كلمات في الفقيد الكبير عبد الهادي التازي - القلم 3000

اَخر المشاركات

القلم 3000

مدونة القلم 3000، متخصصة في قضايا الفكر والشأن العام وفن العيش.

الأحد، 19 أبريل 2015

كلمات في الفقيد الكبير عبد الهادي التازي

فؤاد بلحسن
belahcenfouad@gmail.com



لست ممن يعرفون الشيء الكثير عن السي التازي، فلم أكن لا قريبا منه ولا متابعا كبيرا له. فأنا مجرد طالب سابق له. أخذت عنه القليل من العلم لكن الكثير من المعنى. فقد أنهضني الدَّين للكتابة حوله. فهنا أقول في حقه ما شاهدته وأدركته واعتقدت أنه من الواجب التذكير به. فالتذكير عمل للغد بدرجة أساسية، غدنا المشترك الذي صنعه معنا أشخاص رحلوا وما رحلوا.
درَّسني السي عبد التازي تاريخ العلاقات الدولية للمغرب - وهل هناك خير منه لينهض، بجدارة، بهكذا مهمة؛ فهو كاتب موسوعة «التاريخ الدبلوماسي للمغرب» (عشر مجلدات) ومئات الأبحاث والمداخلات في التاريخ والسياسة!. في المدرج الكبير رقم 2، السنتين 2005-2006، كان الفقيد الكبير يدخل، بتؤدة ووقار وثقة، كأنه عارف يمشي على علو طفيف من سطح الأرض. ينثر ابتساماته هنا وهناك، لكن بصورة لا تُفقده تركيزه الشديد على منصة الدرس، على مهمته التي كان يراها كرسالة أكثر منها مهنة للعيش. وهذا كان مما يمكن استنتاجه، حينها، بسهوله.
حوالي أزيد من عقد في مدرجات الجامعة، لم أزدد إلا تأكيدا أن الرجل كان الأبهى والأجمل، كان سيد المنصة الجامعية بلا منازع. فلا أبالغ إذا قلت أن معه، ونادرا مع غيره، كان الدرس يتحول إلى خشبة مسرح، تنبجس منها مختلف أشكال الخطاب وقوالب الإلقاء وصور الفكر (شعر، سرد، أمثال، قص، نكتة، اعتراف،...). كان الفقيد يجول بنا في منعرجات التاريخ الصعبة كأنه أحد شهوده. كان يأخذنا إلى مواقف وسلوك وأدب العمل الديبلوماسي ينظر بعين ثالثة لم تتوفر لكُثر غيره كرجل مهنة سابق. كان يدخل بنا إلى اللاوعي الجمعي ليكشف لنا أثر الوقائع التاريخية الكبرى في صوغ تفكير الجماعة ووعيها كأنثروبولوجي خبير. كان يختار عباراته بعناية كأديب بليغ. دعني أقول أنه كان رشيقا كالطير، وهو الرجل الثمانيني حينها. فاستحق أن نغبطه على ما هو فيه، فكان ذلك واحدا من أهم الدروس لنا، كطلاب، في الطريق.
حدثنا عن الحرب والسلم، عن التاريخ والجغرافيا، عن بداية الدول وعن بداية الاتصال بالدول، عن الاحتلال والاستقلال، عن الدبلوماسيين والأخلاق، عن السلطان محمد الثالث وأسطوله البحري، عن علاقة البعثات الدبلوماسية بقوة الدول، عن التحضر والأخلاق السياسية، عن سبتة واحتلالها، عن العراق وظروفه الصعبة، عن الخميني والثورة الإيرانية، عن أمراء الخليج وبداية تشكل الدول هناك في الصحراء، وغيرها من المواضيع الدقيقة والحساسة في تاريخ بلدي وتاريخ منطقتنا العربية والإسلامية. 
قبل أقل من 3 سنوات من الآن، كانت آخر مرة التقيته فيها. توقعت أن تكون فرصة لأستزيد منه -كما توقع غيري. وبالفعل كانت فرصته لينثر درسا آخر وربما الأخير في كليتنا: دخل ساحة الكلية (كلية الحقوق أكَدال، بالرباط) على مهل، سار مستقيما ومرحا إلى المدرج رقم 1، عبْر المدخل الرئيسي لبناية العمادة، مصافحا، بتواضع، من استقبلوه في الطريق - كنت واحدا منهم. كانت المناسبة مناقشة لأطروحة جامعية وكان هو عضوا بلجنة المناقشة. وعلى عكس ما يفعل معظمهم، إن لم أقل جميع أعضاء هذه اللجان، كان هو يرتدي وزرة مناقشة رسمية. للوهلة الأولى، قد يبدو أمر الوزرة طبيعيا ولا يحتاج إلى الوقوف عليه، ولكن حينما يتذكر المرء أن المبادرة إلى ارتدائها جاءت، بعد انقطاع طويل لهذا التقليد داخل الكلية، من السيد عبد الهادي التازي الأستاذ والمؤرخ والباحث والديبلوماسي وعضو الأكاديمية المغربية، لن تضيع الرسالة التي أراد الفقيد أن يوصلها لكل الجامعيين في هذا الشأن؛ والمتمثلة في ضرورة وأهمية احترام تقاليد الجامعة، التي هي شرط بقائها متفردة بعيدا عن الشعبوية الزاحفة التي تلتهم كل ما هو جميل ومختلف فينا كجامعيين.
لقد بلغ التزامه بإنجاح العمل الجامعي حدودا لم أعهدها في غيره. كان يحرص، بتركيز شديد وحاسم، على جو الدرس والنقاش. حتى أنه كان يرفض أن تظهر علينا علامات الكسل. ومن الطرائف المعروفة عنه، أنه كان يستفزه تثاءب أحدهم في الفصل، حيث كان يلقي عتابا لذيذا وجميلا في حق المتثائبين. «كونوا يقظين!»، كان ذاك لسان حاله. ولعل اليقظة سر من أسراره هو بنفسه.
لست بصدد تعداد دروس الرجل في الحياة أو مجهوداته في خدمة المعرفة، فذاك أمر يزيد عما أستطيعه. ولكن أود أن أذَكر بنضاله المعرفي الطويل. فالفقيد لم يمل، لم يستسلم ولم يستأثر الراحة على البحث الدؤوب خدمة للمعرفة الجامعية والتاريخية. بقي حاضرا. فما من إطلالة له إلا وتُشكل حدثا ثقافيا يستدعي إنصات الباحثين والمؤرخين ووسائل الإعلام.
بقي الفقيد متشبثا بالأمل في التغيير، تغيير الممكن، تغيير المستقبل عبر إعادة اكتشاف الماضي والمعنى في تعدده.
كان وطنيا بامتياز، يدافع عن الدولة كدولة للجميع، وعن التاريخ كثروة مشتركة، وعن المستقبل كموضوع للتفكير المستمر.
لم نخسره، نحن كجماعة، فقط، بل خسرته «الحقيقة» كذلك، باعتباره رجلا أحب الوثيقة التاريخية وتحقيقها ودراستها وتأويلها. 
أيها الرائع، أشكرك أستاذا ومربيا...
أحببتك بلا شرط، لأنك أعطيتنا بلا قيد...
سلام عليك...
ولروحك بركات الفاتحة...

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق