حيدر ابراهيم علي
برزت ضمن الحملة ضد «داعش»، أصوات تؤكد ضرورة الحرب الفكرية، باعتبار أن القوة العسكرية لا تكفي لهزيمة التنظيم. لكن «داعش» استبَق الجميع، واختار سلاحاً مختلفاً وفاعلاً استهدف قصف العقل السوداني، وفضح نخبة البلاد وفئاتها الاجتماعية الوسطى الحديثة، بسبب عجزها عن ملء الفراغ الفكري والروحي.
فقد تفاجأ المجتمع السوداني في آذار (مارس) الماضي، بخبر وصول 11 طالباً الى الحدود التركية - السورية، في طريقهم للانضمام الى التنظيم. وزاد من عظم الفاجعة والدهشة أيضاً، أن 8 منهم من طلاب جامعة العلوم الطبية، وهي حكر على أبناء الطبقة الغنية الجديدة وأبناء المغتربين. وكلّهم أبناء أطباء مختصين وبناتهم، وأفراد من أعلى مراتب التكنوقراط. وجدير بالذكر أنهم حصلوا على جوازاتهم البريطانية لأن ولادتهم كانت أثــــناء وجود آبــــائـهم هنـاك كمبعـوثـيـن للدراسة، أو في الفترة الأخيرة كلاجئين.
كان التحليل النمطي يُرجع أسباب اختيار الشباب التنظيمات المتطرفة والإرهابية الى الفقر، والى أصولهم الطبقية المتدنية وتهميشهم الاجتماعي والسياسي. لكن هجرة أبناء النخبة أو القوى الحديثة، وفق القاموس السوداني، الى «داعش»، تدحض فرضية الفقر والتهميش كمبرر للتطرف. فكل هؤلاء الطلاب من أسر تنتمي الى الطبقة الوسطى العليا، ويعتنق ذووهم الأفكار اليسارية والليبرالية. فمن أين أتى هذا الخلل؟
أولاً، هم ضحايا انهيار سُلّم القيم داخل نظام يدّعي تقديم مشروع حضاري إسلامي. لكن المشروع، للمفارقة، قاد إلى قيام دولة تعتمد على تساكن أو تداخل غريب بين انتشار التديّن الشكلاني والمظهري والفساد والاستهلاكية والضعف الأخلاقي، في مجتمع وُعد بالطهارة ومكارم الأخلاق. فكان عليهم أن يعيشوا ضمن هذا التناقض على مستوى المجتمع العام. فقد ساعد النظام على هيمنة ثقافة ركيكة تُخيّر الشباب بين قناعات التعصّب الديني الذي يبثّه الدعاة المتزمّتون في دور التعليم وأجهزة الإعلام، وبين الانحطاط الثقافي ممثلاً في الأغاني الهابطة والرقص الخليع والكتابات السوقية. وفي الوقت ذاته، حصل منع تام لوصول الثقافة الجادة من كتب وفنون وغيرها من الوسائل الثقافية الرفيعة.
أما داخل أسرهم الصغيرة، والتي يُفترض بأربابها القيام بتنشئة جيدة لأبنائهم وبناتهم وسط العواصف الثقافية التي أطلقتها العولمة، فكانت اللامبالاة والإهمال سائدين. وهنا، تجلّى عجز النخبة السودانية، وهي في أصل تكوينها بورجوازية صغيرة مترددة، في تقديم القدوة والنموذج أخلاقياً وإنسانياً. فهؤلاء الشباب يشاهدون يومياً، التناقض الساطع بين الفكر والممارسة لدى الآباء والأمهات «المثقفين»، فهم لا يلمسون وجوداً لأفكار ذويهم الحديثة في الحياة المَعيشة. وفي الوقت نفسه، لم يكن لأولياء الأمور الوقت الكافي للتفاعل المستمر مع أفراد الأسرة، لأنهم مشغولون في العمل بالعيادات الخاصة أو البحث عن مصادر دخل إضافي للتباري في تشييد المنازل الفخمة وتجديد موديلات السيارات، وغيرها من مظاهر استعراض البذخ. كما أن بيوت هذه الفئة على رغم ترفها، غالباً ما تخلو من مكتبة منزلية.
وكان من الطبيعي أن يجد هؤلاء الشباب أنفسهم في تخمة مادية وجوع فكري، وكان هذا هو مدخل «داعش»، مع غياب دور أسرهم في تزويدهم بأسلحة فكرية في مواجهة الحياة. ويتعرف الشباب الى الفكر الظلامي من خلال وسائل التواصل الاجتماعي، ووجود دعاة متعصّبين في الجامعات، تشجّعهم الإدارات في نشاطهم بقصد إبعاد الطلاب من الانتماءات الحزبية والأيديولوجية خشية تحوّلهم الى معارضين للنظام. وهم، في النهاية، اعتقدوا أن «داعش» قد ينقذهم من الفراغ الفكري والروحي، وينتشلهم من هذه الحياة المادية الاستهلاكية المظلمة. فقد صرّح أحدهم، وهو طبيب شاب، بأنه ورفاقه متطوّعون للعمل مع التنظيم لأنهم ضد «الماديات».
أعود مرة ثانية الى التديّن الشكلاني أو المظهري، فهو السبب الأساس في تفسير اختراق «داعش» عقول شباب النخبة السودانية، وانتصاره السريع في المعركة الثقافية حتى الآن. فهؤلاء الطلاب الذين اختاروا «داعش»، وغيرهم ممن ينتظر، هم في الواقع حيارى أمام النفاق الذي يلفّ مجتمعاتهم، والازدواجية الأخلاقية التي غدت سمة غالبة. إذ بينما تمتلئ المساجد بالمصلّين، وتتنافس الجموع على أداء شعائر العُمرة سنوياً، تظلّ المجتمعات الإسلامية تسجّل أعلى نسب التحرش الجنسي، والرشوة، واختلاس المال العام، والغش والكذب. ويكتفي من يتصدّون لهذه الظاهرة ممن يسمون أنفسهم بالمعتدلين والوسطيين، بالقول للشباب: ليس هذا هو الإسلام الصحيح. لكن حيرة الشباب تتزايد، وقد يتساءلون بذكاء: ولماذا يتوارى ذلك الإسلام الصحيح ولا ينتشر بين الناس، بينما يُفسح في المجال لتديّن شكلاني ومظهري لا ينبع من القلوب ولا يؤسس لمجتمع فاضل وصادق؟
وهنا، يتجلّى قصور دولة
المشروع الحضاري في تجديد الفكر الديني. لكن العكس هو الصحيح، فهذه الدولة
تحارب أيّ فكر ديني تقدّمي بديل قد يهتم بقضايا التغيير الاجتماعي والحرية
والعقلانية. فمثل هذا الفكر يكشف كيف يتم تزوير الإسلام واختطافه، وتوظيفه
في التمكين وتجديد الاستبداد وتديينه. ومن المؤسف أن المفكّرين الإسلاميين
المعارضين لتلك التوجهات والسياسات، لا يقومون بجهد فكري جاد وعميق في
الدفاع عن إسلام متجدّد وعصري يقنع هؤلاء الشباب الذين يصطادهم «داعش»
بسهولة. ويكتفي الإسلاميون المخالفون بإطلاق الشعارات، ويلجأون الى تفسير
أو تأويل النصوص الدينية بطريقة مفتعلة تقف عند حدّ القول، مثلاً، أن
الإسلام لا يتعارض مع الديموقراطية أو حقوق الإنسان. وهذه شعارات بلا تنظير
واضح يعتمد على النصوص من كتاب وسنّة مطهرة، وبلا استقراء للتاريخ
الإسلامي. وبالطبع، فالأهم من ذلك هو الممارسة، إذ لا يكفي مثلاً القول أن
الإسلام سبق الغرب في الدفاع عن حقوق الإنسان. فالمطلوب وجود مسلمين
مدافعين حقيقيين ونشطين في فعاليات حماية كل أشكال الحريات.
لقد كسب «داعش» معركته الثقافية في السودان، ليس لأنه نجح في تقديم الدين للشباب بطريقة مقنعة أفضل، وليس لأن هذا الفهم للدين، كما يقول البعض خطأً، يلبّي ميول الشباب الى العنف والبطولة. فظاهرة الهجرة إلى «داعش» أكدت حقيقة أن النخبة السودانية حصراً محكومة بأصولها كبورجوازية صغيرة مرتعشة، بمعنى أنها لم تحسم مواقفها الفكرية. فهي على رغم تعليمها الحديث، اتّسم تفكيرها وعقلها بالتقليدية والمحافظة والخوف من المغامرة، حتى لو قالت لفظياً غير ذلك. هكذا تعاملت مع قضية الدين بكثير من التردد والغموض.
لذلك، لم تجد أفكار «داعش»، وقبله التنظيمات المشابهة التي تختلف عنه في الدرجة فقط وليس في النوع، أيّ مقاومة تذكر مما يسمى بالقوى الحديثة السودانية، بخاصة الإسلاميين المعتدلين والوسطيين، الذين تقاعسوا عن تجديد الفكر الديني مقارنة بنخب أميركا اللاتينية التي وصلت بالكاثوليكية إلى قلب لاهوت التحرير.
لقد كسب «داعش» معركته الثقافية في السودان، ليس لأنه نجح في تقديم الدين للشباب بطريقة مقنعة أفضل، وليس لأن هذا الفهم للدين، كما يقول البعض خطأً، يلبّي ميول الشباب الى العنف والبطولة. فظاهرة الهجرة إلى «داعش» أكدت حقيقة أن النخبة السودانية حصراً محكومة بأصولها كبورجوازية صغيرة مرتعشة، بمعنى أنها لم تحسم مواقفها الفكرية. فهي على رغم تعليمها الحديث، اتّسم تفكيرها وعقلها بالتقليدية والمحافظة والخوف من المغامرة، حتى لو قالت لفظياً غير ذلك. هكذا تعاملت مع قضية الدين بكثير من التردد والغموض.
لذلك، لم تجد أفكار «داعش»، وقبله التنظيمات المشابهة التي تختلف عنه في الدرجة فقط وليس في النوع، أيّ مقاومة تذكر مما يسمى بالقوى الحديثة السودانية، بخاصة الإسلاميين المعتدلين والوسطيين، الذين تقاعسوا عن تجديد الفكر الديني مقارنة بنخب أميركا اللاتينية التي وصلت بالكاثوليكية إلى قلب لاهوت التحرير.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق