطوية. فــعَــرْض الحقائق لا يقل شأنا عن إحقاق العدالة. وذلك من منطق أن من
حق الرأي العام أن يعرف ويتخذ موقفا صحيحا مما جرى وسيجري. والرهان على الوعي
الصحيح رهان رابح دائما بالرغم من كل العجز الذي يمكن أن يُسجل على المجتمع المدني
بمدينتنا.
وبعد،
تمنيت لو أني أستطيع نقل كل وقائع
الجلسة الخامسة، والأخيرة ابتدائيا، لمحاكمة «مجموعة المتمرد» التي جرت مساء
الأربعاء 21 دجنبر 2016. فقد كانت بحق مشهدا فريدا للمواجهة بين الحرية والسلطوية،
بين الفرد والجهاز، بين الحق والزيف.
تدخلات القاضي، مرافعات وكيل
الملك، دفاع المحامين، تفاعلات الحضور، دموع أولياء المتهمين،... كلها تشي بأننا
أمام محاكمة عير عادية. فحتى هدوء القاضي لم يُفلح في إخفاء الصبغة السياسية
للقضية ولا التعقيدات المرتبطة بها ولا ضغوطات أطرافها.
كنا نتوقع أحكاما كهذه ولكن
الإخراج كان رديئا. أن تمر محاكمة من القنوات الرسمية لا يعني أنها تمت في أجواء
سليمة 100% من الناحية القانونية. فكما أن العقل يعقِل ولا يعقِل، فإن القنوات
الرسمية قد تكون أداة لاحترام القانون وقد تكون أداة لقمع الحريات. ولهذا ترددتْ
على ألسن المحامين الكثير من عبارات "إن هذه المحاكمة تُذكرنا بمحاكمات سنوات
الجمر والرصاص"، خاصة حينما كانوا بصدد الطعن في محاضر الضابطة القضائية وفي تمسك
وكيل الملك بها كأساس وحيد لتمرير الإدانة.
هذه بعض التفاصيل التي أرى من
الضروري والمهم أن يطلع عليها الرأي العام:
1.
في المحاكمة، كنا أمام 5 محاضر متطابقة تماما للضابطة
القضائية خاصةٌ بـ 5 متهمين. إذا كنتَ ستقول أنه من الغباء أن تضع كِتابة الضابطة
القضائية نفس المحضر، كلمة كلمة، عبارة عبارة، فاصلة فاصلة، نقطة نقطة، فيمكن أن
تقولها. لأن هذا هو ما حصل بالضبط. الغباء يقتل، لكن بين يدي العدالة العادلة!
2.
كانت المحاضر المذكورة تسرد أقوالا لبعض الشهود من رجال
الشرطة. وكانت أقوال شرطيين على الأقل تُثبت أن المتهمين قاموا بالاعتداء جسديا
على أحد ضباط الشرطة. لكن أمام القاضي، خلال هذه الجلسة، حضر هؤلاء الشهود. وتراجع
شرطيان عن أقوالهما المُثبِـتَة لواقعة الاعتداء. قالت الشرطية الشاهدة (بشرى ب.)
أنها كانت داخل الإدارة ساعتها وأنها لم تر واقعة الاعتداء. وقال شرطي آخر (جمال
ب.) أنه لم يشهد حادث الاعتداء. (أفتح قوسا لأقول: على هذه الأرض ما يستحق الحياة! رجال شرطة
نبلاء. شكرا). ولم يبق في جانب قائمة شهود الاثبات إلا من
قدم نفسه كضحيةِ لاعتداء المتهمين، المدعو بن حليمة. فكيف يُـعقل الاستناد على شهادته دون غيرها؟ خاصة وأن
الذين تراجعوا عن شهادتهم كانوا من شهود الاثبات. أي ممن يُفترض فيهم تقديم شهادة
لصالح المتضرر المزعوم، أي ضد المتهمين. نفى شهود الإثبات أي علم يقيني بالاعتداء
فوضعوا صابونة تحت أرجل المُدعي.
3.
لنفترض، تجاوزا، أن يوسف بنغالم ومنير منذور هما من نفذا
الاعتداء على الشرطي – حسب زعم هذا الأخير – وبذلك وجد القاضي ما يبرر الحكم
عليهما بـ 8 أشهر و12 شهرا نافذة على التوالي. فما الذي يبرر حكمه على باقي
المتهمين الثلاثة بالسجن 4 أشهر. خاصة أن بعضهم لم تُجه له أي إدانة من أي جهة كانت
بم فيها الشرطي المتضرر. بل إن أحد هؤلاء لم يكن مشاركا في الأصل في تلك الوقفة
كما صرح أمام القاضي دون أن تُثبت الجهة المدعية ما يُثبت العكس.
4.
لقد تشبت ممثل النيابة العامة (وكيل الملك) بالمحاضر كما
لو كانت كُـتبا منزلة على الرغم من أنه تشوبها العديد من الاختلالات والتي يمكن
إجمالها في التالي: 1. عدم توقيعها من قبل المتهمين، 2. تطابقها التام بالنسبة
لجميع المعتقلين على طريقة نقل-لصق (Copier-Coller)، 3. تراجع شهود الاثبات جوهريا عن أقوالهم
الواردة على مسمع ومرأى من وكيل الملك نفسه. والأدهى من هذا، هو أنه، وبالاستناد
عليها، طلب من القاضي إنزال أقصى العقوبات التي يَـسمح بها القانون في حق المتهمين!
استنادا إلى ماذا؟ لا نعرف!
5.
استنادا إلى حيثيات الملف، الذي جرى تأويله من قبل هيئة
الدفاع والمتتبعين كقضية رأي (ملف سياسي)، طالبت الهيئة القاضي بالحكم ببراءة المتهمين
لفائدة الشك (قرائن لا تفيد اليقين) ولفائدة اليقين (حيثيات تفيد البراءة) ولفائدة
القانون (لأنه جرى خرقه شكلا – على مستوى المساطر- وموضوعا فيما يخص التأويل غير
الصحيح لمقتضيات القانون الجنائي وقانون الحريات العامة).رفض القاضي هذه المطالب
وحكمَ بما حكم.
والآن
دعونا ننتقل إلى البعد الحقوقي والسياسي والفكري للمسألة.
أعتقد
أننا كنا أمام محاكمة أخفت الكثير من التفاصيل لكنها في الوقت نفسه كشفت عن أمور
لا تقل أهمية.
باستثناء
الوقفة المشرفة للمحامين كمتطوعين و/أو ممثلين لهيئات حقوقية وكذا المتابعة
الصادقة لبعض الشخصيات العامة (بعضهم مستشارين جماعيين) لم يلتفت، بما يكفي من
العناية المطلوبة، المجتمع المدني لهذه المحاكمة السياسية. وقد عبر عن هذا فاعل
جمعوي متابِع للمحاكمة: «لقد عـبَّـرتْ محاكمة هؤلاء الشباب عن هشاشتنا كمجتمع
مدني!». إننا لم نر وساطة للهيئات المدنية ولا تأطيرا جديا من قبلها لعائلات
المتهمين ولا تحريكا لهذا الملف على المستويات العليا، سواء على مستوى السلطات
العامة أو الهيئات الحقوقية مركزيا أو الإعلام الوطني. {إذْهَبْ أَنتَ
وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} (المائدة، 24).
عمليا، هذا ما قيل لعائلات المتهمين.
منذ
الوهلة الأولى، اتضح أننا أمام قضية رأي أريد لها أن تأخذ مجرىً جنائيا على أساس
تُهم ثقيلة نسبيا: خرق لقانون التظاهر، إهانة هيئة عمومية (الشرطة) والتعدي بالضرب
على رجل أمن أفضى إلى إجرائه عملية جراحية ويطالب كتعويض عن الأضرار مبلغا ماليا
يُقدر بـ 50000 درهم.
كنا
نعلم أن يوسف بنغالم (المتمرد) موضوع تحت منظار صائدي الفرص لحساب أكثر من جهة
تريد الانتقام منه. وكان يوسف بنفسه على علم بذلك. وكذلك كان المعتقلون معه في نفس
هذه القضية. ما لم نكن على علم به هو أن يأتي إخراج العملية برمتها على طريقة
الهواة السذَّج: 1.محاضر أقل ما يمكن القول بشأنها أنها مسوَدات أولية للتمرين على
الكتابة، 2.شرطي مُدَّعي (بن حليمة) أقل ما يمكن القول بشأنه هو أنه لم يحسبها
جيدا ولهذا خرج بدون تعويض يُذكر لأن المحامين أثبتوا أن عمليته الجراحية لم تكن
بسبب ضرب تعرَّض له وإنما بسبب مشكل صحي خاص به (الفتق) وذلك بإقرار شفهي من
الطبيب الذي أجرى له العملية الجراحية وكذا الشهادة الطبية التي قدمها دون أن
تتضمن أي إشارة إلى وجود علامات للضرب أو الجرح في جسم المعني. 3.حشو الملف
القضائي ليوسف بنغالم بتعليق له على موقع التواصل الاجتماعي لا علاقة له بموضوع
القضية، 4. وجود متهم لا علاقة له لا من قريب ولا من بعيد – كما بدا من حيثيات
القضية – بالوقفة التي يُتابَـع على أساسها الجميع، 5. خُلو ملف القضية من أي قرائن
تُثبت إهانة المعنيين للهيئة العمومية المعنية (الشرطة)، 6. نفي جميع شهود الاثبات
عِلمهم اليقيني (عن طريق الرؤية) بواقعة ضرب الشرطي المُدَّعي، 7. التناقض الحاد
بين ادعاءات الشرطي المدعي "المتضرر" وشهادات زملائه في العمل، إلخ.
لقد
قدم المحامون مشهدا بديعا من الترافع القانوني لصالح دولة الحق والقانون وكرامة
الانسان. كما قدم الشهود من رجال الشرطة (جمال، بشرى،...)، بالرغم من كل الضغوط
المحيطة، مواقفَ إنسانية نبيلة جعلتهم يقفون في موقف بعيد عن الألاعيب القذرة التي
أحاطت بهذه القضية وقدَّموا بذلك أمثلة عن المروءة والاستقامة تُحسب لهم مدى
الحياة، كما عبر أصدقاء المتهمين عن وفاء لا يُقدَّر بثمن وكذلك عبرت عائلاتهم عن
وعي وصمود يستحق التنويه.
وإذا كان لا بد من تسجيل أن القاضي كان على صواب
باستبعاده السيناريو الذي أراد ممثل النيابة العامة (وكيل الملك) أن يرسمه لمسار
للمحاكمة، فلا بد أيضا من التسجيل أن حيثيات الملف أظهرت للمتتبعين والمحامين
والحقوقيين أن الأحكام الابتدائية كانت قاسية وجانبت الصواب. لقد كنا نرغب في أن
تعبر المحكمة الابتدائية عن علو كعبها المهني في تناول هذه القضية. ولكن وجدنا
نفسنا مضطرين للعودة إلى حقيقة سجلنا القضائي التي تؤكد ان المرحلة الابتدائية
نادرا ما تكون مرحلة للاحتراف والجرأة القضائيين. ولهذا، ظلت العديد من الأسئلة
القانونية تحوم حول هذه الأحكام، التي من المفروض أن يقول قضاء المرحلة الثانية
كلمته فيها.
فموعدنا
المرحلة الاستئنافية. عساها تسجل لمؤسسات هذا البلد بعضا من قصص التعقل والنضج.
لقد
كانت زغاريد الأمهات والنسوة الحاضرات أكبر وسام في صدر هؤلاء المعتقلين
السياسيين. بيد أن القصة يجب ألا تنتهي عند هذا الحد أيا كانت الأحكام. يتعين أن
تستمر عمليات الفضح والإدانة لهذه اللعبة اللاأخلاقية. فالمجتمع المدني الذي تراخى
في المرحلة الأولى للمحاكمة يجب أن يستفيق الآن خاصة بعد أن تكشفت الكثير من خيوط
اللعبة. فهذه القضية يتعين ألا تبقى محصورة في حدود المدينة وبعيدة عن مسامع
مؤسسات الدولة ومسؤوليها في المستويات العليا. وهنا يظهر دور الهيئات الحقوقية
المحترفة والتي لها أكثر من وسيلة لتبليغ الرسائل وإعلام المسؤولين بما يجري في
البلد. كما أن مساندة العائلات يجب أن يتقوى، معنويا وعمليا. وفي الأخير لا بد أن
يقوم المجتمع المدني وأصدقاء المعتقلين بدورهم كاملا في رد الاعتبار لهؤلاء. لقد
انتهى الوقت الذي يُترك للمؤسسات الرسمية صناعة القيم والرموز. يتعين الاحتفال
بجميع المعتقلين حين يجري إطلاق سراحهم. والتفكير في احتفال جماعي يجب ألا يجري
إهماله. وقد تكون فرصة لنتذكر معتقلين سياسيين سابقين تم إيكالهم للنسيان في هذه
المدينة كأنهم تحولوا إلى مجرمين بمجرد الحكم عليهم بأحكام سجنية، كالسيدة عفاف بنزكري
وآخرين. فلا يجب أن نترك للمفسدين أن يملوا علينا نوعية الأخبار التي نتلقاها
ويفرضوا علينا التأويلات التي يرغبون فيها للوقائع والأحداث ويُلصقون في أذهاننا
التقييم الذي يعطونه للأشخاص الذين يستهدفونهم. فالمجتمع المدني إما أن يكون سيد
نفسه وإلا فليذهب إلى الجحيم هو الآخر!
...
في
انتظار خبر سعيد تحت سقف هذه المدينة، أقول: "زيدو طْـحنو مْـنَا"،
لكن سننتصر !
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق