في السيرة العلمية للفقيه عبد القادر باينة - القلم 3000

اَخر المشاركات

القلم 3000

مدونة القلم 3000، متخصصة في قضايا الفكر والشأن العام وفن العيش.

الخميس، 4 يونيو 2015

في السيرة العلمية للفقيه عبد القادر باينة

فؤاد بلحسن

(رئيس منتدى الباحثين في العلوم الإدارية والمالية)

ألقيت هذه الكلمة خلال اللقاء العلمي الذي نظمه المنتدى احتفاء بالتجربة

 الكتابية  للسيد عبد القادر باينة، الفقيه في القانون والعلوم الإدارية

 


بسم الله تعالى.
أحيي العمادةَ وشعبة القانون العام على دعمهما المتواصل لأنشطتنا العلمية، كما أحيي مختبر القانون العام والعلوم السياسية على هذا التنسيق المثمر.
شكرٌّ خاصٌ لجميع الأستاذة الحاضرين بيننا. وجودُكم زاد اللقاء تألُّقا وزَيْـناً.
أشكر الحضور الكريم الذي لم يُخلف، كعادته، الموعدَ، فكانت أنشطتنا، على الدوام، به ومعه أنجَح وأمتعَ.
في كلمتي هذه، سأوجِزُ، غير أني سأحْتاطُ خَشيةً من كل اختزالٍ مُخِل. فأستاذي الفقيه عبد القادر باينة، بثَرائِه وتعدده، يجعلني أحذَرُ أكثرَ لألاَّ أُقَصرَ فأظلمَـه حقَّهُ.
في البدء، أقُِر أنه طَلَب، بأدب جمٍّ كعادته، أن يُجرى لقائُنا هذا خارج عنوان «التكريم». لكن، كيف يستقيم الحديث عن رجل بقامَـتِه وقِـيَمِه خارج مفردات الثـناء، الإعجاب والتقدير! كان طلبُه بمثابة مأزقٍ! والآن، أعترف أننا، وعبر لعبة استبدال الكلمات، قفزنا على عبارة التكريم، من خلال عبارة الاحتفاء - كحيلة قد يغفرها لنا- لنحرر ألسنتنا ونُقدم شهادة تليق بشخصه.
في الدرس، في التأليف، في الحوار وفي الخُلُقِ، يختلفُ الرجلُ ويمتاز. أما يدَه البيضاء فهي كنارٍ على عَلََم فوق الرؤوس تَسُرُّ الناظرين.
أزْيدَ من أربعين عاما من البحث والتدريس والتأليف عصِـيَّـةٌ على تراكيب الشعر بَلْه الارتجال. والعجيب الغريب، أن كل هذه السنواتِ من العطاء والإنجاز لم تنل من ذاته كإنسان يحترم ويُـقَدِّر آخَرَهُ؛ ولهذا كان وما يزال يُـربِكنا بتواضعه ويُـثير إعجابنا بانفتاحه اتجاه الغَيرْ؛ إذ نذكُر كيف كان يبدو الأمر نادرا ومُدهشا حينما كنا نسمع، على لسانه، مدحَه لزملائه الأساتذة ولـمَرَاجِعهم وذكرَه لمساهماتهم العلمية بإجلال كبير دون أن يلتفت لمساهمته العلمية خاصَّتِه. كما أن هذه السنوات من العطاء لم تنل من ذاته كإنسان لا يعيش لذاته حَصرا؛ ولهذا كان وما يزال يُحيـرنا بزهده؛ فهو لم يتزاحم مع المتزاحمين على سلالم الارتقاء الاجتماعي، كما أنه لم يشأ أو يحرص أو يسعى، في يوم من الأيام، إلى أن يكون حضوره هنا أو هناك، في هذه المناسبة أو تلك، موضوعا يستحق تسليط الأضواء.
حوالي عشرون مؤلَّفا استطاع من خلالها أن يجمع بين التنوع والعمق والجِدَّة والجودة. ولعل نجاحه في التوفيق بين حجم المؤلفات الكبير والغَوْرِ في الاستشكال يكفي دليلا على كونِه باحثا أبى على نفسِه أن يكون مجرد عابر على موضوعاته. ولذا، يجدر بنا، على سبيل المثال، أن نتساءل: كم احتاج مؤلَّفَه «تطبيقات القضاء الإداري بالمغرب» من ساعات عملٍ أو، إن تحريت الدقة، سنوات عمل!
إننا نتطلع، بشغف، إلى معرفة أسرار هذا المنجَـز البحثي الضخم. بيد أنه كيف لنا أن نتجاهل سر الأسرار الثاوي وراء هذه السيرة العلمية الكبيرة والجميلة معا والمتمثل في تثمين الأستاذ لـ «قيمةِ الجِدِّيَـة» في البحث، امتثالا لحكمة: "رحمَ الله امرأً عمِل عملا فأتقنهُ".
والملاحظ، أن هذا العطاء في مجال البحث ترافق مع سيرة طويلة وبديعة في التدريس ضمَّ خلالها مزايا يشِق ائْتلافها في الشخص الواحد.
فعلى صعيد تقدير طلابه، مثلاً، قدم السيد باينة نموذجا متألقا ومتقدما؛ انطلاقا من خَلقه فضاءً حقيقيا للنقاش التفاعلي المفتوح داخل فَصْله، إلى جعله الحريةَ في اختيار المراجع ومطالعتها قاعدة، وليس استثناء، في الدرس الجامعي؛ إذ لم يسبق له أن ألزَم، تصريحا أو تلميحا، طلابه بمرجع ما له أو لغيره. بل وحتى فيما يخص تقديم الواجبات المنزلية والعروض الشفهية والامتحانات الكتابية، تجده يخلق مناخا تشاوريا للتداول والتقرير بشأن مواعيدها وشروطها بما لا يُخل، طبعا، بالضوابط البيداغوجية المقرَّرةِ. كما أنه كان يجد من وقته وقتا كافيا للطلاب وهم يتحلقون حوله قبل وبعد الدرس.
وعلى صعيد ثان، وبالرغم من أنه كان منغمسا في عديد من الملفات والمسؤوليات السياسية-الحزبية، لم نلحظ يوما، أي جُـنوح من قِـبله، ولو على سبيل الإشارة، عن رسالته التعليمية إلى ما يَخدِمُ برامج أو أفكار سياسيةً-حزبيةً معينة. فقد استطاع الفَصلَ، في درسه، بين المعرفي والأيديولوجي بوعي ومسؤولية وجدارة.
و إذا تحدثنا في صعيد آخر عن ثقافة الاعتذار، نجد أنه كان متميزا هنا أيضا. يعتذر إذا حدَث وخرَجنا، وخرَج معنا؛ بسبب اندفاعنا الشبابي، عن موضوع الدرس. يعتذر -ويُخطر بالموعد الجديد مُسبقا- إذا أرجأ درسا علميا مَا. يعتذر إذا أساء فهمَ أحد الطلاب. ويعتذر في حالات أُخَر. بل لِـيسمح لي بحكي طريفة كان بطلها: في أحد الأيام، وفي وقتٍ كان منكبا على تقديم الدرس، دخلت طالبةٌ القاعةَ متأخرةً محدثةً جَـلَبَـةً. الأمر الذي شوَّش تركيزه وأعاق سلاسَته، ما دفعه إلى أن يُطلق، تعليقا على المشهد، كلمة صغيرة لم نرها نحن لا جارحة ولا مَعيبة. لكنه هو، نفسه، اعتبرها كذلك، وأنكرها على نفسه. لذا، وعند انتهاء الدرس، أرسل وراء تلك الطالبة زميلا لنا ليبلغها اعتذاره الشخصي عما بدر منه كرد فعل.
هذه هي الروح التي تسري في هذا الأستاذ الطيب والرائع، الذي نفتخر بأننا درَسنا على يديه. وقد ترك في ذمتنا دَيْنا لذيذا ومُـكثَّـفا بالمعنى.
إنه، بحق، مدرسة في البحث والتدريس والأخلاق المهنية والعامة. لقد سجَّل حضوره على امتداد أزيد من أربعين سنة تنويعةً واسعة من الفضائل تستحق أن تُدَوَّن كقِيمٍ للذاكرة وللغدِ معا. ولهذا، لا نَـعتبر، كطلاب وباحثين سابقين لدى الأستاذ، أننا بهذا اللقاء أو بهذه الكلمات نكون قد أدَّينا ما علينا من دَين، وإنما هذا أول السداد. فواجب الحِرصِ على تمثُّل ونقلِ هذه القيم سيبقى ممتدا في الزمن.
باسم مكتب المنتدى، أشكركم، السيد باينة، على تلبية الدعوة. ودمتم بصحة وعافية.

2 يونيو 2015، كلية الحقوق، أكَدال، الرباط.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق