نهج المعارضة السورية على ضوء حكمة الملكة بَـلقيس - القلم 3000

اَخر المشاركات

القلم 3000

مدونة القلم 3000، متخصصة في قضايا الفكر والشأن العام وفن العيش.

الاثنين، 31 أغسطس 2015

نهج المعارضة السورية على ضوء حكمة الملكة بَـلقيس

فؤاد بلحسن

 belahcenfouad@gmail.com




لم يعد التعليق على آثار الربيع العربي – الذي أحاله عربان الخليج وأعداء المنطقة وجهل النخب إلى خريف قبل الأوان – بالأمر البسيط أو الممتع. تشعبت الخيوط، تقاطعت الاستراتيجيات، تعددت التكتيكات، كثرت الأطراف، وتمددت التداعيات، إلى درجة بات من الصعب، في حمأة الجدل السياسي والمهاترات العقيمة الجاري، تمييز السابق عن اللاحق، الذئب عن الحَمل، الثوري عن الإرهابي، الشريف عن الوضيع، الوطني عن العميل،...، العقل عن الجنون.
لكن وأنا أقرأ سورة النمل في الكتاب الحكيم، استوقفي سلوك ملِكة سبأ حين بلغتها رسالة النبي سليمان (ع) داعية إياها الدخول في دعوته، انطلاقا من «عدم العلو في الأرض»، باعتبار أن الاستكبار  قيمة/حالة سلبية في النفس وفي الواقع السياسي.
توجَّهت ملكة سبأ إلى مجلس مشورتها (أو حكومتها أو ديوانها) قائلة: « يا أيها الملأ، أَفتُوني في أمري. ما كنتُ قاطعةً أمرا حتَّى تَشهَدونِ. قالوا نحن أُولُوا بأسٍ شديدٍ والأمرُ إليكِ. فانظري ماذا تأمرين. قالت: إنَّ الملوك إذا دخلوا قريةً أفسدوها وجعلوا أعِزة أهلِها أذلةً. وكذلك يفعلون. وإني مرسِلةٌ إليهم بهدية فناظرةٌ بمَ يرجعُ المرسلونَ». (الآيات: 32-33-34-35).
هذا المقال محاولة لتقييم نهج المعارضة السورية على ضوء نهج الملكة في هذا الموقف السياسي الصعب الذي تعرضت له مملكتها. وبالتأكيد، لست في وارد ممارسة نوع من القياس الذي يسعى إلى إسقاط الأحكام الجاهزة؛ فالمحاولة أبعد من ذلك بكثير.
وفي البدء، أُعلنُ أنني أنطلق من افتراض أساسي: إن نظام بشار الأسد نظام سلطوي وقاتل وغير ديمقراطي وخانق للأنفاس، وبالتالي فالثورة عليه أمر مشروع إن لم نقل بديهي، بل وأخلاقي.
هل ارتاح المحللون الاستراتيجيون الجدد الذين لا يعرفون حتى موقع مدينة درعا أو حلب أو غيرهما على الخريطة السورية؟!، هل ارتاح دراري الفايسبوك ممن مَردُوا على الحديث قبل الفهم والكتابة قبل القراءة؟! هل ارتاح محللو وأعضاء ما أسميها بمنظمة «ملاحظون بعين واحدة» أولئك الذين لا يبصرون المنطقة الرمادية في تحليلات صارت الأشخاص والمواقف والنتائج بلونين لا ثالث لهما: أبيض وأسود؟!
ارتاحوا! جيد!
إذا، ما هو درس بَلقيس؟
حتى أريح القارئ، أقول: لا تتعب نفسك في البحث عن موقع المعارضة السورية في معادلة سليمان (المؤمن)--بلقيس (الكافرة)، بل ابحث عن موقعها في معادلة سليمان (الطرف القوي/بشار)–بلقيس (الطرف الضعيف/المعارضة). وإذا شئت، انفض عنك كل هذا، فما يهمنا هنا هو الأفكار التي أطلقتها هذه الملكة الحكيمة، والتي ارتقت حكمتها السياسية بحق إلى مرتبة الدرس. وإلا لما سجل القرآن أفكارها تلك. ولكنهم لا يفقهون! – بالمعنى اللغوي والاصطلاحي للعبارة على السواء!

الحِكمة السياسية الأولى: أولوية الحفاظ على الدولة.
هذا مفصل من مفاصل كل ثقافة ثورية: ضرورة الحفاظ على الدولة من منطلق التمييز بين النظام والدولة.
فإذا كانت الثورة تسعى إلى إعادة الدولة للشعب من خلال إعادة سبكها وفق الأهداف والشعارات الثورية الجديدة، فإن سعيها ذلك لا يجب البتة أن يكون على حساب الدولة ذاتها. فالدولة أكبر من الجميع وهي ملك للجميع وهي ضامنة الجميع. كما ان الثورة تجعل من تقوية الدولة أحد أهدافها. بل إن الثورة تقوي الدولة بالضرورة باعتبارها مدخلا لتقريب جهاز الدولة أكثر من الشعب وبالتالي زيادة تماسك الدولة. لذا لا يمكن أن يسمى أي حراكٍ شعبيٍّ مَا ثورةً إذا كان يريد أن يدمر أو يمعن في تدمير جهاز الدولة فوق رؤوس الجميع أو يضعف سيادة وقوة الدولة في تجاه أعدائها المتربصين أو يبيع استقلال الوطن للخارج أو يضعف مناعة شعب الدولة أو يرهَن قرار الثورة في حد ذاتها للغير.
قالت بَلقيس: « قالت: إنَّ الملوك إذا دخلوا قريةً أفسدوها...». أي أن الدولة -وضمنها الشعب- (= القرية)  حاضرة في تفكير الملكة. وكان خوفها عليهما – كما ذكر القرآن – أهم من خوفها على النخبة الحاكمة للمجتمع (=أعزة القوم)؛ لذا ورد ذكر الدولة (أو القرية) قبل ذكر النخبة الحاكمة: «... إذا دخلوا قريةً أفسدوها وجعلوا أعزة أهلها أذلةً».
في نهج الثوار، نجد الصورة مقلوبة تماما. ظل زعماء المجلس الثوري (أعزة القوم/ الائتلاف السوري المعارض) خارج البلد، في تركيا وقطر والسعودية ومصر، معززون مكرمون منعمون، وفي الوقت نفسه يصدرون البيانات ويطلقون التصريحات والمبادئ والعناوين الثورية الرنانة. في ثنايا ذلك، كانت الدولة تُدَمَّر على مرأى من أعينهم وظلت آخر شيء يمكن أن يُفَكر فيه. لقد حاولوا في البدء أن يقنعوا الجماهير العربية والاسلامية أن من بشار هو الذي يُدمر الدولة ومعها الشعب، لكن سرعان ما ظهر أن أعمال التدمير تجري على أيديهم هم أيضا. والمحصلة: تدمير دولة بالشراكة! أنَّـا لهم أن يتملصوا من هذه المسؤولية السياسية والأخلاقية الكبرى؟!
لنُعد توصيف المشهد بالمقارنة مع موقف الملكة الحكيمة من الدولة ككيان جامع.
1.     مع الوقت، صار واضحا أن الحراك الثوري السوري يدمر الدولة السورية أكثر من تدميره للنظام؛ حيث جرى هدم، بالشراكة مع هذا النظام، المؤسسات والبنى التحتية والبنى الإنتاجية. بل وجرى – ولا يزال - تحطيم الشعب بكل مكوناته، إلى أن صار السؤال الساخر التالي أكبر ما يعبر عن هذا العماء المستمر لدى الثوار: هي ثورة لمصلحة من؟! فالشعب يُقتل على بَكرة أبيه! وهكذا، صرنا تحت عنوان جديد: "وجعلوا أذلة أهلها أكثر إذلالا"، أي أكثر مما كان سيفعل بشار! لعمري، ما شهدنا ثوارا في العصر الحديث أذلوا شعبهم أكثر مما فعل ثوار سوريا!
2.     من خلال حسابات جيوستراتيجية بسيطة – وهنا لا تحتاج المعارضة وأنصارها لمركز خبرة في الاستراتيجية أو مجموعة بحث من دكاترة العلاقات الدولية ليقروا لها بهذه النتيجة – يلاحظ أن الحراك الثوري أضعف الدولة السورية بشكل خطير ومهدد لأمنها القومي بالنظر لوجود دولة عدوة وعدوانية على امتداد الحدود الجنوبية-الغربية للدولة في المحور القنيطرة-السويداء على شريط التماس مع "إسرائيل" (شمال فلسطين المحتلة). [وبالتأكيد، يجدر التذكير أن هذه الدولة الجارة-العدوة ما تزال تحتل جزء من التراب السوري (=الجولان)].
3.     لقد كان استقلال وسيادة سوريا قبل الحرب الأهلية يُضرب بهما المثل في المنطقة. رفضت تزكية قرار أمريكا بمهاجمة العراق في 2003. ساهمت، عبر دعم المقاومة العراقية، بإخراج الغزاة من أرض العراق. دعمت بالموقف والتدريب والسلاح قوى المقاومة في جبهة الصراع مع إسرائيل (القوى الفلسطينية وحزب الله) وأوَت قياداتها وحمتها في وقت لم تجرأ أي دولة عربية على احتضان أي قائد أو تسليم ولو رصاصة واحدة أو تأييد، ولو بالموقف السياسي، أي عمل مقاوم ضد العدو الإسرائيلي. ساهمت في تحطيم مشروع الشرق الأوسط الجديد الذي بشَّرت به كونداليزا رايس وإدارة بوش. رفضت الإملاءات الأوروبية التي تنهل من قاموس وثقافة الاستعمار القديم. نعم، كانت هذه هي سوريا قبل الحرب الأهلية. الآن، وبعد أن أَضعفت المعارضة الدولة، وبعد أن شغَلت جيشها إلى حدود قصوى، وبعد أن تم إيجاد الغطاء السياسي للتدخل الغربي في سيادتها وقرارها ومصيرها، ها هو الاستقلال والسيادة السوريين يصيران في كف عفريت. فقد أمسى الجميع يتجرأ ويهدد و يستبيح ويتوعد ويهين سوريا الدولة. وصار سوريا دولة استقبال اللاجئين من كل أصقاع العالم تُصَدر اللاجئين بالملايين وترمي بالآلاف من أبناء شعبها في البحر هربا من جحيم الحرب الأهلية. وأكثر من هذا، صار كل من  النظام والمعارضة يتوقف وجودهما واستمرارهما على المساعدات الخارجية في المأكل والملبس والأمن والتسليح وفي أداء رواتب الموظفين والجيش الوطني والثوار والمرتزقة، بعد أن كانت سوريا دولة بلا ديون خارجية!
4.     مد الثوار أيديهم للخارج لحماية الثورة من بشار (هذا ما لم تفعله الملكة). ومع الوقت ظهر أن المال الذي يقدَّم للمجلس الثوري ليس على سبيل الإحسان؛ حيث سرعان ما تحول إلى دعم مشروط وتدخل واضح في قرار الثورة. والسؤال: متى كان قرار الثورات تابعا للغير؟! تجاه الخارج، نجد أن جميع الثورات كانت معاندة بطبيعتها، قوية بوحدتها، جريئة في موقفها، لا تقبل بأنصاف الحلول، تثير الرعب في جيرانها [الثورة الفرنسية، الثورة الروسية، الثورة الإيرانية والثورة المصرية قبل خطفها على يد العسكر]، إلا الثورة السورية! فقد كان ثوارها أسُود في قضايا الداخل، مجرد أرانب وطُعم بالنسبة للخارج؛ حيث تحولت، في طرفة عين، الثورة ذاتها إلى صيد سهل لكل حاقد على سوريا.
رَكنت الملكة إلى صوت العقل، بينما ركَـن الثوار إلى العنف والعنف المضاد فكانت أهدافهم أول ضحاياهما: لم يحرزوا السلطة ولم يحافظوا على الدولة ولا حموا الشعب!

الحكمة السياسية الثانية: العقل قبل العنف.
سألت الملكة مجلس حكمها: « أفتُوني في أمري. ما كنتُ قاطعةً أمرا حتى تشهدونِ. قالوا نحن أُولُوا بأسٍ شديدٍ والأمرُ إليكِ».
استدعت بلقيس عقول نخبتها. أرادت أن تستمع لمختلف وجهات النظر الممكنة وبالتالي تحديد التداعيات المحتملة لكل موقف قد تتخذه، ومن تم اختيار الرد المناسب على رسالة سليمان القوي. لكن أفراد هذه النخبة المستشارة قدَّروا منذ البدء أن المسألة مسألة حرب وعداء مطلق، فاستدعوا العضلات مباشرة. لم يفهموا أبعاد رسالة سليمان. اعتقدوا أن المسألة مجرد رغبة في السيطرة تخفي نية في توسيع رقعة مُلكه أو توسيع رقعة جباية المال الضريبي لمملكته. لم يلتفتوا إلى الفكرة التي شكلت روح رسالة النبي سليمان، والمتمثلة في ضرورة إقامة الحكم على الناس بصورة لا تعلوا فيها النخبة على العامة من خلال الاستكبار من جهة، وضرورة توحيد الله باعتباره منطلقا لتحقيق المساوات بين البشر وخلع صفة الألوهة عن الحكام من جهة ثانية. لكن بَلقيس رفضت استدعاء العَضلات العسكرية، وحدَست أشياء بين ثنايا رسالة الملك سليمان وقدَّرت، بحدسها ذاك، أن الأمر لا يتعلق فقط برغبة الطرف الآخر في الحرب والاحتلال. وعندما قالت «أفتوني»، فهي كانت تقصد أن الأمر يحتاج إلى التفكير وتبادل النظر وتدوير الزوايا. جمعت أمرها فأطلقت فكرتها الذكية والديبلوماسية « إني مرسِلةٌ إليهم بهَدية فناظرة بمَ يرجعُ المرسلونَ». أي: إني أريد أن أفهم نوايا الآخر العدو، إني أريد أن أفهم ماذا يريد تحديدا، ما هي غاياته السياسية، ما هي حدود الأخذ والعطاء لديه، إني أريد أن أعرف ماذا سنَـكسب من خلال التفاوض معه وماذا سنخسر في حالة الحرب ضده. سأبقي خيار الحرب آخر خِيار ممكن. نعم كان هذا لسان حالها.
وبالمناسبة، لقد جرب الثوار اليمنيون مع علي عبد الله صالح خيار الانفتاح إلى العدو/الخصم، فنجحت ثورتهم بعد أشهر قليلة من الحراك السلمي والصبر الجميل على اعتداءات السلطة وبأقل تكلفة بشرية ومادية وسياسية ممكنة [بغض النظر عما جرى لاحقا في سنة 2015]. وما زال البحرينيون يجربون هذا الخيار بعد حوالي 4 سنوات من حراكهم الشعبي السلمي بالرغم من الضحايا الذين سقطوا في طريق النضال السلمي والعدد الكبير من المعتقلين السياسيين والقمع الواسع. مع كل ذلك لم يلجؤوا إلى العنف واختاروا سبيل الانفتاح على المـَلك في المنامة. وما يزال أيضا إخوان مصر يعضُّون على الجراح العميقة، صابرين محتسبين، بِـنِية تجنيب البلاد وَيلات حرب أهلية لا تُبقي ولا تذر، وفي انتظار الانفتاح على سبل ممكنة لتجاوز المحنة بعيدا عن العنف العاري والمدمر. فضَّل إخوان مصر السجن على تفجير الوضع باللجوء إلى ردود الفعل العنيفة وغير المحسوبة، وذلك عملا بالحكمة النبوية «السجن أحبُّ إلي».
أما ثوار سوريا، فلم يستوعبوا هذه الحكمة البَلقيسية. استسهلوا دوامة العنف والعنف المضاد في البدايات الأولى للثورة. قالوا للعالم: صبرنا وصبَرنا إلى أن ضاقت صدورنا، فحملنا السلاح! ولكن الحقيقة غير ذلك. لم يكن عدد الشهداء الأوائل للثورة بالعدد الكافي الذي يشرعن الثورة المسلحة، كما أن الثورة لم تستجمع بعد، حينئذ، شروطها الكاملة، خاصة على صعيد الانتصار القيمي الواضح على النظام من جهة وعلى صعيد الحشد الشعبي الكبير القادر على خلخلة النظام ككل. كما أم الثورة لم تتوفر حينها على السلاح الكافي لتفجير ثورة مسلحة ولا على خطة مدروسة وموحدة لعسكرة الثورة.
سرعان ما تقاطعت الخطوط الإقليمية مع الوطنية (دخول دول الخليج والأردن وإيران ولبنان وتركيا وإسرائيل وأمريكا وفرنسا وبريطانيا على الخط)  [لا يجب أن ننسى أن من أوائل المدن التي تفجرت فيها الثورة المسلحة كانت درعا (إقليم في جنوب سوريا على الحدود مع إسرائيل وبالقرب من الحدود الأردنية-السورية!)]. تم تسخين هذه الخطوط بشدة، إلى أن تم دفع الواقع السوري إلى أَتُّون الحرب الأهلية التي شارك فيها - وما يزال - القاصي والداني، أفرادا وجماعات ودولا (من لبنان وتركيا، مرورا بالشيشان وأفغانستان، إلى أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية).
دارت الأرض بالجميع! فتحت تركيا أراضيها لمرور الإرهابيين والمتطرفين الآتين من أصقاع العالم، وُظفت الجبهة الشمالية-الشرقية للبنان والجبهة الشرقية للأردن لإدخال السلاح والمقاتلين العرب، قسَّم حزب الله بندقيته بين جبهة الصراع مع "إسرائيل" والمستنقع السوري، توافد المرتزقة من الشيشان وأفغاستان، سهَّلت أوروبا وأمريكا ما أمكنها ذلك توافد شبابها المتطرف وغير المندمج في النسيج الغربي والمنتمي للجاليات العربية إلى جانب إرسالهما لعملاء وكالات الاستخبارات). وانخرطت معظم هذه الدول، إلى جانب أغلب الدول العربية، في توفير الغطاء السياسي، والدعم اللوجستيكي والحشد الشعبي والتدريب والتزويد بالسلاح بالموازاة مع التغطية الإعلامية غير المهنية والتحريضية والمعبئة للعواطف ضد النظام السوري وحلفائه. ولاحت في الأفق بوادر حرب مذهبية سنية-شيعية، جرى تغذيتها من من قبل قنوات تلفزية تبث برامجها من داخل بريطانيا على وجه الخصوص.
وهكذا، توالت الأيام والأحداث والمواقف والمعارك إلى أن أخذ الإرهابيون والمتطرفون داخل سوريا موقع الثوار والمجلس الثوري المقيم خارج سوريا (أين هو الجيش الوطني الحر، الدراع العسكري للائتلاف السوري المعارض؟!  لا ذكر له حتى في قناة الجزيرة!). تفرقت القوى المسلحة المعارضة في الداخل إلى مئات الفرق، أقواها وأكثرها حضورا على الأرض وفي المعارك «جبهة النصرة» (ممثل تنظيم القاعدة المتطرف في سوريا) وتنظيم «داعش» (نسخةٌ ما بعد-قاعدية، أشد تطرفا ووحشية). ثم سرعان ما تمددت رقعة الأعمال الإرهابية لتغطي مواقع قريبة من سوريا (لبنان، تركيا، دول الخليج، ليبيا ومصر) وبعدها مواقع أبعد بكثير وصلت إلى دول أوروبا (فرنسا وبريطانيا) التي سلحت ودعمت هذه التنظيمات الإرهابية نفسها لتدمير الدولة السورية. انقلب السحر على الساحر، فدارت الأرض أكثر بالجميع. فصاح العالم بأسره: نحن في خطر! وها نحن قد وثلنا إلى خطة ديميستورا، مبعوث الأمين العام للأمم المتحدة لتسوية النزاع في سوريا، التي أُطلِق عليها اسم: «داعش أولا».
لم يع المعارضون السوريون حكمة بَلقيس، المرتكزة على ضرورة تجنب قدر الإمكان الدخول في دورة العنف والعنف المضاد، فسقطوا في فخ العنف وأسقطوا الجميع معهم. ما نصيب الشعب السوري من هذا كله: حوالي 250 ألف قتيل، أزيد من مليون جريح، حوالي 4 مليون لاجئ، ما يزيد على 7.6 مليون نازح [هذه آخر إحصاءات هيئات الأمم المتحدة]، خراب في كل مكان، قتال عنيف وهدام بين أصدقاء الأمس (بين فصائل المعارضة السورية في حلب وفي دير الزور وفي غيرهما)،

الحكمة السياسية الثالثة: التفاوض ليس جريمة
قالت الملكة: «إني مرسلة إليهم بهدية فناظِرةٌ بِـمَ يرجعُ المرسلونَ». سأفتح بابا لذهاب وإياب المعلومات والعمل الديبلوماسي. ما الذي يريده بالضبط الملك سليمان في الجهة المقابلة؟ هل يغلب عليه الطمع أم الاندفاع أم حب الملك أم ماذا؟ أهو فعلا نبي أم مجرد مدعي للنبوة؟ أهو مستكبرٌ أكثر منا على عكس ما يدعوننا إليه من تواضع في حق الرعية؟ هل سيلجأ إلى المناورة بهدف تحطيمنا حتى ولو أبْدَينا استعدادنا للجلوس على طاولة الحوار؟. نعم، لم تتردد الملكة في طَرق باب التفاوض أولا. فلا يخاف من التفاوض والحوار إلا الضعفاء ولا يرفضه إلا المستكبرون. كيف أرفض الحوار – أنا الملكة الحكيمة بَلقيس – على الرغم من أني لم أستوضح بعد نواياه الحقيقية؟!. كان هذا مسلك الملكة.
بينما ذهبت المعارضة السورية عكس هذا المنحى؛ إذ أغلقت كل أبواب التفاوض منذ الفجر الأول للثورة. مأخوذة بحماس زائد ولَّده إسقاط زين العابدين في تونس والزخم الثوري الكبير في مصر وتحرك باقي الساحات العربية، ركـبت المعارضة السورية أنفها، وقالت: دقت ساعة النصر! بيد أن توقعها ذلك لم يبرح مدى أنفه نفسه.
ويجدر التذكير هنا أن السيد حسن نصر الله كان قد تدخَّل، ومنذ الأيام الأولى للحراك الشعبي في سوريا، لدى الرئيس بشار الأسد داعيا إياه إلى ضرورة إدخال إصلاحات عميقة على النظام القائم والانصات للمطالب الشعبية المعبَّر عنها في الشارع السوري. قبِل بشار الأسد الطلب، وأبدى عزمه بأخذ الإصلاحات إلى أبعد مدى عبر تعديل الدستور وخاصة المادة-العقدة فيه، المادة 8، التي رهنت تاريخ الدولة لحزب البعث (مادة في مرتبة الفصل 19 من دستور المغرب السابق لسنة 1996). لكن حينما حمَل السيد نصر الله هذه الأفكار الاصلاحية الجريئة التي تمس جوهر النظام السياسي إلى ملعب المعارضة، داعيا إياها إلى الجلوس على طاولة الحوار لإجاد صيغة جديدة للمعادلة السياسية في سوريا، رفضت هذه الأخيرة العرْض، وركِـبت موجة القطيعة.
لا نفهم لماذا رفضت المعارضة هذا العرض! ما نعلمه بالتحديد، هو أنها اليوم تتحمل الجزء الكبير من عواقب الرفض، وبذلك فإنها سجلت في تاريخها مشهدا من عدم النضج السياسي، ورَّط سوريا في ما لا تُحمد عقباه.
من موقع التجارب الميدانية، أستطيع ان أؤكد أن الكثير من المتحمسين قد يبادروا إلى رفض هذه المبادرة أو تلك لا من موقع العلم بل من موقع الجهل. وهناك من يرفض هذه المبادرة أو تلك فقط لأنه لا يريد أن يظهر بمظهر العاجز عن إقامة مفاوضات جادة مع الخصم/العدو. في تنسيقيتنا المحلية لحركة 20 فبراير، كنا قد تبنينا بعض المطالب لمجموعة من السكان الفقراء القاطنين على هامش مدينتنا بعد أن استفاقوا على فواتير صادمة – وفي حالات خيالية - لخدمة الكهرباء التي طالبتهم السلطات المعنية بأدائه مبالغها. وهكذا، شرعنا في التخطيط للنزول للتظاهر احتجاجا على سوء إدارة المكتب الوطني للكهرباء. عندما أُطلع المسؤولون من قبل "أصحاب الحال" على نيتنا تلك، أرسلوا في طلبنا للتفاوض بشأن الموضوع. قلة منا قبلت التفاوض (كنت واحدا منهم)، بينما رفضت أغلبيتنا ذلك. أثناء النقاش الداخلي لحسم موقفنا من عرض التفاوض، لم يبد المعارضون للتفاوض أي أفكار جادة أو وجيهة وفضلوا تصعيد الصراخ الفارغ. وفي الأخير، تم رفض عرض التفاوض. لكن أثناء النقاش الداخلي لاحظت الكثير من الأشياء من بينها أن كثيرين من فئة الأغلبية المعارضة للتفاوض لم تفهم من الأساس معنى أن تفاوض حركتنا حول ملف مطلبي خاص بفئة محددة من أجل إيصال صوتها ومطالبها وتحقيق ما يمكن تحقيقه لفائدتها، وفي نفس الوقت يمكن أن نحتفظ بأشكالنا النضالية كما خططنا لها في حالة عدم الاستجابة بشكل يرضي الفئة المعنية! لكن ولأن أصحابنا هؤلاء اعتقدوا أن التفاوض سيطال مبادئ الحركة وتوجهاتها السياسية والحقوقية، شرعوا في التهويل من الأمر، كما لو أننا  سنُقبل على خيانة عظمى!
صدق من قال: الناس أعداء ما جهلوا !
وقبح الله جهل المعارضة السورية، التي قبلت التفاوض مع العدو الاسرائيلي ورفضت التفاوض مع النظام السوري!


الحكمة السياسية الرابعة: درء المفسدة أولى من جلب المصلحة
أتذكر أني في مقال سابق طرحت الأسئلة التالية على العلماء والشيوخ التي أيدت الحراك السوري بلا أدنى تحفظ يذكرر، وكأن الثورة السورية ثورة ملائكة:
لفائدة من تفتون عندما تمهدون الطريق لتدمير البلدان الإسلامية الواحدة تلو الأخرى؟
كيف تنامون ملء جفونكم بعد أن دفعتم، بصورة عبثية وغير مسؤولة، عشرات الألاف من شباب المسلمين في أتون معارك على الأرض السورية بلا أفق سياسي واضح أو مشروع وطني بديل أو خطة ثورية موحدة، وبعد أن حشرتموهم في مثلث براميل النظام السوري الحارقة، خطط السعودية الظلامية، ومساعدات أمريكا التي تلعب على توازن معادلة «سلاح النظام- سلاح المعارضة» بغاية إنهاء كِلا الطرفين لتخرج هي وإسرائيل منتصرتين، بلا خسائر، في النهاية؟
أكثر من هذا أرسلت مجموعة من هذه الأسئلة ومن أمثالها إلى علامة جليل أقدره، وهو العلامة المقاصدي د. أحمد الريسوني. فما بلغني منه رد. لم ينبس ببنت شفة، كأن لسانه أصابه عقم الحديث أو كأن عقله سقطت عنه ملكة الفقه. لقد طرحْتُ هذه الأسئلة ضدا على تلك الأجوبة القرضاوية المتسرعة وغير العالمة والتي سرَت في نخبنا وشبابنا كما يسري الغضب في عروق المتعصبين، فما تركَت لهم فرصة لتنفس الهواء النقي بعيدا عن العصبية المذهبية والتفكير السطحي والفتاوى العمياء.
يا ليت علمائنا كانوا من المقتصدين في فتاوى الفتنة والشحن الطائفي. فالاقتصاد فيها من التقوى.
وعلى عكس هذا العبث السياسي واللغط الفتوائي، رفضت بلقيس أن تنطلق من الجانب الانفعالي والسلبي للمسألة. لم تر المصلحة في دق الطبول أولا. لم تر المصلحة في إعلان الحرب. بل رأت أن الحرب سيناريو خراب من أوله إلى آخره. حاولت أن تفهم أولا. فالعمل السياسي قبل كل شيء هو فن الممكن. بحثت عن الممكن الذي يدرأ المفسدة الكبرى – مفسدة تحطيم الدولة وشعب الدولة(= تحطيم القرية)، ومفسدة إذلال النخبة الحاكمة (الملِكة والملأ).
...
وما إن تحسست قوة الخصم وشجاعته وبلَـغَـتْها حجته ومنطقية دعوته، حتى انحازت إلى الموقف الحكيم «قالت: ربي إني ظلمت نفسي وأسلمت مع سليمان لله ربِّ العالمين» الآية 44.
أيضا، في هذا الامتحان سقطت المعارضة السورية. ولم تسعفها فتاوى فقهاء وزارات الخارجية الخليجية.
لم يجلب الثوار أي مصلحة للشعب السوري أو لسوريا الدولة التي سعوا إلى التربع على عرشها. بل على العكس، جلبوا لهما مفاسد أكبر وأفدح.
لم يفهموا أن للثورة أخلاقها. أخلاق تتعالى على أخلاق الخصم/العدو (النظام) وليس العكس.
قطعوا الماء الشروب على الأهالي (في دمشق وحلب)، قصفوا المدنيين (كما فعل النظام)، قطعوا الرؤوس وأكلوا الأكباد (ما لم يفعله النظام حتى)، اغتصبوا النساء، استعملوا المواد الكيماوية (كما فعل النظام على حد قولهم وقول العديد من المنظمات الدولية)، انتهكوا حريات وحقوق الانسان بشكل رهيب ضد كل الطوائف الدينية والمذهبية [خاصة ضد الأقليات المسيحية والأزيدية والدرزية والجعفرية]، فجروا المساجد والكنائس والأضرحة (وهو ما لم يفعله النظام)، قتلوا علماء الدين لمجرد أنهم عبروا عن آراء مخالفة (كان من بينهم العالم الجليل البوطي رحمه الله)، قصفوا المدن والقرى بالصواريخ وقذائف الهاون (تماما كالنظام الذي رمى البراميل المتفجرة من الطائرات)، هجَّروا الناس من بيوتها قسرا، نهبوا وفجروا ودمروا الآثار التاريخية (وهو ما لم يفعله النظام)، قتلوا أسرى – بعضهم طاعنين في السن - بدون محاكمات (كذلك فعل النظام)، تعاونوا ونسَّقوا وتعاملوا مع عدو محتل لجزء من تراب سوريا الوطني، أي الجولان (وهو ما لم يفعله النظام)،...
هل بقي شيء لم تقترفه هذه المعارضة التي تريد أن تقنعنا بأنها بديل متعالي على ظلم ووحشية النظام القائم!
ما هي المفسدة التي تجنبتها هذه المعارضة حتى نعترف بشرعيتها وثوريتها وتمثيليتها للشعب السوري؟! أم هل أن الشعب السوري هو فقط ذاك الذي يقبل بهذا النوع من المعارضة، والباقي يستحق الذبح كما يُذبح الدجاج، تحت شعار "بالذبح جئناكم"؟!
لقد أراد الله تعالى أن يذكرنا بمواقف الملكة بلقيس، لا ليسرد لنا قصة أخرى من قصص انتصار المؤمن سليمان على الكافرة بلقيس. لا أعتقد ذلك. لقد وقفت الآيات على حكمتها أكثر مما وقفت على كفرها. ووقفت على انفتاحها على الواقع ومعطياته أكثر مما وقفت على تمسكها بمعتقداتها السابقة. كأن الله يريد أن يقول لنا، من خلال قصتها، إن الانفتاح على الخصم/العدو قد يكون فيه دفع لمفسدة عظمى تعادل جلب مصلحة عظمى. فالانفتاح على الخصم/العدو ليس خسارة بالضرورة.
ومن اللطيف أيضا أن نجد الآيات قد وقفت على أدبِها في التعاطي مع خطاب الخصم/العدو : "يا أيها الملأ، إني ألْقيَ إليَّ كتابٌ كريم"!، الآية 29.

...

أن يكون سعيك لتخليص الدولة والشعب من يد النظام السلطوي مدخلا لتسليمها، بالنتيجة، إلى تنظيمي داعش والقاعدة الإرهابيين، يعني أن نهجك يستدعي الرفض. وكما يجب على كل شريف أن يدين تاريخا طويلا من السلطوية البعثية، وتاريخا مستجدا من الوحشية الداعشية والقاعدية، يجب عليه أيضا أن يدين نهج المعارضة الساذج واللاأخلاقي في شقيه السياسي والمسلح!
...
لا نريد من المعارضة أن تُسْلِـم مع بشار لله رب العالمين – على غرار ما فعلت بَلقيس. نريدها فقط أن تعلم أن الطريق إلى الله بعدد الأنفس. وأن الطريق إليه تعالى لا تمر بالضرورة عبر العنف العاري من كل شرعية ثورية أو عبر التحالف مع أعداء أمتنا، وفي مقدمتهم أمريكا وإسرائيل. نريدها أن تجرب الممكن في السياسة وفي الشريعة. فبقدر ما تُوَسع السياسة خيارات الممكن، توسع الشريعة مساحة المصلحة.
لكن لا حياة لمن تنادي!
...
مع ذلك، ما زال أملنا في الربيع العربي قائما، ما دام للحكمة مكان في أرواحنا، وما دام التاريخ يُذَكرنا بأنه في يوم من الأيام كانت هناك قصة استحقت أن تُروى، هي قصة الملكة بَلقيس مع النبي سليمان (ع)!

(الإهداء: إلى إيمان لغريس. دامت صرختك اللذيذة والمربكة، في آن، لنا كشعب ووطن،
أنتِ التي ترتشيف، البارحة واليوم وغدا، ضدا عن التيار الجارف والهدام، من حكمة بَلقيس !)

29، 8، 2015.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق