عمر بلافريج
لم يعد بوسع أحد أن يقول إن بلادنا واحة للسلام والتسامح، بعد أن تواترت حوادث انتهاك الحريات في الفترة الأخيرة. يمكننا
أن نخلص لهذه النتيجة، بالنظر إلى سلسلة الوقائع الخطيرة والمتفرقة، التي
حصلت في أقل من شهرين. في 5 مايو الماضي بأكادير، منع القضاء شابا مغربيا
من الزواج بسيدة أجنبية بمبرر أنه كان «من عبدة الشيطان»، في صغره. في مايو
دائما، تعرض فيلم «الزين اللي فيك» للرقابة، وممثلوه لتهديدات بالقتل. في
22 من الشهر نفسه، تمت إدانة 3 مغاربة بتهمة المثلية الجنسية، وحكم عليهم
بالسجن النافذ لثلاث سنوات. في
14 يونيو الماضي، تم توقيف فتاتين في إنزكان بدعوى أنهما كانتا ترتديان
«صاية». في 30 يونيو، تعرض شاب يفترض أنه مثلي، لاعتداء جماعي من طرف جمهور
هائج في فاس، ثم اعتقل من طرف الشرطة. بالموازاة
مع ذالك، هناك الحوادث اليومية التي نلاحظها جميعا، مثل قصة الفتاة التي
نالت شتائم بعض المتسكعين، لأنها كانت تدخن سيجارة في شرفة بالطابق السادس
لعمارة، في نهار رمضان. أو حالة هذه الفتاة، ذات الـ14 ربيعا، التي طردت من
الشاطئ بداعي أن ليس من حقها السباحة في هذا الشهر المقدس. أو هؤلاء
الشباب من مشجعي أحد أندية الكرة الذين رفعوا شعارات تمجد «داعش»… يدق
الكثير من المناضلين، منذ مدة طويلة، ناقوس الخطر ويحاولون إثارة الانتباه
لكون الدين الإسلامي أصبح يُعاش اليوم، في بلادنا، وكأنه أداة للقمع، أكثر
منه وسيلة لتلبية حاجات روحية. أجل، يجب أن نقولها بوضوح، مجتمعنا يعيش
أزمة قيم. أزمة نموذج مجتمعي. فالنموذج المتبع في المغرب غير منسجم، بل
خطير. نموذج يبدو أنه يهدف إلى تحقيق «التقدم» على المستوى الاقتصادي مع
رفض التقدم على مستوى الحريات، ورفض التقدم المجتمعي والسياسي. هذا
النموذج خطير، لأن التحول الاقتصادي يفرض تغييرات سريعة في نمط العيش
ويخلق توترات اجتماعية جديدة، وإحباطات جديدة، يمكن أن تؤدي إلى الانفجار،
إذا لم يرافقها تقدم سياسي، اجتماعي، ومجتمعي. أسباب أزمة المحافظة التي
نعيشها تكمن تحديدا، في رأيي، في هذا النموذج المجتمعي السائد حاليا. أما الحلول اللازمة للخروج من هذه الأزمة، فتكمن في تغيير هذا النموذج. أغلبية
كبيرة من مواطنينا، ومن ضمنهم أغلبية حكامنا، تتشبث بالدين، بمعناه الضيق،
بمبرر الحفاظ على ثقافتنا وتقاليدنا، وخوفا من الذوبان في «الثقافة»
الغربية. وذلك بدل التفكير في ما تعنيه فعلا التقاليد والثقافة، وما يمثله
حقيقة هذا المجتمع الغربي، الذي يبدو أنهم يكرهونه، دون محاولة تحليله أو
النظر لما يتضمنه فعلا من إيجابيات وسلبيات. يجهلون
أننا نعيش أصلا، جزئيا، وفقا للنمط الغربي وأن المشكل الحقيقي هو أننا
أخذنا الجانب السيئ من هذا النمط، بل ذهبنا فيه إلى أبعد الحدود، وتجاهلنا
جانبه الأفضل. أخذنا جانب الفردانية المتطرفة والاستهلاك الغزير، في بعدها
التقني الذي يكون في خدمة المال فقط، وليس في خدمة الإنسان، وأعرضنا عن
الوجه المشرق للغرب الناشئ عن قرون من الصراع السياسي، الاجتماعي،
والمجتمعي. هذا الوجه المشرق الذي أفرز لنا حرية التفكير والعمل من أجل
المصلحة الفردية والعامة، وما نتج عنها من حقوق التعليم للجميع، الصحة
للجميع، الأمن، الدخل الكريم، التنقل للجميع، العطل المؤدى عنها، الثقافة
للجميع… أغلبية كبيرة من
مواطنينا تحلم بشراء هاتف «آيفون»، لكنها تجهل أن الولايات المتحدة
الأمريكية هي واحدة من الدول الأكثر إنفاقا على تعليم أطفالها، وأن 90 في
المائة منهم يخوضون تعليمهم الابتدائي في مدارس عمومية. أغلبية
كبيرة من مواطنينا تحلم بشراء سيارة «مرسيدس»، لكنها تجهل أن ألمانيا هي،
أساسا، بلد يتوفر على واحد من أفضل أنظمة الحماية الاجتماعية العمومية في
العالم. أغلبية كبيرة من
مواطنينا، عندما تفكر في سويسرا، يتبادر إلى ذهنها الحلم بالمال والساعات
الجميلة، لكنها تجهل أن المواطنين في هذا البلد يملكون حق تشريع القوانين،
أو إلغائها، من خلال توقيع العرائض. أغلبية
كبيرة من مواطنينا تشعر بالسعادة لرؤية القطار فائق السرعةTGV في المغرب،
لكنها تجهل أن فرنسا، هي أولا، بلد يتوفر على أحد أكثر أنظمة النقل العمومي
جودة وتعميما في العالم. هذه
بعض الأمثلة فقط، للدلالة على المشكلة التي نواجهها عندما نطرح موضوع الغرب
والعالم العربي، وهذا الخوف غير العقلاني الذي يشعر به الكثير من مواطنينا
إزاء تغريب نمط عيشنا. إننا نعيش، جزئيا، على النمط الغربي، لكن مع الأسف
وفقا للجانب السيئ فقط، لهذا النمط. معظم مواطنينا يريدون الاستهلاك على
الطريقة الغربية، الاستفادة من التقدم التقني والعلمي الغربي، لكنهم لا
يريدون أن «يقلدوا» الغربيين في طريقة امتلاكهم للحرية، أو ربما يتجاهلون
ذلك. بينما هذه الحرية، هي التي يعود لها الفضل، تحديدا، في تمكين الغربيين
وكل البلدان المتطورة اليوم، من بناء قوتها واستقرارها. دون حرية، ما كان
يمكن إطلاقا أن تقع الثورة الصناعية في القرن 19 بأوروبا. دون حرية ووعي
بالمصلحة العامة، ما كان يمكن إطلاقا أن تستطيع الولايات المتحدة الأمريكية
الاستثمار في تعليم أبنائها واستقطاب هذا القدر الكبير من المواهب. بيل
غيتس، ستيف جوبز، ليسا سوى الحلقات الأخيرة من هذه المسار الطويل من
الإنجازات المرشح للاستمرار، بفضل الحرية، حرية الإبداع وحرية التفكير.
هناك حل واحد للخروج من الأزمة الحالية: التوجه دون خوف نحو الحداثة
السياسية والمجتمعية. كما يقول بذلك، الكثير من الوطنيين منذ زمان، يجب
إطلاق انتقال حقيقي، عاجلا، نحو الحداثة السياسية والمجتمعية. الحداثة
السياسية لها اسم واحد كوني، ألا وهو الديمقراطية. والديمقراطية لا تتجسد
فقط، في سلطة صناديق الاقتراع وسلطة الأغلبية، بل أيضا – وأساسا – في
احترام الأقلية، وفي تأسيس النقاش السلمي بين جميع أطراف المجتمع. أما
الحداثة المجتمعية فتتجلى في قبول النقاش الفكري، دون أي «طابو» وأي حدود،
بإعطاء الوقت الكافي للمقاربة البيداغوجية، والتفكير الهادئ، وبإرادة
البناء، بناء مجتمع أفضل للجميع، يصبح فيه التطلع لتحقيق السعادة الفردية
أمرا مشروعا للجميع. يجب علينا أن نفتح هذا الورش في المغرب، حالا. هذا
ليس مستحيلا، أو غير ممكن. لنتذكر أننا عشنا، بعد 20 فبراير والخطاب
الملكي لـ9 مارس، فترة انفتاح وجيز استمر لبضعة أسابيع. لأول مرة منذ
الاستقلال، كان لجميع مكونات مجتمعنا الحق في الظهور والتعبير عن نفسها. من
خلال بضعة برامج تلفزيونية، والكثير من الندوات، إذ انخرطت جميع التيارات
في النقاش والمناظرة حول طريقة جديدة لبناء مجتمعنا. بيد أن هذا القوس
سرعان ما أُغلق، مع الأسف، خاصة بمناسبة الحملة التي سبقت الاستفتاء على
الدستور، وكانت أسوأ حملة يمكن أن يأملها المرء، إذ كان الإجماع عنوانها
الأساسي. في حين أن الإجماع هو عدو الحرية. لي
اليقين أننا نستطيع، جماعة، أن نفتح نوافذ جديدة. هذا هو معنى التزامي.
أناضل في إطار هذا الأفق، وأرغم نفسي على العمل والتجريب، أينما استطعت، في
حياتي اليومية، في عملي، وفي التزامي بجانب المواطنين، لأثبت أن نموذجا
آخر ممكن.
عن موقع: اليوم 24
في: 9 يونيو 2015
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق